لن ينفع تكميم الافواه… اعتقال نزار بنات من جديد..نادية عصام حرحش

الإثنين 23 نوفمبر 2020 09:12 ص / بتوقيت القدس +2GMT
لن ينفع تكميم الافواه… اعتقال نزار بنات من جديد..نادية عصام حرحش



اختطاف الناشط نزار بنات من منزله فجرا قبل أيام.. هذه المرة لم تكتف الاجهزة الأمنية الفلسطينية بزجه بغرف التحقيق في مدينته دورا. ولكن ترحيله الى أريحا حيث ما يسمى باللجنة الامنية المشتركة، في اماكن خصصت للتعذيب والترهيب وتلقين المواطن دروسا بكيفية الانصياع والخنوع وتكميم الافواه عنوة.

حرية التعبير في بلادنا صارت إمّا مطاردة أو معتقلة أو مقتولة… واليوم حرية التعبير “تحتلنت” أساليب السلطة الفلسطينية في قمعها، وصار عقاب من يتجرأ على البوح والتعبير هو التحويل الى ما يعرف بغوانتانامو السلطة أو مسلخ السلطة
تصر السلطة ان تجعلنا نعيش ما قرأناه في كتابات الآن هنا شرق المتوسط(عبد الرحمن منيف) وذائقة الموت( ايمن العتوم ) والسجينة ( مليكة اوفقير) وجوانتانامو (يوسف زيدان ) . تريد السلطة ان يكون لها نصيب في الوجدان القمعي العربي ، وكأن تقارير امنستي واللجنة المستقلة لحقوق الانسان ومطالبات نقابة المحامين عن انتهاكات السلطة لم تكن مؤثرة بِنَا بما فيه الكفاية . تصر السلطة على حتلنة اعداداتها ببسط يدها باضطهاد الى جانب الفساد المستشري ، وتصر إلّا أن تنافس الاحتلال باساليبه بالزنازين والاعتقالات من سحل وتعذيب وأساليب مرعبة في التحقيق لتقف مع انظمة العرب في تنافس شبيه.
كيف اوصلتنا السلطة الى هنا؟
اوصلتنا الى مرحلة صار الاحتلال بها واقع نتعايش معه،، واكثر رحمة بالفعل امام الحقيقة الكارثية التي علينا ان نتعامل معها مع كل دقيقة وسط حياة تحت سلطة مضطهدة استبدادية قامعة فاسدة.
قبل عشرين عام، كانت العبارات التي يطلقها الناس ضد الفساد، تبدو وكأنها رفاهية لفئة من المثقفين، وكعادتنا كنا منغمسين ببناء سلطة وإعطاء هذه السلطة فرصة، وكان لسان الحال الا يكفي هذه السلطة تحدي الاحتلال؟ قبل حتى يوم واحد، كانت وقفات الناس الاحتجاجية .ومطالباتهم ونداءاتهم من اجل المعتقلين والمعتقلات في سجون الاحتلال
اليوم وبعد أكثر من عقدين ولقد استفحل الفساد، لم يعد الحديث عن الاحتلال بالأمر الأهم، فوجوده أصبح وكأنه شأنا إقليميا. فلم يعد للمفاوضات مكان وقد مات صاحبها، ولم يعد للمصالحة امل الا باستخدامها كورقة للمراوغة والضغط بين الفصيلين من اجل جني مكاسب فصائلية لا وطنية. وانغماس مجتمعي بلقمة العيش والسترة إذا ما تمكن المحظوظ منا منها. والباقي قصص مرعبة لجرائم يومية مليئة بالعنف والوحشية والظلم وانعدام الاخلاق وغياب للإنسانية وتسخير مسيء لكل ما كان يجمعنا من قيم يحددها الدين والعرف. فصار الدين سيفا على الرقاب وصارت العشيرة هي القاضي والجلاد.
ولا يمكن بالفعل التركيز على مواجهة احتلال سواء بالضم وتبعاته، من تحويل الحواجز إلى معابر حدودية والعين تنظر، ووحدات استيطانية تكاد تدخل إلى بيوتنا، او بالصعوبات اليومية التي تنجم عن العيش تحت الاحتلال كما الحال بالقدس، في وقت تحوّل فيه الفساد الى طريقة حكم السلطة وصارت الياته هي القمع وكبت الحريات وتكميم الافواه. وعليه، صار المواطن مستهدفا إذا ما عبّر عن رأيه او دافع عن رأي ما.
