عزمي بشارة والإسلاميون: همسة عتاب!! ،،، د. أحمد يوسف

الأحد 06 سبتمبر 2020 02:11 م / بتوقيت القدس +2GMT
عزمي بشارة والإسلاميون: همسة عتاب!! ،،، د. أحمد يوسف



قد يختلف الكثير من الإسلاميين مع د. عزمي بشارة؛ المفكر والمثقف الفلسطيني المعروف، ولكن هذا لا يمنح أيّ واحد منهم أو من غيرهم التطاول على الرجل وتوجيه اتهامات تشكك في وطنيته وسلوكياته النضالية، تحت ذرائع وخلافات سياسية أو أيدولوجية.. لقد سبق لي أن قرأت وشاهدت بعضاً مما كان يطرحه د. بشارة في الأوساط الفلسطينية حول خيار الدولة الواحدة و"دولة لكل مواطنيها"، وكذلك مواقفه ومقولاته المنصفة عن الإسلاميين. كما حظيت باللقاء به -أول مرة- خلال زيارة له للعاصمة الأمريكية واشنطن في بداية التسعينيات، وجمعنا حديث قصير في (المركز الفلسطيني للدراسات السياسية)، الذي كان يشرف عليه د. هشام شرابي (رحمه الله)، حيث تعارفنا وتبادلنا بعض وجهات النظر حول الأوضاع في قطاع غزة والانتفاضة الفلسطينية، وقد شعرت حقيقة أن الرجل صاحب رؤية ومشروع سياسي نهضوي، وأنه كمفكر لا يكن أي عداوة أو كراهية لخصومه السياسيين، كما أنه لا يحمل أي ضغينة تجاه القوى والتيارات الإسلامية، وقد أشاد وقتها بحركة حماس وما تمثله من فكر نضالي وفعل مقاوم للاحتلال.

للأسف؛ إن ما سمعناه –أخيراً- من انتقادات طالت الرجل من بعض الأقلام والوجوه الإعلامية على شاشات فضائية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي كان فعلاً مشيناً، ولم يكن أكثر من مهاترات سياسية خرج بعضها عن مألوف ما نسميه بـ"أدب الحوار" ومنهج الاختلاف، والذي كنَّا نتمنى أن يترفع بعض الإسلاميين أو المحسوبين عليهم من الولوغ فيه، ليظل النقاش حضارياً وفي دائرة الرأي والرأي الآخر. إن اتهامات الخيانة لو أطلقنا العنان لها فلن ينجو منها رجل سياسي معارض أو صاحب فكر وأيدولوجيا، في ظل ما هو قائم من اصطفافات بين أكثر من معسكر تمثل –للأسف- العديد من الأنظمة المتصارعة في المنطقة العربية.

في المشهد الفلسطيني، يعتبر د. بشارة شخصية معارضة لدولة الابرتهايد الإسرائيلية والحركة الصهيونية، ومؤيداً للمقاومة الفلسطينية وحق تقرير المصير، وله آراء سياسية نشرها بقلمه في الكثير من الصحف والمجلات العربية والعالمية، خلال فترة وجوده في الداخل كأستاذ جامعي أو نائب في الكنيست أو بعد خروجه من الوطن عام 2007 هروباً بحياته من حكم بالسجن المؤبد كان ينتظره في إسرائيل.

لا شك أن د. بشارة هو مفكر عربي صاحب رأي، ويمتلك رؤية لمشروع نهضوي عربي، وقد أقام له مرتكزات تعجل بتجسيده على الأرض على شكل شبكة من المؤسسات العلمية والبحثية والإعلامية، ونجح بامتياز في إقناع مموليه من العائلة المالكة في قطر، بدءاً بالشيخ حمد عندما كان رئيساً للبلاد، ثم ابنه الرئيس الحالي سمو الشيخ تميم، حيث وفرّوا له ما يلزم من الميزانيات للوصول إلى ما وصل إليه، وقد سبق لهم كذلك أن أفاضوا على الإخوان من المنح والعطايا أكثر مما ناله د. عزمي بشارة، ولكلٍّ منهما - اليوم - في قطر بصمة وحظوة وأثر. وإذا كان د. بشارة قد حظي اليوم بمكانة لدى الأمير تميم ربما يجد فيها بعض الإسلاميين –خشية أو حسداً- أنها تزاحم مكانتهم ودلالهم عند صاحب السمو، فهذه مسألة لا حيلة لأحد فيها؛ لأنها من متعلقات القلب والعاطفة، التي لا يملك المرء معها إلا القول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك". وهذا حق له يمكن لمن يخالفه الرأي من الإسلاميين أن يجادله فيه بالتي هي أحسن.

