لم تمنع ظروف انتشار وباء كورونا، وتعليمات البرتوكول الصحي التي تحد النشاطات الجماهيرية من عرض مسرحية "إلا أنت-القدس" التي قدمتها المخرجة مجد القصص في المركز الثقافي الملكي بعمان أمام جمهور لا يتجاوز الـ20 شخصا بينهم وزير الثقافة الأردني باسم الطويسي، ورئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري، ونائب رئيس الوزراء الأسبق ممدوح العبادي.
ومع قلة عدد الجمهور إلا أنه لم يغب، فقد استفادت المخرجة من التكنولوجيا الحديثة لتقدم أول عرض مسرحي في بث مباشر على شبكة التواصل الاجتماعي لتقلب معادلة المشاهدة، فبدلا من مجيء المشاهد لصالة لعرض، فقد حملت المخرجة المسرح للمشاهد.
ولم يكن ظرف كورونا ومحدودية الجمهور وتوظيف التكنولوجيا هو ما يميز العمل، بل كان الموضوع وطريقة معالجته والمناخات السياسية أيضا بمثابة المغامرة التي حاولت معها مجد القصص-أستاذة المسرح بأكاديمية الفنون بالجامعة الأردنية- أن "تدب الصوت"، و"تلقي الحجر في الماء الراكد" بعد ما طال القدس من ظلم وعسف ومحاولات للطمس والمحو وإنكار هويتها العربية.
العرض المسرحي الذي كتبت نصه الروائية سميحة خريس، طعمته المخرجة بعدد من الفنون مستفيدة من قصيدة الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي التي حملت عنوان "في القدس"، ومعتمدة لغة الجسد بشكل أساس صممت مشاهده آني قرليان لتقدم مرافعة عن الإنسان المرابط/المرتبط بأرضه.
تلخص المسرحية في 7 لوحات استعراضية صور القهر والمقاومة، واستمرار الحياة، وإعادة من خلال اختراق الجدران لكتابة تاريخ الحرية والحياة، حيث الضحية تعلم الجلاد سيرورة الحياة.
رمز لحياة المقدسيين
تتناول المسرحية التي وضع موسيقاها وليد الهشيم قصة فتاة وشاب مقدسيين لم يتسنّ لهما إتمام فرحهما بالزواج نتيجة اعتقال الشاب والحكم عليه بالسجن لمدة طويلة، ويقوم بتهريب نطفة ليتحقق لزوجته أن تكون أما، ولم تشأ المخرجة أن تعرف الممثلين بالأسماء، وإنما تركت الأمر غائبا ليكونا رمزا لكل المقدسيين الذين يعيشون بين فضاء الحلم وقهر واقع الاحتلال.
ولحرص مجد القصص على الربط بين الشكل والمحتوى في المعالجة المسرحية التي وصفتها بأنها تنتمي للمسرح "التجريبي" لم تسند البطولة لأحد الممثلين، بل ذهبت في الحوارات إلى الصوت الجماعي/الكورالي/لبطولة يصنعها الجميع.
وفي الوقت نفسه تبرز الملمح الملحمي للعمل بوصفه سردية تقوم على تراث الأمة الحضاري لمواجهة رواية المحتل. تقول المخرجة "وزعت الحوارات على جميع الممثلين (عددهم 9)، وقدمت العمل كمقترح إنساني باللغة العربية الفصيحة، باستثناء بعض الكلمات العامية الفلسطينية والختام بالدبكة (للخصوصية)، لأن قضية القدس هي قضية العرب".
ولا تخلو الحوارات، وكذلك النصوص الشعرية من إضاءات على تاريخ القدس منذ الكنعانيين مرورا بالرومان والصليبيين وحتى الاحتلال الصهيوني، مما يؤكد طبيعتها الغنية برائحة التاريخ والتسامح، ولكنها لفظت كل الغزاة.
وتقول المخرجة ، "كانت الرقصات الاستعراضية قائدة للحدث كما الأغنية، ولم تكن مجرد رقص لذات الرقص، بل هي وسيلة تعبير بطاقة الإنسان الكلية التي يعجز فيها الكلام عن قول ما تريد الحقيقة قوله أمام التزييف والقهر".
وتضيف أنها عمدت إلى النثر والشعر والحركة والأغنية، موضحة أنها اختارت المقاطع من قصيدة البرغوثي ليس كنص للقراءة المتتابعة، وإنما كمشاهد تتصل بتطور دراما المسرح وتخدم الحكاية.
لغة الجسد هي وسيلة تعبير بطاقة الإنسان الكلية التي يعجز فيها الكلام
نضال الفلسطينيات
ثمة الكثير من الرموز التي تنسرب في الحكاية، وتمررها المخرجة كإبراقات متوهجة، ومنها سردية الحياة التي يأمل الفلسطيني أن يعيشها، مقابل سردية الموت التي يفرضها الاحتلال. وتتجلى تلك الرمزيات في المقاربة بين القدس الأسيرة، والأسرى، مستعيدة قصة ولادة السيدة مريم والمسيح (عليهما السلام)، ومسقطة الحكاية على المرأة الفلسطينية في صبرها ونضالها.
تقول الكاتبة خريس "إن المسرحية جاءت في وقت تعاني فيه القضية الفلسطينية من التهميش، ومحاولة تغيير التاريخ، وتغييب الشعب الفلسطيني وصموده، وأردنا أن نقول إن الشعب الفلسطيني في أصعب الظروف يصنع استمراره. اعتمدنا على حكاية حقيقية، تهريب الأجنة من السجون".
وتتابع خريس "المسرحية تقوم على قصة حقيقية، الواقع الأسطوري هو الذي ألهمنا، حيث نستند إليه لصنع مخيال يلهم الأجيال، ليعلم أن لا شي سينهي النضال الفلسطيني مهما كانت الظروف الراهنة بكل ضعفها السياسي.. لابد أن يكون للفن دور لاستمرار الحياة. لا نزال نقول نحن هنا على الأرض، على المسرح، وفي ضمير كل إنسان".
المسرحية تدوّن قصة الحب مقابل القهر والبحث عن الحياة
إبهار مسرحي
تعتمد المخرجة في المسرحية التي تقع في 45 دقيقة على الإبهار البصري، والإفادة من كل مساحات فضاء المسرح من خلال التشكيلات البشرية المدروسة، والديكور البسيط الذي تكون من ضلعين يوحيان بالشكل الثماني الذي تقوم عليه عمارة قبة الصخرة، وفي الوقت نفسه يتحول الديكور بإزاحة بسيطة إلى سجن يقبع وراءه الفلسطيني، وتفيد من الديكور للانتقال من مشهد لآخر، وفي الوقت نفسه كأداة موسيقية للإيقاع الذي يصاحب الغناء.
مسرحية "إلا أنت-القدس" التي عرضتها فرقة المسرح الحديث على خشبة المسرح الرئيس بالمركز الثقافي الملكي بعمان شارك فيها الممثلون منذر خليل، ونبيل سمور، وإبراهيم عشا، وأريج دبابنة، وعكا حمدان، وندين خوري، وعدي طلال، ومحمد قطان، وآني قرليان.
وتحكي قصة معاناة المدينة وصمود الفلسطيني في مواجهة الاحتلال بأسلوب الكوميديا السوداء، وتدوّن قصة الحب مقابل القهر، والبحث عن الحياة، فكانت رقصا على الجراح، ولكنها لا تنسى الأمل في رهانها على التاريخ، وقد وصفها الناقد فيصل دراج بأنها "مأساة قدمت بأسلوب لا يخلو من البهجة".