ما جري من اعتقالات قبل اشهر قليلة كان اقل الشرور. فبالنهاية تم التركيز الإعلامي من قبل النشطاء والمدافعين عنهم. وهنا لا أقول الاعلام المحلي، لأن الاعلام المحلي لم يعد يمتلك أي حرية بالتعبير. فاذا ما كان المواطن معرض للاعتقال والملاحقة والتنكيل وربما القتل إذا ما عبر عن رأيه، فمن البديهي ان تكون وكالات الانباء معرضة لضغوطات وتهديدات أكبر بكثير. والعالم غير المحلي اشكالي كذلك، فلا يريد ان يرى العالم اصحاب هذه القضية “الطاهرة” بهذا القدر من عدم الطهارة. فكيف نكون من ندافع عن اطهر قضية واعدل قضية بالوجود، ونحن غارقون بالدنس. فلا وصف للفساد الا الدناسة. واستفحاله كما نراه اليوم كالسرطان الذي يمتد بالجسد فنتشر ليأكله حتى يأكل بالنهاية حياة صاحبه.
وبين تفاقم القضايا الملحة وبين تدهور الوضع الاقتصادي الذي ترتب عن وباء الكورونا، كان رفض السلطة بأخذ مستحقات المقاصة يعرض المواطنين لخراب أكبر. فالمتضرر من عدم استرجاع أموال المقاصة هم الناس الذين باعوا واشتروا. التجار الذين استخدموا المقاصة ودفعوا مستحقاتها مسبقا على فرضية رجوع أموالها لهم. فأصبح المواطن تحت سلطة البنك والسلطة. البنك لا يرحم العملاء وشيكاتهم وقروضهم، والسلطة لا تفرجها على المواطن لاسترجاع حقوقه. مما يجعلنا نتساءل هل من هدف غير الضغط على الشعب أكثر هناك من قبل السلطة؟
اما اليوم وقرار السلطة باخذ اموال المقاصة – احتفالا بقدوم بايدن المرتقب لرئاسة امريكا ( لا تسألوني عن العلاقة ) جعلت منه مدخلها للتنسيق والتطبيع كذلك. وما عرضت الناس بسببه للاختناق اكثر ، افرجت عنه لتشرع في تنسيق يعرف الناس انه لم يتوقف الا من التصريحات العلنية، ولكنه بعودته ، ارادت السلطة ان تفرض لنفسها دورا اخر هذه المرة : دور روابط القرى. وكان الرد على انتقاد نزار بنات هو بنفس وحشية نظام استبدادي حاولت اسرائيل دوما ان تجعل من الايادي الفلسطينية منفذة له.
بينما تحاصرنا القضايا الملحة من كل الاتجاهات، هناك عنف يتربص على باب البيوت لمن ظن نفسه امنا من العنف داخل بيته. وما يجري بداخل البيوت المؤصدة لم تعد فجاجته تستره، عنف يودي بحياة اناث يوميا. جرائم يندى لها الجبين. محزنة، مؤلمة، موجعة. وما ان خرج المرء من بيته، فشجار بالشارع على أي شيء ومن اجل أي شيء ممكن ان ينتهي بجريمة أخرى. وإذا ما امنت هذا، لا تضمن ان تأمن رجوعك سالما على طريق مليء بتزاحم مروري لا يحترم الماشي فيه ابجديات السلامة ولا السائق يعبأ لأخلاقيات القيادة.
كم أصبحت كلمة اخلاق نخبوية في هذا السياق!
ويبقى موضوع كل من يستمر بالدق على الخزان هو الأخطر. لأن تكتيم الافواه وصل الى مرحلة مليئة بالخطورة.
فبعد ما شاهدناه من اعتقالات لأكثر من عشرين رجلا بلا لائحة اتهام واضحة وبتحقيق غير مفهوم وتردي الأوضاع الصحية لبعضهم (تكبيل معصمي الرجل بسرير المستشفى)، كما شهدنا من رعب حقيقي متمثل بطريقة الاعتقال (خطف الرجل وطفله). تكرر المشهد باعتقال شاب عشريني بينما كان يدفن أحد والديه. و مطاردة نزار بنات لأسابيع حتى سلم نفسه..
واليوم ، تم اعتقال- خطف- نزار بنات من جديد اثر فيديو شاركه بعد اعلان وزير شؤون التنسيق حسين الشيخ ورئيس الوزراء محمد شتية عن عودة التنسيق واعلان الانتصار على خلفية مراسلة رد من خلالها المنسق الاسرائيلي للجانب الفلسطيني المتمثل بحسين الشيخ عن تمسك اسرائيل بالاتفاقات بين الجانبين . رسالة يستطيع طفل صغير ان يميز ما بين فحواها وبين ادعاء الانتصار الوهمي الكاذب فيها .
