صدرت هذه الورقة عن لجنة السياسات في مركز مسارات من إعداد الباحث رازي نابلسي.
مقدمة
لم يكُن عهد الرئيس الأميركيّ المُنتهية ولايته، دونالد ترامب، عاديّة بالنسبة إلى إسرائيل كمُجتمع ونخب سياسيّة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الانتخابات الأميركيّة ذاتها، فهي من جهة جعلت من السؤال الإسرائيليّ حول مستقبل العلاقة مع الحزب الديمقراطيّ واقعًا ملموسًا، وأخرجته من دوائر التفكير السياسيّ في مراكز الأبحاث والإعلام إلى حيّز التطبيق كسيناريو أمر واقع قد تحقّق. ومن جهة أخرى، شكّل فوز جو بايدن، بالأساس، صفعة لليمين الدينيّ والقوميّ في إسرائيل، الذي شعر خلال ولاية ترامب أن حلمه بالقضاء على القيادة والقضيّة الفلسطينيّة بات أقرب من أي وقت مضى، وأن شرعنة المشروع الاستيطانيّ في الضفّة الغربيّة بات في حكم الأمر الواقع وبدعم من أكبر قوّة عظمى. ومن هُنا، تُشتق أهميّة هذه الانتخابات تحديدًا.
تُشكّل خسارة ترامب، بالنسبة إلى إسرائيل، نوعًا من القفز في المجهول على صعيدين مهمّين: أولًا على الصعيد السياسيّ، حيث مستقبل العلاقة مع الحزب الديمقراطيّ، خاصة بعد انحياز رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الكلّي إلى الجمهوريين وترامب؛ وثانيًا، على الصعيد الشعبيّ، حيث السؤال حول مستقبل "هدايا" ترامب الكثيرة، والرصيد المفتوح الذي منحه للمُجتمع الاستعماريّ في إسرائيل عمومًا، واليمين خصوصًا. وهو ما يفسّر، تعبير 17% من المُجتمع الإسرائيليّ عن رغبته في إعادة انتخاب ترامب مرّة أخرى[1]، بسبب الدعم غير المسبوق للطموحات الاستعماريّة والهوس الدينيّ بقتل الوجود "غير اليهوديّ" على "أرض إسرائيل"، كما يسمّينا ويُسمّيها اليمين الإسرائيليّ بشقّيه الدينيّ والقوميّ.
وفي هذا السياق، ستعمل الورقة على قراءة نتائج الانتخابات الأميركيّة، وإسقاطاتها بالنسبة إلى إسرائيل خاصة، والصراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ عمومًا. وستنقسم إلى أجزاء عدّة، تبدأ بإسقاطات فترة ولاية ترامب والعلاقة مع نتنياهو على العلاقة الإسرائيليّة مع الحزب الديمقراطيّ، وإسقاطات خسارة ترامب ووجود الحزب الديمقراطيّ في الحكم على الساحة الداخليّة السياسيّة في إسرائيل. وبعدها، ستحاول الورقة استعراض القضايا التي ستكون مهمّة خلال فترة ما بعد ترامب بالنسبة إلى إسرائيل، خاصة الملفين الإيراني والفلسطينيّ، وفي الختام، ستحاول الورقة استشراف شكل إدارة الصراع خلال إدارة بايدن، على الرغم من عدم وضوح شكل تعاطي الإدارة الجديدة مع الصراع الفلسطينيّ - الإسرائيليّ.
كما ستحاول الورقة توقّع الخطوات التي ستدفع بها هذه الإدارة التي تختلف عن إدارة ترامب، استنادًا إلى إرث الحزب الديمقراطيّ وتاريخ بايدن ذاته خلال وجوده في منصب نائب الرئيس خلال ولاية باراك أوباما. وليس اعتباطًا، الإشارة إلى شكل إدارة الصراع وليس حلّه، إذ لا تتوقّع الورقة أن تضغط الإدارة الأميركيّة على إسرائيل لأخذ خطوات جذريّة لحل الصراع، رغم أن إسرائيل تعمل على الأرض لحسمه ميدانيًا وجغرافيًا. إنّما يتوقّع أن تضعط باتجاه جولات تفاوضيّة دون وضع خطّة لحل نهائيّ للصراع، خاصة في ظل توجّه إسرائيليّ عام نحو اليمين الدينيّ، ما يرجّح أن تكون الفترة المُقبلة أقرب إلى اختلاف في شكل إدارة الصراع ووتيرته، دون تغيير جذريّ على الظروف في الضفّة.
