معاريف - بقلم: زلمان شوفال "الاسم المزدوج “ناغورنو” و”قره باغ” لا يبدو أنه يقول الكثير لمعظم الإسرائيليين، ولكن اسم إسرائيل يرتبط به الآن. ناغورنو – قره باغ هو جيب مع أغلبية أرمينية في داخل أرض هي من ناحية تاريخية وحسب القانون الدولي تعود لأذربيجان المجاورة، واحتلتها أرمينيا في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، مع تفكك الاتحاد السوفياتي. وطالما كان الاتحاد السوفياتي موجوداً، كان للنزاعات بين أجزائه المختلفة معنى محدود. ففي شرق أوكرانيا مثلاً كانت الأغلبية روسية، وفي غربها بولنديون، ولم تكن هناك أهمية خاصة؛ فكل شيء كان تحت سيطرة الاتحاد السوفياتي، وهكذا أيضاً حال أرمينيا وأذربيجان. ولكن في اللحظة التي تفككت فيها الفسيفساء السياسية السوفياتية، تفجرت كل الكراهيات والخصومات القومية والإثنية والدينية الكامنة كالمرجل.
إن النزاع بين أرمينيا وأذربيجان هو من النزاعات الأكثر قدماً، وفي الحساسية الدينية والقومية التي يتميز بها يشبه النزاعات التي لا تنتهي أبداً في البلقان. وما يقف بشكل ملموس على جدول الأعمال في هذه اللحظة هو ادعاء الأغلبية الأرمينية في ناغورنو – قره باغ في حقها في تقرير المصير حيال حقوق أذربيجان القانونية.
في المعارك السابقة، كانت يد الأرمن هي الأعلى، وقد نجحوا احتلال الجيب آنف الذكر، بل ومناطق واسعة في محيطها لضمان تواصل إقليمي مع الجمهورية الأرمينية نفسها. أما هذه المرة، فانقلبت الأمور رأساً على عقب: أذربيجان، التي شرعت بما وصفته كحملة لتحرير أراضيها ومدنها التاريخية المقدسة، هي المنتصرة، ووقف النار بوساطة روسيا منح ذلك شرعية رسمية. ومثلما أصبح مئات آلاف الأذربيجانيين لاجئين في الجولة السابقة، ففي هذه المرة أصبح مئات آلاف الأرمن لاجئين.
ثمة من يدعي أنه كان ممكناً منع الحرب والوصول إلى تسوية دبلوماسية لولا وقاحة زعماء أرمينيا، ولكن ثمة بأن يعطي هذا التقدير وزناً صحيحاً للعواطف والدوافع المتطرفة في الطرفين. انتهت الحرب في هذه اللحظة، ولكن ليس واضحاً إلى متى. فللصراعات العنيفة في القوقاز كانت دوماً تداعيات دولية؛ ففي الماضي، خافت بريطانيا من تسلل روسي إلى منطقة تفتح لها الطريق إلى الهند، والآن، تأتي تركيا -التي شاركت بفعالية في الحرب إلى جانب أذربيجان بالسلاح والتخطيط العملياتي وبالقوة البشرية أيضاً، وتفعل ذلك –إلى جانب العلاقات الإثنية- لكي تخلق لنفسها ممراً برياً مريحا إلى بحر قزوين، ومن هناك إلى وسط آسيا. وروسيا هي الأخرى لم تخرج خاسرة، فقد عاد جنودها بصفتهم مراقبين لوقف النار إلى القوقاز.
لم يكن لإسرائيل، ذات العلاقات مع الطرفين، دور مباشر في الحرب، ولكن المصالح المشتركة المهمة مع أذربيجان المحاذية لإيران، سواء في المجال الاقتصادي وفي موضوع النفط أم بالنسبة لبيع الوسائل القتالية المختلفة، خلقت وضعاً وجدت فيه نفسها بغير طواعية في ذات الجانب مع تركيا. وكما كان متوقعاً، فقد تعرضت لنقد شديد من جانب الأرمن. ليست هذه هي المعضلة الوحيدة؛ فللشعب اليهودي تعاطف طبيعي مع مصير الشعب الأرميني بسبب قتل الشعب الذي وقع له، وبسبب تطلعه طويل الأجيال إلى الاستقلال. لقد كان في القدس في حينه تجمع أهلي أرميني بعشرات آلاف الأشخاص. ومع أن معظمهم نقلتهم روسيا الشيوعية بعد الحرب العالمية الثانية إلى الجمهورية الأرمينية السوفياتية، فقد بقي منهم اليوم مواطنون إسرائيليون. ولا بد أن تبذل إسرائيل كل الجهود لإعادة علاقاتها مع أرمينيا إلى سابق عهدها، وهذه أيضاً مصلحة واضحة لأرمينيا نفسها.
العالم يعرف إسرائيل في عهد نتنياهو بأنها “قوة إقليمية عظمى”، وأدت هذه الحقيقة دوراً في قرار الإمارات الارتباط بها حيال التهديد الإيراني المشترك (قرار يتعاظم بعد فوز بايدن في الانتخابات). ولكن ثمة نواقص أحياناً إلى جانب الفضائل، مثلما في موضوع أذربيجان وتركيا. وفي المستقبل، إذا ما احتدم الصراع بين مصر والسودان وإثيوبيا، وثلاثتها شركاء لإسرائيل – في موضوع مياه النيل.
ومن موضوع إلى موضوع (تقريباً) في الموضوع ذاته: ناغورنو – قره باغ ليست هنا، ولكن قطاع غزة هنا. ومثلما سعى الأرمن في الجيب إياه لكي يتحدوا مع أصولهم، هكذا أيضاً غزة… فلن ترغب في أن تكون منقطعة عن العالم أو عن الأغلبية الفلسطينية؛ كل الحلول التي طرحت في هذا السياق ليست عملية أو ممكنة في ظروف مختلفة، ولما كانت الأفكار عن طريق علوي أو تحت أرضي (بما في ذلك حسب خطة ترامب)، تعدّ إشكالية من ناحية هندسية ومالية، ولكن المستقبل -من ناحية أمنية- ينطوي في أفضل الأحوال على حكم ذاتي منفصل ومجرد، ومحدود من ناحية سياسية، ولكنه مرمم اقتصادياً. في أسوأ الأحوال ستتواصل المواجهات الأمنية غير المتوقفة. على إسرائيل أن تعمل على ألا ينتقل سيناريو مثل ذاك الذي في ناغورنو – قره باغ إلى ساحتنا أيضاً.