لم يكن مصطلح الإنهاك المهني أو ما يسمى بالاحتراق النفسي "burnout" معروفًا حتى اكشف المحلل النفسي الألماني الأمريكي "هيربرت فرودينبر غر" للمرة الأولى مشكلة الإنهاك المهني في إحدى عيادات علاج المدمنين والمشردين بمدينة نيويورك عام 1974م ولاحظ أن المتطوعين بالعيادة أضناهم العمل الشاق وأوهن عزيمتهم واستنفد طاقتهم، حتى فقدوا حماستهم في العمل وأُصيبوا بالاكتئاب.
ووصف فرودينبرغ غر هذه المجموعة من الأعراض بأنها إنهاك بدني ونفسي نجم عن ضغط العمل الشاق لأمد طويل، وأطلق عليها اسم "الاحتراق النفسي" .
ولاقى المصطلح رواجًا كبيرًا وغدا اليوم ظاهرة عالمية ،وتشير إحصاءات الهيئة التنفيذية البريطانية للصحة والسلامة في بيئات العمل إلى أن (595) ألف شخص في المملكة المتحدة وحدها كانوا يعانون من الضغوط النفسية المرتبطة ببيئات العمل في عام 2018
وتصيب متلازمة الإنهاك المهني الرياضيين ونجوم موقع يوتيوب ورواد الأعمال ،و حتى فرويد بيرجر نفسه عانى من الإنهاك المهني لفترة من الفترات .
أما منظمة الصحة العالمية فقد أدرجت الإنهاك المهني ضمن التصنيف الدولي الأخير للأمراض ووصفته بأنهم متلازمة تنجم عن الضغوط النفسية المزمنة في بيئات العمل التي لم تعالج أسبابها بنجاح.
وذكرت المنظمة ثلاثة أعراض أساسية للإنهاك المهني، وهي الشعور بالإعياء واللامبالاة حيال الوظيفة وتدني الأداء في العمل ، وينصح الأطباء بعدم الانتظار حتى ينال منك الإنهاك النفسي والبدني، بل يجب المبادرة بمعالجته من البداية وقبل فوات الأوان
بينما عرفته "كرستين ماسلاك "Maslach أستاذة علم النفس بجامعة بيركلي الأمريكيـة والرائدة في دراسة وتطوير مفاهيم الاحتراق الوظيفي في العام 1982م بأنه "متلازمة أو مجموعة أعراض الإجهاد العصبي واستنفاد الطاقة الانفعالية ،والتجرد عن الخواص الشخصية ،والإحساس بعدم الرضا عن الإنجاز الشخصي في المجال المهني" وهي مجموعة أعراض يمكن أن تحدث لدى الأشخاص الذين يؤدون نوعاً من الأعمال التي تقتضي التعامل المباشر مع الناس .
ويحدث الاحتراق الوظيفي عندما لا يكون هنـاك توافق بين طبيعة العمل وطبيعة الإنسان الذي ينخرط في أداء ذلك العمل، وكلما زاد التباين بـين هاتين البيئتين زاد الاحتراق الوظيفي الذي يواجهه الموظف في مكان عمله.
وفي هذا الإطار، أظهرت دراسة علمية حديثة، أجرتها "الرابطة الأمريكية لعلم النفس" و"مركز بحوث الرأي الوطني" بجامعة شيكاغو، أن 48% من الأمريكيين عانوا زيادة في معدلات التوتر على مدى السنوات الـخمس الماضية، وأفاد 31% من المبحوثين بأنهم يجدون صعوبات في إدارة مسؤوليات العمل والأسرة معًا، فيما أكد أكثر من نصف المبحوثين 53% أن العمل يسبب لهم حالة كبيرة من الإنهاك والتعب.
ووجد استطلاع للرأي أجرته "جمعية إدارة الموارد البشرية الأمريكية"، أن "الإرهاق والاحتراق الوظيفي" هو أحد أهم أسباب استقالة الكثير من الموظفين.
ويقول موقع "بينزنس إنسايدر" الأمريكي، إن السبب الرئيسي وراء الوصول لمرحلة "الاحتراق الوظيفي" هو الاختلال بين المُدخلات والمُخرجات، أي أن الفرد يعطي لعمله أكثر مما يأخذه منه، ويُهمل حياته الشخصية.
