تساءل رئيس تحرير موقع “ميدل إيست آي” ديفيد هيرست، عن السبب الذي منع الفلسطينيين من الانضمام لحفلة تغيير السلطة في البيت الأبيض؟ مجيبا أن الأمر بالنسبة لهم سيان مع دونالد ترامب الذي كانت فترته كارثية عليهم، وجوزيف بايدن الذي لن يتخلى وإدارته عن إسرائيل.
وقال هيرست إن الصمت أحيانا أفصح من الصخب والاحتفال. ففي الوقت الذي يحتفل فيه الليبراليون في العالم بزوال كابوس ترامب، إلا أن الفلسطينيين لم ينضموا للحفلة. ولم يسجل هناك أي ردة فعل على منصات التواصل الاجتماعي على وفاة المفاوض الفلسطيني المعروف صائب عريقات لأن الأمرين متصلان.
وربما فكرت بالعكس، لأن هذا يعني خروج جارد كوشنر وديفيد فريدمان من المشهد بكونهما أكثر مبعوثين أمريكيين مدعاة للكراهية، واللذين حازا الشهرة ولأول مرة في تاريخ النزاع بأنهما المبعوثان الأمريكيان اللذان كانا أكثر تشددا من رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه.
وبدلا من ذلك ستدخل المسرح إدارة شبيهة بإدارة باراك أوباما، أو تواصل سياستها، حيث ستقوم بإعادة الدعم الذي قطعته إدارة ترامب عن الفلسطينيين، وفتح مكتب بعثة منظمة التحرير في واشنطن المغلق، وإعادة التمويل لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) والترحيب بالدول العربية التي انضمت إلى ما أطلق عليها باتفاقيات “إبراهيم” والتعامل بهدوء مع كل العملية.
وقال توني بلينكين، مستشار بايدن الأبرز للشؤون الخارجية في تصريحات “لجويش إنسايدر” إنه لا الإمارات أو البحرين كانت في حالة حرب مع إسرائيل والحديث عن أهمية صفقات التطبيع “مبالغ فيه قليلا” لأن العلاقات موجودة أصلا. فهذه إدارة لن تحاول استخدام أي نفوذ من أجل دفع دول عربية مترددة للانضمام إلى قائمة المطبعين.
وربما كان متوقعا نعي الفلسطينيين المفاوض الفلسطيني المخضرم عريقات الذي كرس حياته للدولة الفلسطينية وقضى سنواته الأخيرة ناقدا حادا بشكل واسع في مدينته أريحا، لكن لم يكن هذا هو الحال في شوارع الضفة الغربية وبين الليبراليين الغربيين الذين لا يزالون يدافعون عن حل الدولتين، لماذا؟ يجيب هيسرت أن التغير في الرئاسة الأمريكية لا يعني تغيرا لواقع الاحتلال الإسرائيلي، ولا يوقف حرق أشجار الزيتون وهدم البيوت ومصادرة الأراضي وتشريد العائلات وجرف القرى أو نمو المستوطنات عاما بعد عام وبأعداد لا يمكن وقفها، ولا توقف اختفاء أرض الفلسطينيين أمام أعينهم.
وعمل الليبراليون ويسار الوسط في إسرائيل والولايات المتحدة والذين دفعوا باتجاه دولة فلسطينية إلى جانب دولة يهودية، على تقديم قدموا للمستوطنين أكثر من صقور اليمين المتطرف. وبدأ رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحاق رابين فترته عام 1992 بتجميد بناء المستوطنات. وانخفض بناء الوحدات السكنية من 7.000 في ظل الحكومة السابقة له إلى حوالي 1.300 وحدة في العام.
ولكن رابين أنفق بعد توقيع اتفاق أوسلو مليارات الدولارات على البنى التحتية للمستوطنات في الضفة الغربية، مثل معبر رام الله والنفق إلى مدينة الخليل، اللذان أصبحا منطقة ترانزيت للمستوطنين، مما أمّن طرقا آمنة وسريعة إلى إسرائيل والموانئ البحرية. وساعدت هذه الشبكة من الطرق أكثر من وجود الجيش الإسرائيلي والقوانين على دمج المستوطنات غير الشرعية بشكل دائم في دولة إسرائيل.
