مشهد إمبراطوري في البار...!! حسن خضر

الثلاثاء 24 نوفمبر 2020 10:54 ص / بتوقيت القدس +2GMT
مشهد إمبراطوري في البار...!! حسن خضر



كانت النيّة تكريس مقالة اليوم لما أود تسميته «حالة الإمارات الغريبة»، أعني دفئاً يكاد يُلمس باليدين، ويُرى بالعينين، في مواقف السكّان الأصليين في الإمارات من إسرائيل والإسرائيليين فور الإعلان عن «سلام إبراهيم»، وإشهار العلاقة الرسمية بين «الدولتين» و»الشعبين». ولكن طرأ تحوير طفيف على النيّة الأصلية، يوم أمس، بعد الاطلاع على مقالة لأحد كتّاب الرأي في يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، وكان موضوعها انفعالات وانطباعات وّلدتها زيارة المذكور لدبي.
ورغم أن انفعالات، وانطباعات، هذا الشخص، ويُدعى بن درور يميني، يمكن أن تُضاف إلى قائمة الشواهد الأصلية، التي تراكمت في الذهن للتدليل على ما نعني بدفء العلاقات، إلا أنها أضاءت زاوية مُعتمة، إلى حد ما، في العلاقة بين الإسرائيليين والإماراتيين. فإلى جانب كيف ينظر الإماراتيون إلى إسرائيل، يجب التساؤل كيف ينظر الإسرائيليون إلى الإمارات. وبهذا المعنى فإن في محاولة استكشاف هذه الزاوية المُعتمة، إضافة إلى التفكير والتدبير في «حالة الإمارات الغريبة»، ما يُسهم في إغناء تأملات شخصية في موضوع «سلام إبراهيم» بدأت منذ ربيع هذا العام، وتحوّلت إلى مشروع يكبر أسبوعاً بعد أسبوع.
نشرت يديعوت مقالة يميني يوم أوّل من أمس، الأحد، بعنوان «اكتشاف السلام في دبي» وأرفقت بالمقالة، كشواهد بصرية، أربع صور، الأولى ليميني إلى جوار امرأة إماراتية بالعباءة، والثانية لشبّان (من الوفد الإسرائيلي المُرافق على الأرجح) يقفون قرب العلمين الإسرائيلي والإماراتي، وقد صُنع كلاهما من الثمار والفواكه لتزيين بسطة للفاكهة في سوبر ماركت هناك، والثالثة لترامب ونتنياهو مع وزيري خارجيتي الإمارات والبحرين لحظة التوقيع على «سلام إبراهيم» في البيت الأبيض، والرابعة تغريدة مصوّرة لإماراتي يُدعى ثاني بن عبد الله يقول فيها إن الإسرائيليين «مثال يُحتذى»، ويُشيد بإنجازاتهم، ويقول لهم بالعبرية مازال توف (يعني حظ جيّد).
لا بأس. كل شيء تمام حتى الآن. تمثل الصور، كما نعرف، (وبما يكفي لتكدير صفو الأخ يميني) نصوصاً بصرية، أيضاً، وتتكوّن من مفردات، وعلامات، تشكل مجتمعة خطاباً اجتمع فيه المنطوق والمسكوت عنه في آن. والواقع أن ما يُحرّض على تحويل «البصري»، و»البصر» إلى مكوّن رئيس في معالجة اليوم لا يقتصر على ما جاء ذكره من الصور حتى الآن، بل يتجاوز هذا كله، ويعزز حضوره، بحقيقة أن انطباعات وانفعالات المذكور نجمت عن تجربة بصرية، أيضاً، يعني تكلّم عمّا رأى في دبي، وبما أن كل كلام عمّا نرى يمثل محاولة لتظهير صورة من نوع ما، يحق لنا الكلام عن نصه كصورة خامسة، وتذييلها بملاحظة أن الصور النصيّة، كالفوتوغرافية، تمثل خطاباً من نوع ما، ويتجلى فيها ما نطقت به، وما سكتت عنه.
