غزة وكل هذا البؤس..سما حسن

الخميس 03 سبتمبر 2020 04:36 م / بتوقيت القدس +2GMT



في ليلة حالكة السواد، فلا كهرباء ولا بديل عنها بطريقة آمنة، قضى ثلاثة أطفال اثر اشتعال حريق في الغرفة التي ينامون فيها، فالأب قد تركهم نياما وتسلل إلى الطابق الأرضي ليقضي سهرته مع والديه، وترك شمعة مشتعلة عند الأطفال لكي لا يشعروا بالخوف من الظلام الدامس، وهو لا يدري انه قد ترك بينهم قنبلة سوف تنفجر وتقتلهم، ولم يكن يعلم أنه قد تسبب بقلة حيلته في موت أطفاله الأبرياء.
إنها قصة، كل فترة تتكرر، وقد سمعناها ونشرت عنها وسائل الإعلام مرارا وتكرارا، عن هؤلاء الصغار الذين يدفعون ثمن شح الكهرباء في غزة، ويدفعون ثمن أشياء كثيرة عبارة عن أساسيات لا تتوفر لهم ليعيشوا شبه حياة، وقريبا جدا من الموت.
في غزة، حيث تسلل فيروس كورونا إليها، واصبح اكثر من مليوني مواطن مهددين بالإصابة بالفيروس، وصار هاجس الإصابة هو الذي يطغى فوق هواجس كثيرة سابقة ومعتادة ما بين الفقر وقلة الماء وندرة الكهرباء، وتلوث ماء البحر متنفس غزة الوحيد، وبطالة الآباء وضيق حالهم، والحصار وإغلاق المعابر ومنع التنقل والسفر، وكل هذا يعانيه الصغار والكبار منذ سنوات الانقسام تحديدا.
غزة، اليوم، تواجه بقلة حيلة وبيدين خاليتي الوفاض وحشا اسمه فيروس كورونا يقارب أن يتمكن منها، مع نقص كبير في الموارد الصحية وضعف المتوفر، ورغم كل الجهود المبذولة منذ شهور لمنع دخول الفيروس والذي هددت منظمة الصحة العالمية مرارا من مغبة وصوله إلى غزة، إلا انه قد دخل غزة، وأصبحت أعداد الإصابات في تزايد مستمر.
اليوم، وفيروس كورونا ينتشر ويتوسع في رقعة ضيقة لأن قطاع غزة يصنف من أعلى مناطق العالم في الكثافة السكانية، اصبح الموت مكشرا عن أنيابه، واصبح لسان حال السكان الفقراء البسطاء هو «ليس لدينا ما نخسره».
تخيلوا الأب الذي ترك أطفاله الثلاثة مع شمعة ونزل ليقضي سهرة بسيطة قبل أن يخلد إلى النوم، الأم في بيت أهلها بعد مشاكل كثيرة مع الزوج والسبب واضح ومعلوم وهو ضيق ذات اليد، فالأب حين يكون فقيرا لا يمكن أن يختار «عشة» في الطابق السادس لكي ينام فيها صغاره، ولكنه فقير لدرجة لا تصدق، ولدرجة أشعلت المشاكل بينه وبين زوجته التي ربما دفعها ألمها وحزنها على صغارها أن تترك البيت حيث لم تعد قادرة على تحمل العوز والحاجة، ومعظم الأمهات يحتملن الحاجة لأنفسهن ولكنهن لا يحتملن مرأى أطفالهن وهم يتعذبون لنقص المال الذي بإمكانه أن يوفر لهم حياة كريمة وليس حياة باذخة.
ربما يلام الأب الذي ترك أطفاله، ولكن الإنسان أحيانا ولشده فقره وبؤسه يرى أن أي شيء افضل من لا شيء، ربما فكر ان شمعة تضيء ليل صغاره، أفضل من أن يتركهم للظلام وحيث تحل الكوابيس والرؤى المخيفة، ربما فكر أن ما بهم من فقر وعوز وبؤس وحرمان من حرمان الأم وعنايتها كافٍ لدرجة كبيرا، فلن تهددهم شمعة مشتعلة، ربما تترفق بهم وهو لا يعلم أن النار لا ترحم، وان الشمعة المشتعلة لا تقرأ لغة العجز أبدا.
غزة بائسة أيها العالم، بائسة لدرجة أن السيطرة على الناس وإبقائهم في بيوتهم يشبه المعجزة، معظم أهل غزة متعلمون ويقرؤون عن فيروس كورونا وكيفية انتقاله، ولكنهم ضعفاء ومتهالكون أمام تكدس بيوتهم وحرارة الجو اللاهبة والقرميد والصفيح الذي يعلو بيوتهم ويحيطها.
مخيمات شمال غزة، هي ذاتها المخيمات التي سطرت اروع حلقات وقصص ومسلسلات النضال إبان انتفاضة الحجارة، ينهش بها الفيروس ويسجل أعلى معدلاته، تلك المخيمات التي خرجت العباقرة والساسة والقادة والعلماء، وانتشر هؤلاء حول العالم، اليوم، يفتك بها الفيروس وأهلها في فقر مدقع نتيجة الحصار والبطالة وزيادة عدد السكان المهولة والتي يصعب السيطرة عليها في رقعة ضيقة، وكأن لسان حال الفقراء أن لا فرح يدخل بيوتنا إلا من خلال حفلات الزواج التي يشارك فيها الأحبة.
ان غزة بائسة يا رفاق، غزة التي سطرت من البطولة مجلدات ومجلدات، وتغنى بها وببحرها القاصي والداني تقف وحيدة تنتظر الغوث، وتنتظر ألا تلام، لا لوم على الفقراء الذين استجاروا بشمعة من انقطاع الكهرباء، فكانت الشمعة قاتلة أحبتهم، لا لوم يا رفاق.