ولهذا السبب فالضم هو حقيقة على أرض الواقع وإن لم يعلن عنه. ولم تكن أفعال رابين مجرد انحراف، ففي الـ27 عاما منذ توقيع اتفاقية أوسلو، زاد عدد اللاجئين الفلسطينيين إلى خمسة ملايين ممن سجلوا أسماءهم لدى الأمم المتحدة، وفي الوقت نفسه تضاعفت أعداد المستوطنين في الضفة الغربية أربعة أضعاف.
وبحسب مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي فقد زاد عدد المستوطنين من 110 آلاف عام 1993 إلى 413.400 عام 2017. ولم تؤد محادثات السلام إلى وقف توسع المستوطنات، بل شجعتها، وأثبتت أنها كارثة للفلسطينيين ولكل مسار صائب عريقات السياسي.
ويقول هيرست إن شعور عريقات بالإحباط والغضب في السنوات الأخيرة من حياته كان واضحا عندما قابله في مؤتمر بروما. ولم يجب على أي سؤال مباشرة، بل تعامل مع كل سؤال كنقطة انطلاق لتقديم محاضرة طويلة حول كيفية تشكيل المجتمع الفلسطيني “السلطة الوطنية بدون سلطة”، وكيف كان الاحتلال صعبا على المحتلين.
وكانت كلماته تدور في حلقة مفرغة، فقد هدد بوقف التنسيق الأمني وتقديم إسرائيل رسميا إلى محكمة الجنايات الدولية، ولكنها كانت تهديدات لا معنى لها، وأوراق كانت توضع على الطاولة وتسحب مرة أخرى.
وأشار الكاتب إلى أن الجانب الفلسطيني في جلساته مع الطواقم الإسرائيلية في عدة مدن، قدّم موافقات وتنازلات للجانب الإسرائيلي بدون مقابل، مثل ما ورد فيما عرف بالأوراق الفلسطينية التي قيل فيها إن عريقات وعد الجانب الإسرائيلي بالقدس العظمى دون الحصول على شيء.
وتحولت العملية السلمية إلى كابوس دائم له؛ لأنه أصبح مشاركا في عملية لا تخدم سوى الجانب الإسرائيلي. وفي كل مرة استؤنفت فيها المحادثات كان عريقات يبدأ بموقف ضعيف. ولم تنتج العملية هذه إلا سلطة لا جوهر لها. ولهذا فعودة جيل جديد من الآذان الصاغية المتعاطفة مع القضية إلى البيت الأبيض لا يدعو للاحتفال لا في رام الله أو غزة.
وعبّر الفلسطينيون عن سعادتهم لسكان مدينة فيلادلفيا الأمريكية، ولكن الأخبار السعيدة تتوقف هنا. كان ظهور فريق غير مقيد من المتعاطفين مع المستوطنين الإسرائيليين في المكتب البيضاوي الداعي إلى محو قضية اللاجئين ووقف الدعم عن الأونروا بمثابة تبديد لأسطورة الجولات اللانهائية من المفاوضات التي كان من المفترض أن تقود إلى دولة فلسطينية، لكن ترامب وفريقه في النهاية لم يغيروا الواقع على الأرض.
وبعودة بايدن إلى البيت الأبيض، سيتم إعادة الأسطورة مثلما تم العثور على آثار توراتية. وضمن هذا السياق سيواصل المستوطنون عملهم في قطع أشجار الزيتون الفلسطينية، وتواصل المحاكم الإسرائيلية عملها في مصادرة وحرمان الفلسطينيين من حقوقهم على أراضيهم. وسيرد المسؤولون في واشنطن ولندن وباريس بهز رؤوسهم بدون عمل أي شيء. وسيكتفون بالحديث المعهود عن العدالة للفلسطينيين التي لن ترى النور أبدا.
