السلام البارد.. التجربة المصرية ..عبد الله السناوي

السبت 19 سبتمبر 2020 11:39 ص / بتوقيت القدس +2GMT




مَن التالي؟!
السؤال طرح نفسه مجدداً في الحديقة الخلفية للبيت الأبيض أثناء حفل توقيع اتفاقيتي تطبيع بين دولتين عربيتين وإسرائيل.
بنص تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب فإن «خمس أو ست دول أخرى سوف تلحق بالركب».
أراد أن يقول بالقرب من الانتخابات الرئاسية إنه الرجل الذي يجلب السلام إلى الشرق الأوسط دون أي ثمن تدفعه إسرائيل.
إنه «سلام القوة»، أو «السلام مقابل السلام».
بدوافع أخرى اعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو»، المتهم جنائيا بالفساد والاحتيال وتلقي رشى، أن ما يحدث «أكبر نصر تحرزه إسرائيل»، فـ«القوة تجلب السلام» و«تجلب الحلفاء».
هكذا بالحرف، كأننا أمام عرض هزلي لسلام مدعى.
إلى أي حد يمكن أن تمضي رهانات هذا النوع من السلام في إنكار أي حق للشعب الفلسطيني، حتى أنه لم يأت تقريبا على ذكر قضيته في احتفالية البيت الأبيض؟!
هذا هو السؤال الأكثر جوهرية عند واحدة من أخطر منعطفات الصراع العربي الإسرائيلي.
بصيغة أخرى، إلى أي حد يمكن أن تستلهم التجربة المصرية في مقاومة التطبيع، التي أسفرت عن فرض ما يسمى بـ«السلام البارد»؟
الظروف تختلف وتتباين بين دولة وأخرى، غير أن الصمت المطبق لا يبرر، والمضي في التطبيع على حساب الضحية الفلسطينية لا يقبل.
في مصر تصدرت مشاهد رفض التطبيع تيارات وأحزاب يصعب أن تلتقي.
تشاركت أجيال ونقابات وجمعيات أهلية، وكل ما يتحرك بالحيوية في البلد.
كان من أبرز الوجوه التي تصدت لـ «كامب ديفيد» نقيب المحامين الراحل عبدالعزيز الشوربجي، إن لم يكن أبرزها على الإطلاق.
بخلفيته السياسية فهو «وفدي» يجافي تجربة جمال عبدالناصر، غير أنه في لحظة «كامب ديفيد» وما تمثله من خطر على الوطنية المصرية قال بما هو نصه في محضر التحقيقات معه أمام النيابة العامة:
«والله لو استقبلت من أمري ما استدبرت لكنت من رجاله وحاربت خلفه».
بمضي الوقت استقرت حقائق المشروع المضاد.
تفكيك الاقتصاد الوطني باسم الانفتاح الاقتصادي أسس لطبقة جديدة وظيفتها مساندة نوع معين من السلام.
وتفكيك نظرية الأمن القومي باسم السلام مع إسرائيل أسس لتراجع المكانة المصرية في محيطها وقارتها وعالمها الثالث.
بتصدع المشروع الوطني لم يكن ممكنًا بناء اقتصاد قوي، رغم وعود الرخاء، ولا تأسيس ديمقراطية حقيقية تقوم على التعددية والتنافس الحزبي وفق أصول مدنية الدولة والاحتكام إلى القواعد الدستورية الحديثة.
عند زيارة القدس تناقضت تصرفات السادات مع ما كان يعتقد فيه وزير الخارجية اسماعيل فهمي.
لم يكن بوسعه أن يتغاضى عن «الأسلوب» و«المنهج».. ولا أن يغمض عينه عن «النتائج الوخيمة» المتوقعة.. فاستقال.
رغم أن الدكتور بطرس غالي، الذي صعد إلى قمة جهاز الخارجية المصرية في أعقاب استقالتي وزيرها اسماعيل فهمي ووزير الدولة للشؤون الخارجية محمد رياض، كان مقتنعاً بما أقدم عليه السادات، إلا أنه وجد نفسه عضوًا في من كان يسميهم بـ«عصابة الخارجية»، أو «الميكانيكية» ــ نسبة إلى التعبير الإنجليزي الشهير «الميكانيزم» أو «الآلية»، الذي كان يستخدم وقتها على نطاق واسع في أوساط المثقفين والدبلوماسيين!
كان ذلك التعبير الساخر انعكاسا لمدى تبرم السادات من المقاومة الدبلوماسية للسياسات والتحالفات الجديدة.
هكذا أهدرت النتائج العسكرية لحرب أكتوبر بمقولتي: «٧٠٪ من الصراع مع إسرائيل نفسي».. و«٩٩٪ من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة».
كانت النتائج وخيمة على الدور الإقليمي المصري بالانخراط في الصلح المنفرد مع إسرائيل والخروج من الصراع العربي ــ الإسرائيلي.