والواقع، أيضاً وأيضاً، (وإذا جاز لي إسداء النصيحة) أن نص السيّد يميني يصلح كمادة إضافية، توضيحية، في أقسام الأدب، والدراسات الثقافية، وحتى في العلوم السياسية (في جامعة بيرزيت، أو ما تبقى منها، ولم لا) لا بوصفه نصاً بليغاً (فهو أبعد ما يكون عن البلاغة) بل بوصفه شهادة حيّة على خطاب الإمبراطورية في أكثر تجلياته ابتذالاً ورداءة.
وبما أننا أسلفنا الكلام عن خطابات بصرية ونصيّة، وما نطقت به، وسكتت عنه، ثمة ما يبرر الوقوف عند مشهدين بصريين الأوّل فوتوغرافي، والثاني نصي، ولكن بعد نقلة افتتاحية هي العنوان. عنوان المقالة هو: «اكتشاف السلام في دبي»، وسواء اختارت الجريدة هذا العنوان، أم اختاره الكاتب، فإن العنوان يختزل مقالة ستفقد الكثير من دلالاتها لو لم يكن «الاكتشاف» عتبتها الأولى، وعصبها الحي. ينطوي «الاكتشاف» بالمعنى الدلالي الضيّق والمجرّد على كشف المستور، سواء ما استتر عن العين، أو الذهن، وفي الحالتين، إذا تحقق «الاكتشاف»، ثمة ما يوحي بالمغامرة والفوز والإنجاز في آن. وهذه الأمور وثيقة الصلة بموضوعنا طالما أن يميني افتتح مغامرة الكشف والفوز والإنجاز بمشهد في بار.
يعرف أصحاب الاختصاص أن اختيار بماذا تبدأ النصوص، وكيف تنتهي، سواء تعلّق الأمر بالنص الروائي، أو مقالة، أو قصيدة (وهذا يصدق على الصور، والأفلام والفنون التشكيلية ..الخ) يخضع لمزيج من الخيارات الواعية واللاواعية في آن، وكلها تندرج، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالنص الكتابي، تحت عنوان استراتيجيات الكتابة. وهذا، على أي حال، موضوع سجالات لا تنتهي في علوم الأدب منذ أفسد ميشيل فوكو زعم البراءة، وطمأنينة الخطاب، وبيّن أن ثمة طبقات جيولوجية للمعنى، وأن ثمة علاقة بين «السلطة» و»المعرفة» و»الإنشاء» (بلغة حبيبنا إدوارد سعيد).
قلنا إن يميني افتتح مغامرة «الكشف» بمشهد في بار. وفي سياق كهذا يمثل البار بديكوراته المُتخيّلة، وزبائنه، ناهيك عن أضواء خافتة، وموسيقى ناعمة، ودلالة وجود «مُحرّماته» في «دولة إسلامية»، وكيف يمكن أن يبدأ «الإسرائيلي» هناك: كأوروبي مُحتمل، ومُفتعل، رحلة الكشف والاستكشاف الإمبراطوريين، من البار لا من المقهى ولا من الحارة الشرقيين، فلا وجود في الإمارات لهذا وتلك، وليس في القاهرة، ولا عمّان، وفي كلتيهما حارات شرقية ومقاه لا تحصى ما يمكن أن يمنحه إحساساً إمبراطورياً، ولا حتى في رام الله أو الناصرة، ففي كلتيهما سيمشي متوجساً، رغم تمتعه بالسيادة القانونية الكاملة في الثانية، والسيادة بالسلاح في الأولى، وفي كلتيهما سينتابه ذلك الإحساس المُعذّب بالغيرية، والخوف من المكان. وإن لم يكن الأخ يمني قد قرأ «ميخائيلي» لعاموس عوز ربما حان الوقت الآن.
كيف بدأت الرحلة، وبمَنْ التقى، ولماذا نعتقد أن المشهد الافتتاحي إمبراطوري، رديء ومُفتعل، نتأمل هذا بعد أسبوع. فاصل ونواصل.