بين مصلحة إسرائيل ومصلحة اليمين الإسرائيلي
لطالما اعتُبرت إسرائيل الطفل المُدلّل في الولايات المُتحدة، والولاية غير الرسميّة. وأيضًا، لطالما اعتُبرت إسرائيل محل إجماع بين الحزبين الديمقراطيّ والجمهوريّ في الولايات المُحتدة. وفي الحقيقة، فإن هذه المعادلة بدأت تتغيّر تحديدًا منذ ولاية أوباما الثانية، وبرزت بقوّة في الخلاف مع نتنياهو، حينما تخطّى أوباما، وتوجّه إلى الكونغرس بهدف إلقاء خطاب ضد الاتفاق النووي، الذي اعتبره أوباما الإنجاز الأهم خلال ولايته الثانية.[2]
وفي المُقابل، تميّزت فترة أوباما بالعلاقة المتوتّرة مع حكومة نتنياهو بكُل ما يخص الاستيطان في الضفّة الغربيّة والرفض الإسرائيليّ غير الرسميّ لخطّة جون كيري، وزير الخارجية الأميركي حينها. وباختصار، اختلف نتنياهو مع إدارة أوباما الديمقراطيّة حول قضيّتين أساسيّتين: الاتفاق النوويّ الإيرانيّ، الذي انسحب منه ترامب لاحقًا بضغط من نتنياهو وإسرائيل؛ والاستيطان الذي لطالما اعتبرته إدارة أوباما عقبة أمام تحقيق "حل الدولتين"، وامتنعت خلال نهاية ولايتها عن استخدام حق الفيتو ضد القرار رقم 2334، الذي اعتبر الاستيطان في الضفّة الغربيّة غير شرعيّ. هذان الملفّان شكلا سويًا الأساس الذي بُني عليه التوتّر الذي كان قائمًا ما بين الحكومة الإسرائيليّة والإدارة الأميركيّة خلال وجود أوباما داخل البيت الأبيض. وهُنا، من المهم الإشارة إلى أنّهما ذات الملفّين اللذين تتوقّع النخب الإعلاميّة والسياسيّة الإسرائيليّة، عن أنّهما سيشكّلان التحدّي المُقبل بالنسبة إلى الحكومة الإسرائيليّة ما بعد خسارة ترامب.[3]
في الملفين، الفلسطينيّ والإيرانيّ، دفع نتنياهو ترامب إلى التراجع عن قرارات إدارة أوباما الديمقراطيّة. فمن جهة، ضغط على ترامب للانسحاب من الاتفاق النووي، واعتبر أن الانسحاب من الاتفاق النووي إنجازًا سياسيًا يعود إليه وإلى سياسته التي بدأت منذ التفافه على أوباما والذهاب إلى الكونغرس؛ ومن جهة أخرى، دفع أيضًا بترامب إلى عدم الالتزام بحل الدولتين، والتصريح بأن المستوطنات لا تشكّل عائقًا أمام تحقيق السلام.
كما شكّلت "صفقة القرن"، الإشارة إلى التغيير في الموقف الأميركيّ من الملف الفلسطيني، إذ شرعنت عمليًا كافة المستوطنات والسياسات الاستعماريّة التي قامت بها إسرائيل في الضفّة، يُضاف إليها القدس كعاصمة إسرائيليّة وقضيّة اللاجئين. وهو ما شكّل في الحقيقة انتصارًا لسياسة نتنياهو واليمين الدينيّ في إسرائيل، خاصة ما بعد اتفاق التطبيع مع الإمارات الذي اعتبره نتنياهو التطبيق الفعليّ لرؤيته بفصل مسار العلاقة مع العرب عن حل الصراع الفلسطينيّ. ولهذا كتب مردخاي كيدار، الباحث اليمينّي المتطرّف، مقالة في صحيفة "ماكور ريشون"، تحت عنوان "في الملف الإيرانيّ، على إسرائيل التنازل عن السيادة"[4]، في إشارة إلى أن على إسرائيل ترتيب أولويّاتها بما يخص الملفين، الأساسيين والإشكاليين في العلاقة مع الإدارة الديمقراطيّة: إيران وفلسطين.