ويلفت الموقع الأمريكي إلى أن علاج "الاحتراق الوظيفي" والوقاية منه يتطلب أولًا التعرف على علامات الإنذار التي تنبهنا إلى الوصول إلى تلك المرحلة الحرجة وهي:ـــــــ
-
المشاكل الصحية:
إذا كنت تعاني من آلام الظهر، أو من الاكتئاب، أو أمراض القلب، أو السمنة، أو كنت تمرض كثيرًا بشكل عام، فعليك أن تسأل نفسك عن الدور الذي يلعبه عملك في ذلك.. وعليك أن تعرف كيف يؤثر الإرهاق على صحتك، وما إذا كان نهجك في إنجاز العمل يستحق تلك العواقب.
-
صعوبات الإدراك:
إذا لاحظت أنك ترتكب أخطاءً ساذجة ،وتنسى الأشياء المهمة ،و تبدي انفعالات متطرفة أو تتخذ قرارات تندم عليها لاحقًا، فمن المرجح أنك تعاني "احتراقًا وظيفيًا" .
-
صعوبات في العمل والعلاقات الشخصية:
الإجهاد والتوتر يتركان آثارهما على كل ما تفعله، لا سيما كيفية التفاعل مع الناس فحتى إن كان الفرد قادرًا على ضبط انفعالاته أثناء ساعات العمل، فإنه يكشف عن الوجه القبيح في المنزل، ما قد يؤثر سلبًا على علاقاته الأسرية.
فالإجهاد يدفعنا إلى اعتماد سلوكيات غير مرغوبة، مثل التصرف بتهور، والتورط في مشكلات سخيفة لا داعي لها، فيما يفضل البعض الآخر الانطواء والهروب من المسؤوليات.
-
مواصلة العمل في المنزل:
البعض يواصل إنجاز مهام العمل في المنزل أو على الأقل يظل يفكر في المهام المطلوبة منه وكيفية أداءها على أكمل وجه دون الوقوع في أي أخطاء.. وإذا كنت من بين هؤلاء خذ حذرك، لأنها علامة قوية على "الاحتراق الوظيفي".
-
التعب:
يمكنك التأكد من وصولك لهذه المرحلة إذا كنت تشعر بالإرهاق والتعب عند الاستيقاظ رغم نومك لساعات كافية، أو كنت تشرب كميات كبيرة من الكافيين لتحصل على النشاط المرغوب، أو كانت لديك مشكلة في البقاء متيقظًا في العمل.
-
السلبية:
" الاحتراق الوظيفي" يحولك إلى شخص سلبي للغاية، حتى لو كنت إيجابيًا في العادة فإذا لاحظت أنك دائم التركيز على الجوانب السلبية لأي موقف ، أو تطلق الأحكام على الآخرين وتسخر منهم، اعرف أن السلبية قد تمكنت منك ولا بد لها من علاج فوري.
-
انخفاض معدل الرضا:
غالبًا ما يؤدي الإرهاق والتشبع من العمل إلى الشعور بعدم الرضا، وهو ما ينعكس سلبًا بدوره على أداء المهام؛ إذ يشعر الفرد بصعوبة إنجاز العمل ،وعدم الرضا الدائم عن أدائه أو العائد من العمل.
-
فقدان الدافع لمواصلة الإنتاج:
غالبًا ما يشعر الفرد بسعادة ورضا عندما يلتحق بوظيفة جديدة ،ويكون لديه دافع قوي لإثبات نفسه، لكن هذا الدافع يتلاشى مع الدخول في مرحلة "الاحتراق الوظيفي" ، حتى وإن كان الفرد قادرًا على إنجاز المهام المطلوبة منه ،وأحيانًا تتحول الدوافع إلى الجهة السلبية مثل الخوف من الرؤساء أو التعرض للفصل أو الإخلال بالمواعيد المحددة .
-
مشكلات في الأداء:
المتفوقون هم أكثر الناس عرضة للوصول إلى "الاحتراق الوظيفي" لحرصهم على إنجاز أعمالهم على النحو الأمثل، لكن الإجهاد المستمر يقلل معدل الأداء، فعليك أن تراقب الأمر، وتنظر للخلف وتقيم أداءك منذ أسبوع، أو شهر، أو سنة، وإذا لاحظت تراجعًا في الأداء، فمن المرجح أن يكون السبب هو التشبع من العمل.
10. إهمال الذات :
الإجهاد يسلبك القدرة على الاهتمام بالذات وضبط النفس، كما يهدد قدرتك على اتخاذ القرارات السليمة في حياتك، ويرجع الأمر جزئيًا إلى انخفاض مستويات الثقة والتحفيز.
