قيل الكثير عن «صفقة القرن»، و»التطبيع» الإسرائيلي ـ الإماراتي، ولكن العلاقة بين الأمرين لم تتضح، في الأذهان، بصورة كافية بعد. ولا يبدو من السابق لأوانه القول إن «التطبيع» مكوّن رئيس من مكوّنات «الصفقة»، وأن «الصفقة»، في الجوهر، عبارة عن سوق وبزنس يدشنان مشروعاً لتحوّلات اجتماعية وثقافية وسياسية راديكالية وبعيدة المدى، في العالم العربي والشرق الأوسط. وبهذا المعنى، في «جذع المشروع»، و»غصن التطبيع»، ما يتجاوز فلسطين والفلسطينيين.
وسواء أحببنا أم كرهنا، أصبح المشروع على الطاولة. ولن يوقفه شيء. ومع ذلك، لعل في تحليله بطريقة صحيحة، ما يُسوّغ لنا الكلام عن أزمته البنيوية، وتشخيص عوامل فناء ذاتية. هذا لا يعني، في كل الأحوال، استبعاد، أو التقليل من شأن، ما سينجم عن الأزمة، وديناميات الفناء، من آلام مُروّعة، نجازف بالقول إنها قد تكون مخاض العالم العربي الجديد على مدار عقود قد تطول أو تقصر، وعلى الأرجح، فإن «ما بعد النسق السعودي ـ الخليجي» هو ما ينتظر العرب في نهاية النفق.
ولكي نمسك الثور من قرنيه، فلنقل إن السمة الرئيسة للمشروع تتمثل في تشكيل وإطلاق التحالف الإسرائيلي ـ السني في الشرق الأوسط. ولا أجد ما يُبرر الاستطراد في هذا الجانب، فقد تناولت في معالجات سابقة دوافع ومبررات أطرافه الفاعلة، بل استكشاف المزيد من دلالات المشروع السياسية، والاجتماعية، والثقافية، ونأمل أن يتصدى خبراء الاقتصاد لسد الثغرات الاقتصادية في التحليل.
وثمة ضرورة، في هذا السياق، للتذكير بأشياء من نوع أن تعبير «التحالف الإسرائيلي ـ السني» شائع ومتداول، ولكن أحداً من مُروّجيه ومستهلكيه لا يغامر بتفسير دلالة «السنّي» كمكافئ للإسرائيلي. فـ «الإسرائيلي» تعبير سياسي ينطوي على دلالات قومية معلمنة في حدود دولة/أمة، أما «السني» فتعبير طائفي، ينتمي إلى ما قبل السياسة، ومفهوم الدولة/الأمة. ولعل في هذا دلالة إضافية على «قلق» مفهوم الدولة الحديثة في العالم العربي.
فالقومية العربية، في أيديولوجيا البعث والقوميين العرب، مثلاً، رأت في «الدولة القطرية» حلاً مؤقتاً، بل وحتى مؤامرة استعمارية، ينبغي القضاء عليها بدولة الوحدة. أما القومية الدينية فتنتقص من مفهوم دولة/أمة بأولوية المذهب الديني والطائفة، فكلاهما معطى مُسبق، ومكوّن هوياتي فوق التاريخ، وأعلى من السياسة والطبقات الاجتماعية. وإذا كان في هذا ما يفسّر الفرق بين تواريخ الحواضر والنسق السعودي ـ الخليجي، فإن فيه، أيضاً، ما يفسّر تلازم صعود القومية الدينية مع صعود النسق نفسه.