شكّل الخلاف مع أوباما وإدارته، وما تبعه من اتّفاق وشبه توأمة ما بين إدارة ترامب والحكومة الإسرائيليّة، إشارة إلى أن الإجماع الحزبيّ الأميركيّ على إسرائيل بدأ يتخلخل بسبب سياسات نتنياهو. فالعداء الكبير الذي وصل حد الالتفاف على البيت الأبيض خلال عهد أوباما، والتوافق أو بصورة أدق الإدارة المشتركة خلال ولاية ترامب، فتح الباب أمام سؤال شغل النخب الإسرائيليّة طيلة ولاية ترامب تحت عنوان: ما شكل العلاقة مع الحزب الديمقراطيّ ما بعد ترامب؟ وبصورة أدق، هل قام نتنياهو بكسر الإجماع على إسرائيل في السياسة الأميركيّة الداخليّة عبر حسم ذاته على حزب معيّن؟ هذا هو السؤال الحقيقيّ الذي يُطرح الآن إسرائيليًا في عهد ما بعد ترامب: هل ذهب نتنياهو بإسرائيل لتكون جزءًا من الخلافات الداخليّة الأميركيّة وحسمها على معسكر من المعسكرين؟ وهذا ليس سؤالًا هامشيًا، خاصّة عند قراءة الخارطة السياسيّة الإسرائيليّة الداخليّة التي لا تكف عن الانزياح يمينًا خلال العقدين الأخيرين.
وفي الحقيقة، لا تتفق الورقة مع هذا الطرح الإعلاميّ الإسرائيليّ، وترى أن ما قام به نتنياهو فعليًا، هو نقل التحالف اليمينيّ الأميركيّ واليمينيّ الإسرائيليّ إلى مستوى جديد كليًا، بات فيه اليمينون في صراع مع الحزب الديمقراطيّ الأميركيّ والنُخب القديمة في إسرائيل. فعلى الرغم من ادّعاء النخب الإعلاميّة والفكريّة الإسرائيليّة أن نتنياهو كسر الإجماع حول إسرائيل بتحالفه مع ترامب، إلّا أن الحقيقة تدل على وجود خلاف داخل النُخب الأميركيّة والإسرائيليّة على مفهوم "مصلحة إسرائيل": هل مصالح اليمين في إسرائيل ونتنياهو هي ذاتها مصلحة إسرائيل؟ ومن هذا الباب فقط، يمكن فهم المساعدات العسكريّة الأكبر تاريخيًا لإسرائيل في عهد أوباما، وادّعاء بايدن بالصهيونيّة، والخلاف في ذات الوقت. إنّه بصورة أدق، الانعكاس للخلافات على مفهوم "مصلحة إسرائيل": ترى النخب القديمة والحزب الديمقراطيّ مصلحة إسرائيل بقدرتها على البقاء يهوديّة وديمقراطيّة عبر الإبقاء على الفلسطينيّ خارج النظام السياسيّ والدولة بالمفهوم القانونيّ، والذهاب معه إلى شبه اتفاق يضمن سيطرة إسرائيل الأمنيّة على فلسطين التاريخيّة، وعدم سيطرتها على السكّان، بل ومنحهم نوعًا من أنواع الحكم الذاتيّ. أما اليمين فيرى مصلحة إسرائيل في القتل الكلّي والصريح للقوميّة الفلسطينيّة برمّتها، وتحويل الفلسطينيّ إلى مقيم على "أرض إسرائيل الكبرى"، وهو ما ترى النخب القديمة والحزب الديمقراطيّ إلى حد ما، أنّه سيضع إسرائيل على مفترق طرق: إما دولة ثنائيّة القوميّة على المدى البعيد؛ وإمّا دولة أبرتهايد.