كيف نتعامل مع الاحتراق النفسي؟
طُرح هذا السؤال على المشاركين في مركز "Great-West Life" للصحة النفسية بشأن التعافي من الاحتراق النفسي، حيث كان جميع المشاركين قد تعرضوا لتجربة الاحتراق النفسي، وكانوا إما يتعافون وإما تعافوا بالفعل قدموا لنا بعض الاستراتيجيات التي استخدموها للتعافي، إذ يمكن أن تساعد استراتيجياتهم ورؤاهم العملية أولئك المُعرّضين لخطر الاحتراق النفسي أو الذين يعانون حاليا منه، فما تلك الاستراتيجيات التي ساعدتهم على التعافي؟
استغرق التعافي عند معظمهم من 6 أسابيع إلى سنتين، بمتوسط 6 إلى 9 أشهر، ويصف معظمهم التعافي على أنه رحلة تستمر مدى الحياة. استفاد العديد من الأشخاص من العلاج النفسي عن طريق التحدث، بما في ذلك الاستشارات الجماعية والإرشادية في مراكز الإدمان، وقد تم وصف بعض الأدوية للبعض ،وكانت مفيدة في حالاتهم، كما قام معظمهم بتغييرات كبيرة في أنماط حياتهم مثل كيفية الاعتناء بأنفسهم، وآلية التفكير وكيف ينفذون أعمالهم بسلاسة، وتحسين التفاعل في العلاقات الإنسانية ،وهذه بعض استراتيجياتهم في تحقيق التعافي:
تحسين استراتيجيات العناية بالذات مثل: تقليل تناول الكافيين والكحول، تطوير خطة للتغذية الصحية، ممارسة التمارين الرياضية، قضاء بعض الوقت في الطبيعة، ممارسة بعض الهوايات الإبداعية مثل الرسم أو الأعمال اليدوية.
مع تغيير بعض أنماط التفكير والحياة مثل: التركيز على الإنجازات اليومية، تجنب نقد الذات دون داع، الحفاظ على نظام ونظافة بيئة العمل الخاصة، إنشاء مساحة في المنزل توفر لك الشعور بالراحة والسلام النفسي، اكتب قائمة امتنان يومية تساعدك على التركيز على الإيجابيات الموجودة في حياتك، ولا تنس العناية بروحك من خلال أداء الصلوات وممارسة التأمل.
كذلك تغيير الطريقة التي تنظر وتفعل من خلالها مهام عملك مثل: تجنب أداء المهام المتعددة والتركيز على مهمة واحدة في المرة الواحدة، تقسيم المشاريع الكبيرة إلى مهام صغيرة يسهل تنفيذها، تجنب قضاء وقت زائد بعد انتهاء أوقات العمل، الحصول على استراحات قصيرة خلال أوقات العمل، تجنب الاتصال بالعمل في الإجازات.
وأخيرًا تحسين العلاقات الاجتماعية: من خلال الحرص على إنشاء حدود لنفسك مثل ما ترغب أن تفعله أو ما لا تود فعله، تعلّم أن تقول براحة: "لا أعرف"، وفر وقتًا أكثر لمقابلة الأهل والأصدقاء.
العلاج والوقاية :
لتجنب الوصول لتلك المرحلة الحرجة، ينبغي الانفصال عن العمل ومشاكله في أوقات محددة يوميًا للمساهمة في استعادة النشاط وتجديد الدافع للعمل، وأيضًا تحديد أوقات معينة لمتابعة وسائل التواصل الإلكترونية، مثل البريد الإلكتروني.
ويوصي الخبراء أيضًا بالانتباه لأية أعراض مرضية جسدية أو نفسية جديدة، مثل الصداع الدائم أو ألم القولون، ومدى ارتباط الأمر بالإجهاد وكثرة العمل.
ومن الممكن مقاومة "الاحتراق الوظيفي" أيضًا من خلال إجراءات مثل: تحديد أوقات للاسترخاء وممارسة أنشطة محببة . -
- التخلي عن الأقراص المنومة .
- تنظيم الوقت لتحقيق أقصى استفادة منه دون معاناة من الإجهاد.
- أخذ أوقات للراحة وسط يوم العمل، ولو لدقائق بسيطة .
- الابتعاد عن الأشخاص السلبيين أو المحبِطين.