وبطريقة أو بأخرى، فقد أفشل الظهور المحتوم لبايدن جهود المصالحة الفلسطينية التي تعد مفتاح التغيير. فقد كانت النتيجة الإيجابية لاحتقار فريق ترامب الفلسطينيين أنها دفعت الرئيس محمود عباس إلى استئناف محادثات المصالحة مع حماس. وهذه ليست المرة الأولى التي يبدأ فيها أبو مازن المصالحة، لكنه كان يتخلى عنها. وشجعت حماس المبادرة، وعبّرت عن استعدادها لمناقشة قائمة مشتركة مع حركة فتح في الانتخابات البرلمانية. وكانت نتائج جولتي المحادثات بين حماس وفتح في أنقرة وبيروت إيجابية.
وأيا كان الطرف الذي سيفوز في الانتخابات البرلمانية، فقد كانت فرصة لتجديد وإنعاش القيادة الفلسطينية. لكن أبو مازن علّق المحادثات قبل أسابيع من الانتخابات الأمريكية. وبحسب مصدر مطلع، فالخلافات بين الطرفين أساسية. فحماس تريد انتخابات رئاسية وللمجلس التشريعي وللمجلس الوطني الفلسطيني بشكل متتال. لكنّ أبو مازن أصر على انتخابات واحدة وهي البرلمانية.
بالإضافة إلى ذلك، رفض أبو مازن استئناف دفع رواتب موظفي السلطة في غزة كإشارة على حسن النية وجديته بالتشارك مع غزة الخاضعة لسيطرة حماس.
وبوصول بايدن إلى السلطة في أمريكا، سيقلّ الضغط على عباس، ولن يكون مجبرا على مواصلة المصالحة؛ لأن الإدارة الجديدة ستعيد له كل ما أخذه ترامب منه: الاعتراف الدبلوماسي والمال.
وسيدعم بايدن الفصيل الفلسطيني الذي اعترف بإسرائيل، ولن يتغير أي شيء عن الفلسطينيين، ولكنه سيصبح أسوأ. وهذا أمر مؤسف لأن أبو مازن يكره منافسيه الفلسطينيين، وربما أكثر من إسرائيل، وهذا السبب الذي أضر بالفلسطينيين. ولكن الوضع ليس في صالح إسرائيل أيضا إلا في حالة أنهت النزاع.
ويقول هيرست إن من المفيد العودة إلى خطاب نائبة الرئيس كامالا هاريس أمام “أيباك” في عام 2017 والذي احتوى على كل المجازات والأساطير التي تؤبد الصراع مثل “تحويل الصحراء إلى مزدهرة” وكيف وصفت زيارتها للقدس حيث “غمرت بالمناظر والأصوات والروائح في القدس”.
ومن هنا فمعانقة إسرائيل لن يقنعها لكي تجمد المستوطنات أو توقف سياسات التمييز العنصري. وفقط عندما تعاني الدولة ومؤسساتها من الضغوط والعزلة الدولية فإنها ستفكر بتقديم تنازلات على الأرض.
وربما بدأ بايدن من حيث انتهى باراك أوباما عندما امتنع عن التصويت لقرار في مجلس الأمن يطالب بوقف الاستيطان الإسرائيلي في كانون الأول/ ديسمبر 2016 وهو آخر عمل له.
وربما بدأ بايدن أيضا بالتأكيد لإسرائيل أن الاستيطان هو عمل غير قانوني. ولكن من المحتمل ألا يفعل ذلك. فقد قال بلينكن أن الولايات المتحدة لم تمتنع عن التصويت في قرارات شجب إسرائيل بالأمم المتحدة.
صحيح أن أربعة أعوام أخرى من ترامب كانت ستكون كارثية للفلسطينيين، فربما أجبرت دول عربية بدافع الفاقة للقبول بفتات أموال ترامب مقابل التطبيع مع إسرائيل، إلا أن الحقيقة المحزنة هي أن عودة رئيس ليبرالي إلى المكتب البيضاوي ستخدم إسرائيل أيضا. وستظل تدفع باتجاه تأمين حدودها الفعلية بدون خوف. ومرة أخرى فالأمر يعود للفلسطينيين لتقرير مستقبلهم، وهم بحاجة إلى هذا أكثر من أي وقت مضى.