هذا هو السؤال الذي أجاب عنه عاموس هوخشطين، المستشار السابق لبايدن، في مُقابلة أجراها مع القناة الإسرائيليّة الثانية عشرة، حين سألته المُذيعة عن مستقبل العلاقة مع إسرائيل، فأجاب: الرئيس المُنتخب يريد مصلحة إسرائيل، ويرى في حل الدولتين الحل الأفضل.[5] وهذا ما من شأنه أن يُفسّر مُعطيات عدّة متضاربة خلال الانتخابات: المُجتمع الإسرائيلي في غالبيّته العظمى يميني، وينتقل ما بين اليمين الدينيّ واليمين القوميّ، ويرفض حل الدولتين، ويسعى للقضاء على القضيّة الفلسطينيّة وتصفيتها، لذلك أراد 71% من الإسرائيليين فوز ترامب في الانتخابات الأميركيّة؛ ودعم قُرابة 77% من اليهود في أميركا بايدن للرئاسة[6]، وهم في غالبيّتهم العظمى يدعمون الحزب الديمقراطيّ ولا يُريدون اليمين الإسرائيليّ في الحكم، ويرون أن انزياح إسرائيل المُستمر نحو اليمين بمنزلة دفع باتجاه دولة واحدة لن تستطيع إسرائيل فيها البقاء يهوديّة وديمقراطيّة، وهو انعكاس واضح لذات الصراع الداخلي إسرائيليًا الذي حسمه اليمين.
ومن هُنا، يُشتق الخلاف الأساسيّ، الذي تضاف إليه الخلافات التاريخيّة ما بين يهود الولايات المُتحدة واليمين الإسرائيليّ، حول علاقة الدين والدولة في إسرائيل، ورؤية يهود الولايات المُتحدة لإسرائيل كدولة يهوديّة، ولكنّها في ذات الوقت علمانيّة الحيّز العام، وتتبنّى القيم الليبراليّة التي يؤمنون بها. ومن هُنا أيضًا، يُشتق الخلاف حول تمويل المؤسسات اليهوديّة الأميركيّة للأحزاب والبُنى التي تطالب باستبدال نتنياهو كُل انتخابات إسرائيليّة جديدة، كان آخرها وأبرزها مجموعة "V 15" وهي جمعية شجّعت التصويت في أوساط الفلسطينيين داخل أراضي 1948، كما اليهود، بهدف رفع نسبة التصويت واستبدال نتنياهو. إنّه ذات الصراع الإسرائيليّ الداخليّ حول الطريقة الأمثل لقتل الأمل الفلسطينيّ: هل الأمل بدولة يدفع إلى المُقاومة كما يقول نتنياهو وسعى خلال فترة ولاية ترامب؛ أم أن الأمل يؤدّي إلى الانفصال بعيد المدى عن الفلسطينيّ ويضمن استمراريّة وجود إسرائيل. وطبعًا، هذا يتم وفق إجماع كبير جدًا، على جوهر إسرائيل ووجودها كدولة يهوديّة.
نتائج الانتخابات الأميركيّة والسياسة الإسرائيليّة
يأتي هذا التغيير في الإدارة الأميركيّة بظروف مُختلفة إسرائيليًا داخليًا، في المجال السياسيّ خاصة، عن رؤية الحزب الديمقراطيّ لشكل إدارة الصراع الفلسطينيّ - الإسرائيليّ. فما يطرحه الحزب الديمقراطيّ عمليًا، من مُفاوضات وعمليّة سياسيّة تفضي في نهاية المطاف إلى شكل من أشكال الاتفاق على إدارة الصراع، ووفق فهم الحزب الديمقراطيّ وإسرائيل ونُخبها القديمة، وفي مُقدّمتها "حزب العمل"، بات اليوم في عداد المستحيل وفق حسابات السياسة الداخليّة الإسرائيليّة وأقطابها. فعلى الرغم من أن الحزب الديمقراطيّ وبقايا "حزب العمل" الإسرائيليّ أرادا مأسسة وشرعنة "أوسلو" والاتفاقيّات الواردة فيه، وفق قواعد مُحدّدة، منها إبقاء السيطرة الإسرائيليّة على غور الأردن، كما حريّة العمل للجيش الإسرائيليّ وقت الحاجة في كافة مناطق الضفّة الغربيّة، وتعزيز التنسيق الأمنيّ، وقبول "دولة" فلسطينة دون سيادة ودون سيطرة على الحدود والمعابر، إلّا أن السياسة الإسرائيليّة والمُجتمع الإسرائيلي تخطّا هذا الطرح. فالسياسة الإسرائيليّة اليوم، تنتقل ما بين اليمين القوميّ المؤمن بنظريّة الجدار الحديديّ والقوّة كأداة وحيدة وواحدة للتعامل مع الفلسطينيين، واليمين الدينيّ الذي يرى في أرض "إسرائيل الكُبرى" الطموح، وجميع من يسكنها من غير اليهود في عداد الأغيار. وهذا، ما يجعل من تعاطي الحكومة الإسرائيليّة مع ولاية بايدن، تكون أقرب إلى ولاية "أوباما" التي استطاع خلالها نتنياهو التهرّب مرّة تلو الأخرى من إجراء المفاوضات، وعمل على تعزيز الاستيطان بشكل أقل عدوانيّة وأقل علنيّة، منها إلى ولاية كلينتون وغيره من الرؤساء الذين نجحوا إلى حد ما، بسبب وجود "حزب العمل" في السياسة الإسرائيليّة، في إنشاء نوع من أنواع الحوار، ولو دون الوصول إلى أي حل نهائيّ.