لم أشك يوماً بوطنية د. بشارة، بل كنت أنظر إليه كأيقونة فلسطينية نعتز بها ونفخر، ولكن هذه الاتهامات والإدعاءات المغرضة التي سمعتها من بعض الإسلاميين وكذلك من الصهاينة استفزتني كثيراً، وحملتني على مراجعة سيرة الرجل والاستماع لكل أحاديثه المتلفزة وقراءة بعض ما كتب، والاتصال بعدد كبير من الشخصيات الإسلامية التي عرفت الرجل وتعاملت معه، وقد وجدت كل ما يؤكد قناعتي واعتزازي بوطنية وأستاذية ابن فلسطين البار.

كان أول من قصدت بالسؤال عنه الإسلاميون داخل الخط الأخضر، حيث أجابني الشيخ إبراهيم صرصور؛ أحد قيادات الحركة الإسلامية، بالقول: "إن د. عزمي بشارة كان شخصاً قريباً منَّا، وكان يحرص في أنشطته على التنسيق والتعاون لتجميع الكل العربي داخل الخط الأخضر، والرجل كمفكر عربي ينظر للإسلام كمكون حضاري وهو أحد مرتكزات الأمة في سياقها الديني والقومي". وأضاف: "لم أشعر بأن د. بشارة يحمل نبرة سلبية تجاه الإسلام أو الإسلاميين، وكانت استعداداته للبحث عن المشترك فيما بيننا دائماً حاضرة، كما أن مواقفنا تجاه سياسات إسرائيل العنصرية كانت متطابقة بشكل عام.. وفي السياق الوطني، لم نشهد على الرجل إلا كل خير، وإن تلك الادعاءات التي تطاول بها البعض تأتي في سياق الظلم والتحامل والعدوان، فهو - في الحقيقة - بريءٌ تماماً من مثل هذه التخرصات ومما وجه له من اتهامات بأنه يحمل مشروعاً يخدم فيه أعداء الأمة".

أما د. هاني البسوس؛ أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الإسلامية في غزة، فأشار إلى أن د. عزمي بشارة هو مفكر عربي وناقد سياسي من الطراز الأول، وهو شخصية موضوعية وغير متحيز في كتاباته إلى أي جهة سياسية". وأضاف قائلاً: "لم يُدخل د. بشارة فكره ولا شخصه في اصطفافات سياسية ولا فكرية ولا مذهبية، فهو صاحب مبدأ ولم تغيره التقلبات السياسية الإقليمية"، لقد دافع د. بشارة حقيقة عن الإسلاميين والعلمانيين ممن وجد فيهم السلوك السياسي الراشد، وهو من أشد النقاد لأصحاب العشوائيات السياسية ومنتهزي الفرص الوظيفية، ولا أظنه ممن تغويه المناصب ولا المال، حيث ترك منصبه السياسي ووطنه فلسطين مجبراً على ذلك، لايمانه بقضيته وعدالتها".

أما د. أحمد دلول؛ مدير دائرة البحوث والدراسات بمعهد بيت الحكمة، فعلَّق مستخفاً بمحاولة البعض التشكيك قائلاً: "إن د. عزمي بشارة تعرض في السنوات العشر الأخيرة إلى هجمات موجهة استهدفته من بعض وسائل الإعلام ومن بعض أساتذة الجامعات الذين -على الأغلب- لم يقرأوا له، ولكن حسداً من عند أنفسهم.. وأنا على الصعيد الشخصي لا أصدق مثل هذا الهراء؛ لأنَّه بصراحة يتعارض مع سلوك وممارسات د. بشارة، الذي وقف في المربع المقابل للاحتلال الإسرائيلي. في الحقيقة، لقد كنت على الدوام متضامناً مع د. بشارة، ولا أبالغ لو قلت بأنَّ الإنجاز الفكري الكبير له كان أحد أهم الروافد الفكرية بالنسبة لي وللكثير من أبناء جيلي، حيث بدأتُ بدراسة كتابه "الصهيونية من يهودية الدولة حتى شارون" خلال مرحلة الماجستير، وصرتُ بعدها أتابع كتبه ودراساته ومقالاته التي تملأ مكتبتي الخاصة، وكانت دراسة "المثقف والثورة" واحدة من الدراسات التي اعتمدت عليها في كتابة أطروحة الدكتوراه". وأضاف: "إن استهداف د. بشارة عمل شيطاني يهدف لاغتياله معنوياً بسبب الإنتاجية الفكرية الكبيرة له، من خلال مشروعه الفكري (المعهد العربي) ومشروعه الأكاديمي (معهد الدوحة)، في ظل تراجع الإنتاج المعرفي في الوطن العربي، وكذلك بسبب وجوده في دولة قطر، ولو كان في دولة أخرى غير قطر لصنع الإعلام منه أسطورة".