عندما ذهب السادات عام 1977 إلى القدس مانع البابا «شنودة الثالث» في الذهاب معه، ثم حسم أمره سريعاً في رفض اتفاقيتي «كامب ديفيد» (1978)، وما يترتب عليهما.
كانت حسابات البابا ــ السياسية قبل الدينية ــ أن مجاراة رئاسة الدولة في سياساتها المستجدة قد يدفع قطاعات واسعة من الرأي العام العربي، في مصر بالخصوص، إلى اعتبار أقباط مصر خونة الأمة العربية.
عندما كان عليه أن يختار بين رئاسة الدولة والرأي العام فيها، اختار بلا تردد أن يصطدم مع السادات، مدركاً أنه إذا ما جاراه في التطبيع فسوف تلحق بالأقباط أضرار أفدح لا يمكن تداركها وشروخ لا يمكن ترميمها في النسيج الوطني.
ذات حوار بيننا رفع رأسه معتزاً بدوره وهو يقول: «أنا آخر البابوات العظام الذين قالوا لا للمحتل الأجنبي».
في التفاتة رجل لديه حس استثنائي بالتاريخ أغلق جهاز التسجيل ذات حوار آخر.
سألني: «هل تعتقد أن كل الدول العربية والإسلامية سوف تعترف بإسرائيل؟».
أجبته على الفور: «لا».
قال: «إذاً لن أذهب إلى القدس أبداً».
كانت تلك درجة أكثر تشدداً في رفض التطبيع مع إسرائيل، أو زيارتها، أو السماح للأقباط بالحج إلى القدس.
في البداية قال: «لن أزور القدس إلا مع شيخ الأزهر».
ثم فكر في احتمال أن يزور شيخ الأزهر المدينة المقدسة، وأن يكون الرأي العام العربي غاضباً ومعترضاً.
رأى أن الأوفق ألا يزورها حتى لو ذهب إليها شيخ الأزهر.
اكسب ذلك الموقف البابا شنودة شعبية كبيرة وأطلق عليه عند منتصف تسعينيات القرن الماضي صفة «البابا العربي».
لم يجر ذلك في انعزال عن الحركة العامة للمجتمع، حيث توالت المواجهات الشعبية مع أي نزعة تطبيع.
تصدر المثقفون المشاهد الغاضبة في معرض القاهرة الدولي للكتاب بالتظاهر أمام الجناح الإسرائيلي، حتى اضطر إلى إغلاق أبوابه.
تبارت النقابات العمالية والمهنية في تحريم أي تطبيع على أعضائها.
ونشأت «اللجنة الوطنية للدفاع عن الثقافة القومية» لرفع منسوب الوعى العام بخطورة التطبيع على مستقبل البلد.
امتدت روح الرفض إلى داخل أجهزة الدولة نفسها.
باستثناء أعداد محدودة من رجال الأعمال، اعتادوا زيارة إسرائيل سرا، أو بعض الوزارات كوزارة الزراعة على عهد يوسف والي، كاد رفض التطبيع يكون شاملاً.
في المشهد المصري تبدت مأساة جيل أرجأ طموحاته وحياته إلى ما بعد انتهاء الحرب، التي جرت وقائعها عام 1973، غير أنه عندما عاد من ميادين القتال، وجد أن ما قاتل من أجله قد تبدد، وأن عليه دفع ثمن سياسات الانفتاح الاقتصادي التي دشنت عام ١٩٧٤ من مستقبله الاجتماعي والإنساني.
ثم أن يرى بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب سياسات التطبيع مع العدو الذي انتظر طويلاً في الخنادق أن يواجهه.
لم تعد إسرائيل عدونا التاريخي.
«هذا كذب.. أنا لا أعرف من أنتم، ولا من أين أتيتم.. إن ما أعرفه جيداً أن هذا البيت بيتي، وأن واجهته خمسون متراً بالتمام، وإذا كنت لم أفكر فى إعادة قياسه منذ زمن بعيد، فذلك لثقتي بأن الأرض لا يمكن أن تضمر بفعل الزمن».
كانت تلك نبوءة مبكرة في منتصف سبعينيات القرن الماضي تضمنتها مسرحية «محمود دياب» «الغرباء لا يشربون القهوة»، عن حجم ما سوف يحدث من تجريف لأي معانٍ حاربت من أجلها مصر.
في نبوءة ثانية استبق التطبيع مع إسرائيل بإعلان استحالته في مسرحية «أرض لا تنبت الزهور».
«إن الحب لا يقحم على قلوب الناس بزواج ملك من ملكة.. خذها حكمة من الزباء ولا تنسها أن أرضاً ارتوت بالدم لا تنبت زهرة حب».
هذا رهان على كسر شوكة التطبيع بالمجان والسلام بالقوة.