شكّل طرح "صفقة القرن"، وعلى الرغم من تماهيها الكامل مع نتائج سياسات السلب والنهب الاستعماريّة الإسرائيليّة في الضفّة الغربيّة، صورة واضحة لشكل وبنية الخارطة السياسيّة في إسرائيل.[7] فقيام مجموعات ضاغطة في السياسة الإسرائيليّة، ولوبيهات يمينيّة، كما أعضاء في الحزب الحاكم "الليكود"، برفض الصفقة بسبب وجود مقولة "دولة فلسطينيّة" فيها، يؤشّر إلى المزاج العام داخل السياسة. كما ويشكّل ارتفاع وزن "يمينا" بزعامة نفتالي بينيت، بحسب الاستطلاعات الأخيرة، عامل تعزيز للشريحة الأيديولوجيّة التي رفضت الصفقة، وترفض أي تعاطٍ أو اعتراف بأحقيّة الشعب الفلسطينيّ في تقرير مصيره السياسيّ على أي بُقعة مما يُطلقون عليها "أرض إسرائيل". وهو ما يعني بكلمات أكثر وضوحًا، أنّه وبحسب الاستطلاعات، فإن الحكومة الإسرائيليّة المُقبلة ستكون أكثر يمينيّة من الحكومة الحاليّة، ما يضعنا أمام سيناريو مرجّح سيدفع الحزب الديمقراطيّ فيه إلى إجراء حوار فلسطينيّ - إسرائيليّ، ولن يجد آذانًا صاغيّة، أو وفودًا حاضرة، في السياسة الإسرائيليّة الداخليّة. وهو ما يذكّر إلى حد بعيد جدًا، بمصير خطّة كيري، التي ماطل نتنياهو طويلًا فيها حتّى اختفت مع انتهاء ولاية أوباما.
باختصار، يتوقّع أن تضغط إدارة بايدن باتجاه حوار، ولكن العقبة ستكون في إسرائيل ذاتها، التي دعم بحسب الاستطلاعات 71% من مُجمل المستطلعين في مُجتمعها ترامب، و85% من الجمهور اليمينيّ فيها، مقابل 18% فقط أرادوا فوز بايدن، كما أن تراجع نتنياهو في الاستطلاعات يعود بالفائدة على من هو في يمين نتنياهو، نفتالي بينيت، الذي يتوقّع أن يكون القوّة الثانية في الكنيست المُقبل.[8] وهذا دون، وقبل، الحديث عن ترسيم حدود أو حتّى تقسيم أراضٍ. فالنظام السياسيّ الذي ينزع حق تقرير المصير السياسيّ عن الشعب الفلسطينيّ كما حصل في قانون القوميّة، يعمل اليوم على آليّات مُحاربة بايدن في الملف الفلسطينيّ، كما صرّح بتسلئيل سموتريتش، العضو المؤثّر في ائتلاف "يمينا"، ووزير المواصلات السابق.