واللافت في المشروع (الجذع وأغصانه الكثيرة) أن مكوّناته الشبيهة بقطع الليغو تنزل في مواضعها، بطريقة منطقية تماماً، فمن غير الممكن، مثلاً، التوفيق بين مفهوم الطائفة والطبقة الاجتماعية في المرافعات الأيديولوجية للقومية الدينية، فهي لا تعترف بأولوية التحيّزات والمصالح الطبقية، والقومية، وحتى المناطقية، على مركزية وتحيّزات الطائفة. لذا، تحضر مكوّنات اجتماعية سبقت نشوء الوعي القومي كالقبيلة (وما يتفرّع عنها ويتصل بها من تكوينات اجتماعية) كبديل للطبقة الاجتماعية الحديثة، بل وتُنسب قيم للأولى ندر أن تنالها الثانية.
وإذا كنّا قد تكلمنا في معالجات سابقة عن «أبراهام» الذي هو «إبراهيم»، كتسمية مُضللة تقنّعت بدلالات دينية «مشتركة» بين العرب والإسرائيليين، فإن هذه التسمية تسقط في مكانها الصحيح على رقعة ليغو كوّنتها استيهامات القوميين الدينيين من ناحية، وبذاءة إمبراطورية مأزومة في لحظتها الترامبية، من ناحية ثانية.
والمهم، أن الحفاظ في الذهن على دلالة «السنّي»، وترشيح «جد مشترك» لدور «المُحلل»، وطريقة نزول الأول والثاني على رقعة الليغو، أشياء لا غنى عنها في الكلام عن الدلالة السوسيولوجية لمشروع الحلف. وفي هذا الصدد، وبدلا من مرافعات «نظرية» كثيرة، ثمة ما يبرر الاكتفاء بوسيلة إيضاح وتمثيلات قليلة للقبض على المعنى.
فقبل خمسة أيام وقع اشتباك في «خلدة»، على مشارف بيروت، بين حزب الله و»عشائر عربية» سنيّة طبعاً. وقبل أيام، أيضاً، ترددت أنباء عن وصول قوّة سعودية صغيرة، مع الأميركيين، إلى قاعدة «الشدادي» في ريف الحسكة في سورية، ويُقال إنها تسعى لنزع فتيل التوتر بين «العشائر العربية» و»قوات سورية الديمقراطية». توجد قبائل هذه الأيام، في بلدان مختلفة، تُعلن الحرب، بصرف النظر عن لماذا، وعلى مَنْ، باسمها وصفتها القبلية.
هذا، على أي حال، جديد وفريد. وإذا كانت ذاكرة البعض قوية فمن الجدير ذكره أن «العودة إلى القبيلة» كانت جزءاً من خطاب «الجزيرة» القطرية، في العام 1996، قبل «اكتشاف»، والتحالف مع، «قبيلة» الإخوان. والمهم أن مؤشر «العشائر العربية»، التي لعب بها الأميركيون وعليها في «الصحوات العراقية»، يرتفع في مجتمعات على سواحل المتوسط، وأودية وضفاف الأنهار، وهي مجتمعات ذات بنى اجتماعية زراعية وفلاّحية تخلجنت. وبقدر ما أزعمُ، وأرى، تبدو «العشائر العربية» رافعة اجتماعية موضوعية لمشروع الحلف الجديد.
التكوينات القبلية الصاعدة، والمرشحة كرافعة اجتماعية للحلف مُفتعلة ووهمية في الغالب، ولكن العثور على «جد مشترك» (ومقاومة «سيداو» في فلسطين إذا شئت) أسهل ألف مرّة من الانصهار في بنية دلاونية حديثة، خاصة إذا ترافق مع طائفية القومية الدينية، ومسعى تقويض نموذج الدولة/الأمة، في سياق حروب أهلية، وانهيار مجتمعات وتفكك دول. وهذا كله وثيق الصلة بما ينطوي عليه النسق السعودي ـ الخليجي من استثناءات سياسية وبنيوية وأيديولوجية لا يجاريها ويدانيها سوى ما يوازيها من تجليات الاستثناء الإسرائيلي، على أعتاب «ما بعد الديمقراطية والحقيقة» في «عالم جديد وشجاع». ولنا عودة.