الدولة الإسلامية والدولة الدينية..عبد الغني سلامة

الأربعاء 16 سبتمبر 2020 03:00 م / بتوقيت القدس +2GMT
الدولة الإسلامية والدولة الدينية..عبد الغني سلامة



طوال العصور الماضية لم تكن البشرية تعرف مفهوم "الدولة" بالمعنى المعاصر؛ أي بأدواتها وأركانها ومؤسساتها كما هي الآن، فهو مفهوم جديد وغير مسبوق، ظهر لأول مرة بعد الثورة الصناعية، ضمن ظروف تاريخية معينة أنتجتها واستدعتها تلك المرحلة.
الدولة الحديثة يحكمها دستور (عقد اجتماعي مكتوب)، وهو مرجعية حاكمة لتنظيم التوازن وحدود الصلاحيات بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وتحديد طريقة تداول السلطة، وصلاحيات الرئيس ومدة ولايته. وللدولة منظومة تشريعات وقوانين تكفل حُسن إدارة الشأن العام، وتضمن حق المواطنين بممارسة حرية الرأي والتعبير والتنظيم، وغيرها من الحقوق المدنية، وتكون الأمة هي مصدر السلطات من خلال ممثليها، وهم أعضاء البرلمان المنتخبون، ولهذه الدولة مؤسسات (وزارات، برلمان، جيش، أجهزة أمنية، سجون، محاكم، هيئات رقابية، سفارات..).. هذه كلها تقريباً لم تكن موجودة في النظم الحاكمة السابقة.. أو كانت بأشكال بدائية ولم تعد صالحة الآن، حيث تجاوزها الزمن.
وكذلك، فإن النظم الاقتصادية (الرأسمالية والاشتراكية) نظم حديثة، ظهرت لأول مرة إبان الثورة الصناعية، وتقريباً جميع مفردات ومكونات وأركان تلك النظم لم تكن معروفة سابقاً، وبالتالي إذا أراد أي نظام اقتصادي أن يحل محل النظم السابقة (الاقتصاد الإسلامي مثلاً)، فعليه أن يوائم نفسه مع تلك المكونات والأركان، التي لا غنى عنها في الحياة المعاصرة، ويستحيل إلغاؤها كلياً، إنما من الممكن تعديلها وتطويرها، ولكن ضمن حدود معينة.. فالمسألة ليست بالرغبات والشعارات.
وغني عن القول، أن أي تحديث أو تطوير في النظام الاقتصادي سيكون عبارة عن اجتهادات بشرية (من منظور وفلسفة أيديولوجية)، حيث أن تلك المفردات لم ترد لا في القرآن ولا في السُنّة. وبالتالي فإن تلك الاجتهادات ستكون موضع نقاش، لأنها غير مقدسة.
حسب علماء الدين الإسلامي، فإن للشريعة مقاصد معينة، تريد الخير للبشر، ودرء الشرور والمخاطر عنهم، وهذا بالمصطلحات الحديثة يعني تحقيق العدالة والمساواة، والأمن، والرفاه الاجتماعي، وضمان السلم الأهلي، وبالتالي ستكون تلك أهداف الدولة الإسلامية.. وأعتقد أنه لا يوجد من يعترض على تلك الأهداف، فهي نفس أهداف الثورات الاجتماعية (بمختلف منطلقاتها)، ونفس أهداف الدولة الحديثة، ولكن مع اختلاف الأساليب والأدوات.
بمعنى آخر، ليس مطلوباً من الدولة إرسال غفران خطايا الناس، أو إرغامهم على الصلاة والحج.. بل المطلوب منها توفير الخدمات الأساسية التي يحتاجها كل مواطن، وهي: أمن واستقرار وسلم أهلي، نظام تعليمي متطور، تأمين صحي، مساكن لائقة، توفير فرص عمل، بنية تحتية محترمة من شوارع ومياه وكهرباء وجسور وسدود وصرف صحي، بما يضمن بيئة سليمة وغذاء صحياً ومياهاً نظيفة، وضمان حقوق المواطَنة الكاملة، كحق التعبير، وإنشاء أحزاب ونقابات وجمعيات، وحق تولي المناصب العامة، وحرية التنقل.. بالإضافة لواجبات الدولة تجاه ذوي الإعاقة، والشيخوخة، والأطفال، والفئات المهمشة.