نزار بنات يمثل الصوت الفلسطيني الأصيل برفعه بقوة ذلك الصوت عاليا بلا هوادة ولا خوف ولا رياء. مدافع شرس عن قضايا الرأي العام ولا يأبه لأحد. لا فصيل له الا الوطن، والأخلاق عنده تعلو على الشعارات الدينية التسويقية، ويحارب حتى النهاية من اجل القضايا التي يؤمن بها. ويدافع من اجل حقه كمواطن، ويضع المسؤول أيا كان امام مساءلة لا رحمة فيها الا بالعدل.
نزار بنات شكل مع مرور السنوات قاعدة شرعية للسلطة، فهو يقول ما يريده بكل جرأة، وما كان من المتابع الا الظن بهذه السلطة بعض الخير، فمن يسمح بهذا المجال من الاختلاف والمساءلة يتم احترامه. ولكن يبدو ان هذا الزمن ولى، واعيد وأكرر، منذ سمحنا بأن يتدخل جهاز الامن الوقائي بتحقيق نيفين العواودة واستخدام ملقط الحواجب كدليل للجريمة، واسكات العائلة بمنشد والكثير من الذهب. منذ تركنا ما يجري من تعديلات وتغييرات وتعيينات بالجهاز القضائي وجعلنا العشائر بديلا للقوانين تدريجيا. منذ تداولنا المحسوبية وفساد التعيينات وتسريبات المراسلات الجلية بالفساد وتعدد اوجهه كمواضيع نميمة ننتهي من واحدة لندخل في أخرى. وسكتنا عن جريمة قتل رائد الغروف بينما الحقيقة لا تزال تائهة. منذ سمحنا ان يخدعنا ولو للحظات زوج اخت اسراء غريب وعائلتها بأن من كان يضربها هو الجن وأنها ملموسة.
فلا غرابة ان يعيش المجرمين بيننا ويتنفذوا ويستبيحوا بنا. ولا غرابة من حالة اليأس القاتمة المسيطرة على وضعنا، فلم يعد هناك للأمل مكان. كل يختبئ في بيته ويجعل منه محرابا وصومعة.
لأن من يتجرأ على الكلام ستحرق ممتلكاته، ويطارد، ويعتقل، وسيتم زجه في غياهب معتقلات التعذيب.
ربما ما يجري اليوم في ما نراه سابقة، باجترار نزار الى معتقل اريحا- باللجنة الامنية المشتركة هو كذلك تذكير لنا لما سكتنا عنه كثيرا لما يجري بهذه الاماكن. اماكن يتم وصفها بالابشع من قبل المدافعين عن حقوق الانسان من المؤسسات الدولية والمحلية، الا اننا اثرنا السكوت او التعبير صمتا عن ريبتنا، لان من يقاد الى هناك تكون مسألته اعمق من ان يتم الاخذ والعطاء في شأنها: “عملاء” لحماس او “عملاء” لجهات تقررها السلطة معادية، تحقيقات سرية، وافعال تم التدريب عليها لاخذ الاعترافات من قبل اجهزة المخابرات الامريكية والاسرائيلية.
سغضنا الطرف عن القضايا التي نسكت عنها خوفا هو جريمة ستلاحقنا. سندفع ثمنها يوما لا محالة.
وسكوتنا عن قضية نزار بنات هو جريمة جديدة تسجل ضدنا. لأنه إذا ما قتل صوت نزار لن يتبقى منا الا النباح.
عندما كان نزار بنات مطاردا، بسب فيديو انتقد فيه رئيس الوزراء ، تحمّلنا نحن متابعي نزار بنات وزرها سواء اختلفنا او اتفقنا معه. ولكن ما احوجنا لصوته في هذا الزمن الذي لم يعد لنا صوت فيه.
واليوم نزار بنات اختطف، ولَم تمر ساعات عّن الفيديو الاخير حتى اقتحموا عليه منزله فجرا ، ولَم يكتفو باعتقاله بمدينته ، بل ساقوه الى ابشع جهات التحقيق في تاريخ السلطة . لغرف التحقيق الجائرة التي خصصتها السلطة لاخذ الاعترافات بالتعذيب وما سماه من وقعوا في ايدي محققين المسلخ، وفي احيان تسمى غوانتانامو السلطة :اللجنة الامنية المشتركة في اريحا
يصنعون بغبائهم من نزار بنات ناجي العلي وغسان كنفاني. وباسل الاعرج.. ولكن لن تطال يد غدرهم حياته، لأننا وبعد كل هذه السنوات عرفنا ان عدونا بداخلنا وليس ذلك المتربص لنا خارجنا فقط.
لن ينفع تكميم الأفواه

كاتبة فلسطينية

http://nadiaharhash.com