أمّا على الصعيد الداخليّ، فإن نتائج الانتخابات الأميركيّة من شأنها أن تُعزّز فُرص نتنياهو، خاصة أنّه من الممكن أن يتبنّى خطابًا يعتمد على تصدّيه لإدارة أوباما سابقًا يقول فيه بطريقة، أو بأخرى، إنه الوحيد القادر على المناورة أمام إدارة أميركيّة ستضغط ليلًا نهارًا على الحكومة الإسرائيليّة المُقبلة للتنازل عن أراضٍ أو عقد اتفاقيّات مع القيادة الفلسطينيّة، وميول المُجتمع الإسرائيلي تجاه ترامب تُدلّل على ميولها تجاه نتنياهو ذاته. وبالتالي، من المتوقّع أن يُعزّز فوز بايدن موقف نتنياهو الذي يطرح ذاته بأنه "مستوى آخر" خاصة على الساحة الدوليّة. وفي ظل مُجتمع متطرّف يمينيّ، ستكون أمام نتنياهو الفُرصة لطرح ذاته كالأكثر جدارة بقيادة دفّة المشروع الاستيطانيّ، خاصة في ظل إدارة "عدوانيّة" مع اليمين الإسرائيليّ، وهذا ما يُضاف إليه أيضًا عدم وجود بديل سياسيّ مُتماسك ومتجذّر في السياسة الإسرائيليّة لنتنياهو. بل وعلى العكس، المستقبل وبديل نتنياهو يبدو أكثر يمينيّة من نتنياهو ذاته.
وفي المُقابل، لا يُمكن التكهّن نهائيًا بنجاح خطّة نتنياهو وحملته إن كانت مبنية على هذا الخطاب، خاصة في ظل وضع داخليّ إسرائيليّ مركّب ومُنهار على أصعدة عدّة بسبب انتشار وباء كورونا، اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا. وأيضًا، لا يُمكن إلغاء احتمال تشكيل بديل سياسيّ قبل الانتخابات، يطرح ذاته وكأنّه امتداد للانتصار الديمقراطيّ في الولايات المُتحدة، وليس عشوائيًا أن تصدر مقالات عدّة في صحيفة "هآرتس" اليساريّة، تدعو للتعلّم من هزيمة ترامب في السياسة الإسرائيليّة الداخليّة. وكما يُقال، في إسرائيل لا أحد ينتصر في الانتخابات، هُناك فقط من يخسر الانتخابات. وهُنا، يأتي السؤال حول مستقبل نتنياهو، وليس مستقبل اليمين الذي تجذّر بصورة بات بينيت البديل المطروح مكان نتنياهو اليوم بحسب الاستطلاعات.
بايدن والصراع: سيناريوهات لمُجريات الأمور
رحّبت القيادة الفلسطينيّة بالنتائج الأميركيّة، كما كانت أيضًا تُرحّب، بل تساند في أحيان أخرى، من خلال الضغط على الفلسطينيين الذين يشاركون في الانتخابات الإسرائيليّة، لصعود قوى المركز الإسرائيليّ وتبديل نتنياهو، بهدف العودة إلى مسار المُفاوضات والعمليّة السياسيّة، خاصة أنّه من المرجّح ألا تقدم الحكومة الإسرائيليّة على الضم القانونيّ، رغم استمرارها بتطبيق الضم فعليًا على الأرض. وعلى الرغم من أن السياسة الإسرائيليّة، كما الوقائع الاستعماريّة، تُدلّل على أن إسرائيل غير معنيّة بحل، بل تعمل ليلًا نهارًا على فرض وقائع ماديّة على الأرض تقوّض أي حل وأي إمكانيّة لإقامة دولة فلسطينيّة متواصلة وذات سيادة، إلّا أن القيادة الفلسطينيّة لا تزال متمسكة بالمسار السياسيّ، مع أنه لن يفضي كمسار سياسيّ، دون مقاومة وتمكين وإرادة، إلى أي حل عادل للشعب الفلسطينيّ.
والسؤال الأساسيّ في هذا السياق: هل ستقبل القيادة الفلسطينيّة باحتكار أميركيّ لقيادة العمليّة السياسيّة؟ ومن هذا المبدأ، ستعمل الورقة على رصد ثلاثة سيناريوهات ترى أنّها ممكنة خلال إدارة بايدن والديمقراطيين:
السيناريو الأول: مسار سياسيّ غير مُباشر وتبادل وفود دون الوصول إلى اتفاق
يقوم هذا السيناريو على قيام الإدارة الأميركيّة بإرسال وفود إلى المنطقة، ووضع فريق يعمل على تبديل مسودّات وتعديلات وفق خطّة أوليّة يطرحها على الطرفين دون إجراء مفاوضات مُباشرة ما بين القيادة الفلسطينيّة وقيادة دولة الاحتلال الإسرائيليّ. وفي هذا السيناريو، لا يتقدّم الطرفان إلى مفاوضات مباشرة، بل تبقى العمليّة السياسيّة في إطار تبادل وفود وجلسات طويلة ومُنهكة، دون الوصول إلى أي اتفاق على أي خطوط عريضة. كما من المتوقع في هذا السيناريو أن تطالب الإدارة الأميركيّة الحكومة الإسرائيليّة بتجميد الاستيطان، أو تخفيف وتيرته وحدّته، والتوقّف عن خطّة الضم التي كان من المتوقّع أن يدفع بها نتنياهو خلال إدارة ترامب.