وهذه كلها تحتاج لنظام سياسي يضمن تحقيقها بعدالة، وعلى أسس عادلة، وتحت مظلة القانون.. نظام خال من الفساد (أي لديه آليات كشف الفساد ومحاربته)، نظام لديه قضاء مستقل، وصحافة حرة، وجامعات متطورة، وبحث علمي، ودعم حقيقي للإنتاج الزراعي والصناعي، وتعددية سياسية، وتداول سلمي للسلطة.  
ومن البديهي أن ما سبق يحتاج قوانين عصرية تنظمها.. وطالما أنها قضايا مستحدثة وجديدة في أغلبها، ولم تكن موجودة في العهود السابقة، أو أنها كانت موجودة ولكن بصيغة بدائية وبسيطة، وأصبحت الآن شديدة التعقيد.. فهذا يعني أن النصوص القديمة لن تكون كافية، وبحاجة لتطوير، أي تحتاج اجتهاداً بشرياً خالصاً، غير معصوم من الخطأ، ولا يحظى بأية قداسة.
جميع ما سبق يمكن لأي نظام سياسي أن يحققه، أو على الأقل أن يدعيه، ويستخدمه كشعارات دعائية.. ومن الممكن أيضا للدولة الإسلامية أن تحققه، شريطة أن تحدّث خطابها وتطور فلسفتها، لدرجة القطيعة مع أي نصوص لا تتوافق مع معطيات العصر الحديث.. ربما أدعي أن حزب التنمية والعدالة التركي وحده من حقق معظم ما سبق، بينما الأحزاب الإسلامية في المنطقة العربية عموما ما زالت بعيدة جدا عن تحقيقها.
ولو ألقينا نظرة سريعة على مجمل التاريخ الإسلامي، سنجد أن الدول التي حكمت باسم الخلافة كانت في واد آخر ومختلف.. فلو أردنا استحضار أمثلة على عهود سادت فيها العدالة والأمن والاستقرار فلن نجد سوى مثالين: فترة الخلافة الراشدة، وبالذات في عهد عمر بن الخطاب، وفترة حكم عمر بن عبد العزيز، وهي فترة لا تتجاوز السنتين.. ولو أردنا استحضار أمثلة لعهود سادت فيها العلوم والفلسفة والآداب والفنون والعمارة.. سنجد ما يسمى بالعصر الذهبي للحضارة الإسلامية، والتي دامت ثلاثة قرون فقط (800-1100 م)، ومن جانب آخر هي  الفترة  التي سادت فيها الثورات والاضطرابات والفتن والمفاسد والصراع على السلطة.. وخلاف ذلك، يمكن التغني بالانتصارات العسكرية وأمجاد الفتوحات، وبناء القصور والقلاع، ولا شيء غير ذلك.
اليوم، نحن في واقع مختلف كلياً، واقع مزرٍ، كله مآسٍ، وتخلف، وحروب أهلية، وضعف، وهوان، وتشرذم. بعض الحركات الإسلامية تناضل بصدق وإخلاص من أجل تغيير هذا الواقع جذرياً، وتطرح بديلها المتمثل بالمشروع الإسلامي.. وبعض الحركات الأخرى جل همها الوصول للسلطة، أو المشاركة فيها، أو لأجل المعارضة فقط، أو لإدامة الصراعات برؤية سياسية ضيقة ومتخلفة، وبأساليب غير إنسانية.
الحركات الإسلامية المخلصة، تطرح مشروعها بوصفه البديل الشامل، والذي من خلاله ستبني دولة مثالية، يعمها الرخاء والعدل والتطور والأمان.. بما يعني نهاية التاريخ، ونهاية الصراعات، وحل جميع المشاكل حلاً جذرياً.
سواء كانت تلك الأماني والأهداف ستتحقق دفعة واحدة (بمجرد تنصيب الخليفة)، أو على مدى عقد أو عقدين من الزمان.. في جميع الحالات، يمكن توصيف تلك الأطروحة ضمن أطروحات نهاية التاريخ، التي تحدثت عنها معظم الأنظمة الشمولية، التي وعدت شعوبها باليوتوبيا، كما تحدثت عنها أطروحات صراع الحضارات.. وهي أطروحات أفلاطونية، تطهرية، مترفعة، منفصلة عن الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي شديد التعقيد.. ولا أناقش هنا صدقية هذه الدعوة، إنما أضعها أمام تحديات وعراقيل وصعوبات لا تنفع معها الشعارات، والعبارات المنمقة، وهي اختبارات يتعذر تجاوزها.. وهذا الحكم ينطلق من خلال عنصرين: التجربة التاريخية، ومحتوى النظرية الأيديولوجية التي تحملها الحركات الإسلامية؛ والتي لم تُنتج سوى أنظمة شمولية استبدادية.