أما د. نشأت الأقطش؛ أستاذ الإعلام والعلاقات العامة بجامعة بيرزيت، علَّق على من تطالوا على د. بشارة، بالقول: "الرجل مفكر ومثقف حقيقي فوق الشبهات، وله بالجامعة ذكريات طيبة ومكانة بين الأساتذة والطلاب، وهو سنديانة وطنية في مواقفها ضد الاحتلال". وختم بالقول: " د. عزمي.. لا عليك، فإنهم يجهلونك"!!

الجدير ذكره أن د. بشارة كان دائماً داعماً للثورات الشعبية ضد الظلم والاستبداد في العالم العربي، الأمر الذي عرَّضَه لغضب ما يسمى بـ"الأنظمة الثورية!!!" كنظام بشار الأسد، والذي أصبح يكيد له كما تكيد إسرائيل.

إن د. بشارة هو شخص ليبرالي/قومي متنور يؤمن بالتعددية، ويؤمن بحق الإسلاميين بأخذ دورهم الكامل في الحكم إذا اختارتهم شعوبهم عبر صناديق الاقتراع، ويرفض كل سياسات الإقصاء التي تمارسها الأنظمة الانقلابية والديكتاتورية ضدهم، وهو شخص غير متعصب وينظر بإيجابية جداً إلى دور الإسلام والمسلمين التاريخي، ومساهماتهم في بناء الحضارة الإنسانية.

كما أنه يؤمن بأن التيار الإسلامي المعاصر -وخاصة الإخوان المسلمون- له رصيد تاريخي في تحريك وعي شعوب المنطقة، وهو ما يجعل من حقهم ممارسة العملية السياسية أسوة بغيرهم، دون حظر أو قيود.

كما أن د. بشارة لديه القناعة بأن الصراع اليوم ليس بين إسلاميين وليبراليين، وإنما بين إسلاميين وليبراليين متنورين وديموقراطيين من جهة، وبين ليبراليين وإسلامويين استئصاليبن وموالين للحكام المستبدين من جهة أخرى.

إن د. بشارة من المشاركين في المؤتمر القومي - الإسلامي الذي يسعى لتعزيز التفاهم بين التيار الإسلامي والقومي، والذي أصبح الصراع بينهما معوقاً أساسياً لنهصة الأمة.

ومن باب الاطمئنان لصلابة ما أعتقده من طهارة الرجل ومواقفه، تواصلت مع عددٍ من الإسلاميين الفلسطينيين وحتى القطريين للسؤال حول ما يثار من هواجس واتهامات للرجل ولما يشكله مشروعه النهضوي. في الحقيقة؛ لم أجد عند علية القوم منهم أي أثر لمثل هذا القلق والخوف المفتعل، وأن المسألة لا تعدو أكثر من مشاعر يمكن وصفها بـ"الغيرة والحسد"، وهي ظاهرة يتعرض لها كل أصحاب النجاحات والتميز والإبداع، حتى بين أبناء التنظيم الواحد.

لقد تواصلت كذلك مع بعض خريجي معهد الدوحة للدراسات العليا، التابع لإدارة وتوجيه د. بشارة، ممن كان لي شرف تزكيتهم للدراسة هناك، فكانت إجاباتهم تعبر عن الثقة برسالة المعهد ودوره وتأثيره

في ارتقاء حركية الوعي وصفاء الرؤية عندهم، بعيداً عن الغلو والتطرف والحسابات الطائفية والحزبية.

فالإعلامية إسراء صالح عبرت عن تجربتها بالمعهد، بالقول: " في الحقيقة، قبل التحاقي بمعهد الدوحة، لم يكن المشهد العربي الأكاديمي مُفرحًا بالنسبة لنا كشبابٍ عربي، فقد كان يتسمُ بالعجز والقصور في بلادنا المنكوبة على وجه الخصوص. لذا، حينما افتتح المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات معهد الدوحة بتخصصات نوعية وفريدة قوامها التفكير النقدي، كان بالنسبة لي هو الملاذ الأول وبصيص الأمل لما افتقدناه في بيئتنا العربية. وحينما ننظر إلى من يقود القاطرة لا يعود هذا الأمر غريباً، حيث إن د. عزمي بشارة ومُنذ أن تفتحت عيني على حقل المعرفة والوعي كان هو رمزًا للثقافة والفكر والتحليل والثورة.. والآن من حرصه على المنطقة العربية والشباب، أوجد بيئة بحثية تحتضن تطلعاتهم على أُسسٍ علميةٍ رصينة، فكانت وصيته الدائمة لنا في كل مُحاضرة أو ندوة أن أساس أي نهضة يقوم على أسس علمية ونظرية، وهو ما نحتاجه في دراسة المشهد العربي وتناول مُشكلاته". وأضافت: "أعتقد أنه في ظل عصر الطائفية -الذي تجاوزناه في المعهد باحترام كُل شخص للآخر- وتفكك الدول