وعلى الرغم من أن هذا السيناريو لن يفضي إلى شيء يُذكر، إلّا أن الورقة تتوقّع أن ترحّب القيادة الفلسطينيّة به، وتسير معه كما حصل مع مُبادرة جون كيري. أمّا بما يخُص الاحتكار الأميركيّ للعمليّة السياسيّة، فتتوقّع الورقة أن تتراجع السُلطة عن موقفها، وتقبل أن تكون أميركا راعيًا حصريًّا للمُفاوضات، مع احتمال توسيعها لتكون الرباعية الدوليّة هي الإطار العام للعمليّة السياسيّة، ولكن تستبعد الورقة بالأساس أن تكون هذه القضيّة عقبة حقيقيّة تضعها القيادة الفلسطينيّة أمام إعادة المسار السياسيّ، خاصة أن الموقف السابق قد يبدو أنه اتّخذ بسبب وجود ترامب وانحيازه ليس لإسرائيل، إنّما لليمين في إسرائيل.
كما يتوقّع في هذا السيناريو إعادة فتح مكتب منظّمة التحرير في واشنطن، وإعادة المساعدات الأميركيّة قبل السعي إلى ترتيب وفود والعمل على استعادة الإطار السياسيّ.
احتمال هذا السيناريو هو الأعلى من بين السيناريوهات، خاصة أنّه يتماشى مع الساحة الإسرائيليّة الداخليّة، وأيضًا مع التجربة خلال وجود إدارة أوباما في البيت الأبيض. وإن كان هذا السيناريو المرجّح استنادًا إلى تجربة إدارة أوباما، فإنّه الآن أكثر ترجيحًا لحقيقة أن الخارطة السياسيّة الإسرائيليّة باتت اليوم أكثر يمينيّة مما كانت عليه سابقًا. وهذا، ما يُضاف إليه حقيقة وجود وباء كورونا في الخلفيّة، وانشغال الإدارة الأميركيّة المُتوقّع في احتواء الوباء، والنتائج الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة الناجمة عنه في الولايات المُتحدة والعالم عمومًا. ولذلك، من غير المتوقّع أن تضغط الإدارة الأميركيّة كثيرًا على الحكومة الإسرائيليّة للتقدّم في هذه الجولات، خاصة أنّها ستضغط في الملف الإيرانيّ.
أمّا ما يزيد من احتماليّة تحقيق هذا السيناريو، فهو سلوك السُلطة الفلسطينيّة السياسيّ، إذ بدأت تقدّم التنازلات دون أي تحفّظات تُذكر، ما سيدفع إلى جولات وجولات بالإضافة إلى المزيد من التنازلات، دون أي تغيير جذريّ على الصراع.
السيناريو الثاني: السيناريو الأول يضاف إليه مفاوضات مُباشرة
يقوم هذا السيناريو على إمكانيّة أن تضغط الإدارة الأميركيّة على الحكومة الإسرائيليّة، للانتقال من مرحلة الوفود والمفاوضات غير المُباشرة إلى إجراء حوار مُباشر، أو لقاءات ما بين وفود إسرائيليّة وأخرى فلسطينيّة علنية تستضيفها الولايات المُتحدة. وفي هذا السيناريو، من المتوقّع إجراء لقاء ما بين رئيس الحكومة الإسرائيليّة والرئيس الفلسطينيّ. وليس بالضرورة، أن يصل الطرفان إلى أي حل ما بينهما، وسيكون هذا اللقاء محصورًا بإرضاء الإدارة الأميركيّة من قبل الجانب الإسرائيليّ على الأقل، يرافقه تمويه ومماطلة سياسيّة مستمرة على التفاصيل، الهدف منها تمرير فترة وجود الإدارة الأميركيّة الديمقراطيّة في البيت الأبيض، على أمل وصول رئيس جمهوريّ أو عوامل خارجيّة تسمح لإسرائيل باستكمال ما بدأه ترامب خلال ولايته.
