منذ صباح اليوم الثامن عشر من اكتوبر وانا ابحث في الكلمات , ماذا اقول في هذا اليوم , واخاطب من ؟, والدتي ؟ والدي ؟ ام الذين قضوا خلال عملية الافراج عنا ؟ ام الذين تركناهم خلفنا ؟ ام الذين افرج عنهم معنا ثم عادوا بعد ان ذاقوا طعم الحرية ؟ , ام الذين شيعناهم الى مثواهم الاخير بعد ان كانوا رفاق الدرب الطويل من الاعتقال حتى الافراج ؟ ام الذين كان اللقاء بهم يلهب حريق الشوق ؟ ام الذين انتظرنا اللقاء بهم ثم تمنينا ان لو بقينا نسمع عنهم ؟ .كل هؤلاء يستحقون كلماتنا في هذه المناسبة .
لكن ولان جميع محرري صفقة وفاء الاحرار قالوا الكثير الكثير من هذه الكلمات , فمن المفيد ان اتكلم من زاوية ثانية ، عن المحررين انفسهم استذكرهم بكلمات مختصرة .
دائما كنت اكرر واقارن بين تعريف العدو للسجن وتعريف الفلسطيني للسجن , تعريف العدو للسجن هو ان يقتطع من زمنك مسافة ويمحها بممحاة ثم يصل نهاية الزمن الاول وهو بداية الاعتقال ببداية الزمن الثاني وهو يوم الافراج لتكون شخصية مبتورة عن الواقع اشبه تماما بقصة اصحاب الكهف ولكن بشكل اقل حدة تشعر ان الزمن المفقود ليس سوى " يوما او بعض يوم " , تتوجه الى عملك القديم ".... بورقكم هذه الى المدينة " ورقة نقود او نمط تفكير لم يعد له اية قيمة . ".. لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا ", هذا هو تعريف العدو للاعتقال , خلق فجوة زمنية ليصبح عمرك العقلي متخلفا كثيرا عن اقرانك , كرسالة للمجتمع ان المضحين الذين كنتم تتضامنون معهم ليسوا سوى ثلة من المتخلفين , لكن ماذا تعريف السجن بالنسبة للفلسطيني , انه بالدرجة الاولى الصمود والتحدي , الصمود الذي يعني افراغ مضمون الرسالة الاسرائيلية من محتواها والتحدي هو تجاوز هذه الرسالة الى اقصى حد , عندما نقول ان السجن تحول الى اكاديمية لا نعني بانها اكاديمية يدرس فيها الطالب عدة ساعات دراسية كل يوم على شكل جلسات يديرها امير اومسؤول ثقافي ليكتسب العنصر تعليما ويصبح بنكا للمعلومات ,اذا كان هذا هو مفهوم " السجن مدرسة " فهذا يقلل من التعريف الحقيقي لمفهوم السجن , لان السجن لدى الفلسطينيين هو نظام حياة متكامل يقوم على قيم العدالة والمساواة والحرية و الانتاج والابداع والمقاومة في ان واحد كل هذه القيم تتنفسها في السجن لتصبح مفاهيم ,خلال يومك , في احلامك , وفي كوابيسك وفي يقظتك التي لا تفارقك حتى وانت نائم , ولا يتناقض الشعور بالحرية مع فقدانك للحرية خلف الاسوار ,لقد شهدت خلال 23 عاما في السجن اكثر من 50 عملية انتخابية , داخل كل تنظيم واكثر من عشر مرات حجب ثقة واعادة انتخابات , ولا يحصى تشكيل لجان تاديبية لمسؤولي استخدموا صلاحياتهم في غير مكانها ,لقد كان ضابط استخبارات العدو يعد الايام قبل كل عملية انتخابات وفي الكثير من الاحيان يفاجأ بها , انا اشهد انني كنت في السجن اكثر شعورا بالحرية منها خارج السجن , لانني كان يتساوى لدي عبء كلمة الحق بعبء كلمة الباطل , فانت تتعود على قول الحق سليقة , لان مجتمع الأسر لا يقبل منك غير ذلك , اما خارج السجن فان الحسابات كثيرة , اقلها المجاملة التي تجعلك تعمل على تنميق الكلمات بعد التدقيق في اختيارها , واعلاها انك قد تهدد في رزق عيالك , الذي لم يكن يتطاول عليه احد خلال الاعتقال , لذلك كان الكثير من الاسرى يتفاجأون من الواقع بعد الافراج ويرون في كثير من اصدقاء الماضي ورفاق المسير انهم لم يعد هناك انسجام معهم, السجين المحرر يقول في نفسه عن من تشوق للقائهم " ان تسمع بالمعيدي خير من ان تراه " ورفيق الدرب القديم يقول عن السجين السابق " انه بحاجة الى تأهيل لمعرفة الواقع الجديد . وبعض المشفقين احيانا وكنوع من الانصاف يشير اليهم بان الذين مثلهم قد انقرضوا .
اذا رغم الصمود والتحدي الذي قاده مجتمع الاسر في مواجهة السجان فقد وصلنا الى نتيجة ان هناك فجوة بين السجين وبين اقرناءه فجوة تحتاج الى تاهيل لجسرها لكن من من المفترض ان يؤهل من ؟ قالوا " .. وهم يتخافتون " بحثا عن من يحل لهم المشكلة التي تذكرهم بماض مشرق قد غابت شمسه فلم يجدوا الا مؤسسات ثقيلة على القلب قالوا لها " هل نجعل لك خرجا على ان تجعل بيننا وبينهم سدا ؟ " .