وشتات الشباب نحن بحاجة ماسة إلى إحداث فرق في العقول على أساس علمي ونقدي وبموقف أخلاقي يُعيننا على النهضة والتقدم مثلما حدث معنا أنا وزملائي في المعهد بفضل اللبنة الجوهرية التي أسسها المُفكر عزمي بشارة".

أما الباحث الشاب محمود العيلة، فقد عبَّر عن رؤيته لتجربته بالقول: "سنتان من الدراسة والمداومة البحثية في معهد الدوحة والمركز العربي، كانت جيّدة للتعرف على فضاءات واسعة من الثقافات والأفكار، والانخراط في مجتمع مصغَّر غير متجانس، من حيث الفكر والمعتقد والسلوك البحثي، كان من الجميل وأنك عندما تستمع لإحدى المحاضرات حول العلمانية، فيتناهى إلى سمعك أذان الظهر من مسجد معهد الدوحة. لقد تركت تجربة الدراسة والعمل داخل أروقة معهد الدوحة والمركز العربي لأي شخص الانفتاح على جمْعٍ ممتدٍ من الأفكار المختلفة، وجعلت الانطلاق من المسألة البحثية أمرًا متناسقَ المظهر، يُعطي الباحث والسائل أرضية خصبة ومرنة للانطلاق نحو المحاججات الصرفة التي تجعل مسألة التقارب أو "التفهُّم الفكري" بين الأفكار أمرًا ممكنًا، بعيدًا عن المصطلحات الثقيلة كالسلطوية، والإقصائية، والتهميش".

لقد عبَّر د. بشارة عن ارتياحه لعلاقته بالإسلاميين من خلال الكثير من التصريحات المنصفة لهم، حيث أشار إلى أن من يتهم حماس بأنها حركة تكفيرية هو إما مغرض أو لا يدري عمَّ يتكلم.. وإن من يرى إمكانية إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني دون التيار الإسلامي الواسع على الساحة، فهو لا يتحدث عن معرفة وتحليل يؤسس لرأي مختلف حول إعادة بناء المشروع الوطني، بل يقصد في الواقع مشروعاً آخر.

كما أن مواقفه الداعمة لثورات الربيع العربي كافية للجم أفواه كل من يحاول تشويه مساره النضالي، وحرفه في سياقات لا تحمل همَّ الوطن ونبض الأمة.

إن د. بشارة هو مفكر عروبي متميز، وتملأ أدبياته الساحة الثقافية، وهو أستاذ جيل عن جدارة واستحقاق، حيث لم تترك بصمات فكره آثارها فقط على العلمانيين، بل أودعت الكثير من تأثيراتها حتى على أدمغة الإسلاميين وتوجهاتهم، وخاصة أولئك الذين تسنى لهم الاستماع لأحاديثه المتلفزة أو الاطلاع على كتبه ودراساته الفكرية وتنظيراته السياسية المعمقة.

بإختصار: إن د. بشارة مفكر يمتلك رؤية لنهضة الأمة العربية، وهو أستاذ جيل وصاحب مدرسة نقدية، وإن إسهاماته المعرفية سيكون لها نصيبها في إعداد الجيل الذي ستبنى على كاهله مقومات نهضة الأمة خلال السنوات العشرين القادمة، وإن كانت خرائط هذا المشروع تديرها وتشرف عليها حالياً العديد من المكاتب الهندسية والحركية في الفضاء الشرق أوسطي الواسع، والمركز العربي للابحاث ورسم السياسات هو واحد من بين هذه المرتكزات والأركان الفكرية، التي سترتفع عليها قوائم هذه النهضة، التي نطمح لها جميعاً من إسلاميين وليبراليين.

إن علينا كإسلاميين أن نحرص على بناء الجسور مع الآخرين، وأن نتعلم بأن هذه الجسور هي من ستعيننا وتمهد لنا طريق الخلاص، إذا ما تحركت رمال الموت ودكتاتوريات الظلم من تحتنا. إن د. بشارة -اليوم- هو رأس جسر وطوق نجاة فوق تلك الرمال المتحركة، وهو شريك وطني برؤية أممية حضارية لا بدَّ من الحفاظ عليه والوثوق به، لتحقيق ما نتطع إليه من نهضة لأمتنا العربية والإسلامية.