إن العامل المؤثّر عمليًا في هذا السيناريو هو حجم الضغوط التي ستُمارسها الإدارة الأميركيّة، وحجم التنازلات التي ستقدّمها القيادة الفلسطينيّة لأجل المُباشرة في المُفاوضات، أو بصورة أدق عدم المُطالبة بشيء لأجل البدء في مُفاوضات مُباشرة، وهو ما سيصعّب على الحكومة الإسرائيليّة رفض إجراء جولة أو اثنتين من المُفاوضات التي لن تصل باعتقادي إلى أي اتفاق يُذكر في الحقيقة.
إمكانيّة تحقيق هذا السيناريو متوسّطة، وهو يتعلّق إلى حد كبير بمسار السيناريو الأول وبكيفيّة سير جهود الإدارة الأميركيّة.
السيناريو الثالث: اختراق عربيّ فلسطينيّ - إسرائيليّ
يقوم هذا السيناريو على حصول اختراق كبير في المفاوضات، يرافقه تطبيع عربيّ- إسرائيليّ خلال المفاوضات أو ما بعدها، وكذلك على تجاوب الحكومة الإسرائيليّة ووجود إرادة لديها للتقدّم على طريق حل الصراع.
إمكانيّة تحقّق هذا السيناريو ضئيلة جدًا، خاصة أن السياسة الإسرائيليّة تتجه عكس السيناريو، ولديها إرادة لحسم الصراع لصالحها، وليس إدارته من جديد بالشكل القديم، أو حلّه نهائيًا. ومن المهم الإشارة إلى أنّه وفي ظل هذا السيناريو، من الممكن أن يحصل الشق الخاص بالتطبيع دون علاقة بمسار المفاوضات الفلسطينيّة – الإسرائيليّة كما حصل مع الإمارات والبحرين والسودان.
في المُجمل، لا تتوقّع الورقة حصول اختراق كبير في المُفاوضات أو العمليّة السياسيّة، وذلك لأسباب عدّة: أولهما، أولويات الإدارة الأميركيّة الجيدة، التي تشمل وفق دراسة لمعهد راند العلاقات التجارية مع الصين والملف الإيراني وفيروس كورونا؛ وثانيها، عدم وجود شريك لأي عمليّة سياسيّة في السياسة الإسرائيليّة؛ وثالثها، وهو الأهم، حقيقة أن العمليّة السياسيّة دون مُقاومة ودون حالة سياسيّة كفاحيّة، لن تُرغم ولن تدفع إسرائيل إلى تقديم أي تنازل للقيادة الفلسطينيّة.
الهوامش
[1] استطلاع واسع: العالم يكره ترامب، إسرائيل تدعمه، موقع "واينت"، 8/1/2020: bit.ly/3fmoksp
[2] نتنياهو: إن فُرض على إسرائيل محاربة إيران وحيدة ستفعل، صحيفة "معاريف"، 3/3/2020: bit.ly/38Zr4L7
[3] إسرائيل "قلقة" حيال سياسة محتملة لبايدن تجاه الفلسطينيين وإيران، عرب 48، 17/11/2020: bit.ly/38UHHr8
[4] مردخاي كيدار، في الملف الإيرانيّ، على إسرائيل التنازل عن السيادة، "ماكور ريشون"، 9/11/2020: bit.ly/35IFxsOkf
[5] يمكن مشاهدة المقابلة كاملة عبر صفحة الصحافيّة يونيت ليفي على موقع تويتر، 8/11/2020: bit.ly/2UAxI1F
[6] استطلاع: 75% من يهود الولايات المُتحدة يدعمون بايدن؛ 77% غير راضين عن أداء ترامب، موقع "غلوبز" الملحق الاقتصادي لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، 19/10/2020: bit.ly/3lHvDgv
[7] للتوسّع، انظر: رازي نابلسي، عن الضم إسرائيليًا: على ماذا الخلاف؟"، موقع حبر، 19/7/2020: bit.ly/2UCVsT0
[8] استطلاع: الليكود 28 مقعدًا والمشتركة 13، عرب 48، 7/11/2020: bit.ly/3kEWBnt