مقولة «الطبع غلاب» في وصف الحالة التونسية تبسطها كثيراً. فالحديث هنا هو عن القناعة الدينية المتجذرة في الوعي الجمعي والفردي لحركة الإخوان المسلمين ومنتسبيها بحقهم المطلق بالحكم منفردين.
وإذا ما وُجدت عوامل وظروف وتوازنات تمنع الانفراد عندها تكون فتوى «التمكين». وهي فتوى تدعو إلى التعامل بالممكن ومع الممكن حتى يتراكم من المتغيرات ما يحقق التمكين للحركة لتنفرد بالحكم، أو لتكون القوة الأساسية والمتحكمة في قيادته على طريق الانفراد التام والكلي به.
حركة الإخوان المسلمين في تونس التي تعمل في السياسية تحت مسمى «حركة النهضة التونسية» مثلت القناعة المتجذرة والفتوى المذكورتين أفضل تمثيل. فقد لعبت دورها بفطنة وذكاء، وعلى قاعدة الوعي والاستيعاب لحقائق وخصوصيات الوضع التونسي سواء الرسمي أو الشعبي، أو لجهة القوى المنظمة في أحزاب وهيئات ومؤسسات المجتمع المدني. وقادها ذلك لتضع نفسها في السياق العام لحراك التغيير في تونس، كواحدة من قواها السياسية المنظمة. قامت بذلك، بشكل واضح التميز والاختلاف عن النهج السافر الذي اتبعته حركات الإخوان في معظم دول «الربيع العربي» الأخرى.
وشكل ذلك مساهمة إيجابية مهمة وفاعلة في سلمية وسلاسة ولا عنف الحراك الشعبي وأدواته في تونس، وفي سرعة وسلاسة التغيير في الحكم الذي تحقق. ولتكون تونس بذلك أول وأسرع بلد من البلاد التي حصل فيها «الربيع العربي» التي تحقق فيها التغيير المطلوب والبدء في بناء النظام البديل.
بلا شك، فقد لعبت شخصية الغنوشي زعيم الإخوان المسلمين (زعيم النهضة) دوراً مركزياً ومهماً في إقرار وقيادة السياسة المشار إليها التي انتهجتها الحركة.
استفاد الغنوشي في ذلك، من تجربته السياسية الطويلة، واستفاد أيضاً من إقامته في السنوات ما قبل بداية حراكات الربيع العربي في أوروبا، إضافة إلى التجاوب والتعاون الذي لقيه من بعض القيادات التاريخية للحركة.
الجماهير تجاوبت مع الحركة ومواقفها، فأعطتها نسبة وازنة في البرلمان في أول انتخابات تشريعية، وعكس ذلك نفسه بنفس الدرجة على حضورها في الحكومة ووزارتها وفي ومؤسسات الحكم الأخرى.
لكن هذا الحال لم يكن مقدراً له أن يستمر لتناقضه مع فكر حركة الإخوان التي تشكل النهضة فرعاً لها، وعادت فتوى «التمكين» والعمل لها وعلى هديها لتلعب دورها. ولم يطل الوقت كثيراً حتى بدأ حديث الشارع عن وجود ميليشيا مسلحة لحركة النهضة تجهز لتخدم مبادئ وأهداف الحركة حسب فتوى «التمكين» للوصول إلى درجة الانفراد بالحكم. وبدا أيضاً، تناثر وانتشار الاتهامات بدور لتلك المليشيا في تصفية رموز شعبية قيادية مثل البراهمي. بغض النظر عن درجة الدقة والموضوعية في تلك الاتهامات أو في درجة ومستوى تقبلها من الشارع السياسي. حتى آخر انتخابات تشريعية تونسية، لم تكن هذه الانكشافات قد حصلت ولا مفاعيلها قد تحققت ولا أعطت تأثيرها الملموس على مستوى الحكم وهيئاته في تونس. لذلك حافظت الحركة على حضورها الوازن ووصل رئيسها الغنوشي إلى موقع رئيس البرلمان.
لكن الانكشاف الأوضح جاء في تعبيرات واضحة الانحياز إلى حركة الإخوان المسلمين الأم وسياساتها وأهدافها.
جاء ذلك بأوضح ما يكون في مواقف معلنة للغنوشي زعيم حركة النهضة ورئيس البرلمان مؤيدة للغزو التركي للدولة الليبية، ومتبرعة في تقديم المساعدة لتسهيل العبور التركي إلى ليبيا واستقراره فيها، وإضفاء الشرعية على وجوده العسكري والاقتصادي والاستثماري فيها وفي مياهها الإقليمية، وفي المياه الإقليمية المجاورة فوقها. وكذلك دعم الوجود التركي في زرع وقيادة وتوجيه المرتزقة في الأراضي الليبية المحاذية للحدود المصرية؛ بهدف زعزعة الاستقرار في المناطق الحدودية المصرية، إضافة إلى دعم إرهابيي الحركة في مناهضتهم للنظام في داخل وعموم الأراضي المصرية.
جاءت هذه الانكشافات على قاعدة انتماء الحزب الحاكم في تركيا إلى حركة الإخوان المسلمين، وتشكيله القيادة الرئيسية للدولة التركية ومؤسساتها المختلفة، ولأجهزتها الإعلامية منها بالذات. إضافة إلى أن تركيا أصبحت هي الملاذ لقيادات حركة الإخوان وكوادرها الهاربين من بلدانهم، ومن مصر بشكل خاص، ومع توفر قناعة تقترب من اليقين أن الحزب الحاكم في تركيا أصبح هو القيادة العالمية لكل حركة الإخوان المسلمين وفروعها.
منذ أشهر بدأ الخلاف والتناقض مع حركة النهضة يأخذ أشكالاً علنية، وفي مواضيع وعناوين محددة في نفس الوقت. وبدأ، وإن بمستوى أقل، يصل إلى الشارع وقواه وهيئاته المجتمعية. وكانت معركة رئاسة البرلمان وسحب الثقة من رئيسه الغنوشي هي العنوان الأبرز.
إن عدم النجاح في تحقيق الأغلبية اللازمة لسحب الثقة من الغنوشي في رئاسة البرلمان بفارق قليل جداً من الأصوات، لا يقلل بحال من جدية واتساع القوى المناهضة لحركة النهضة في البرلمان وفي الشارع التونسي، ولا يقلل من الاحتمالات المستقبلية.
هذا الخلاف والتناقض مرشح للانتشار والتصاعد إلى مستويات أعلى يصعب التنبؤ بمداها. وتعتمد بدرجة كبيرة على تطور وضع الحزب الحاكم في تركيا، ومدى استمرار سيطرته وتحكمه بالسلطة في تركيا ومؤسساتها وأجهزتها.
مهما كانت القدرة والتوفيق في التعامل مع حقائق وتوازنات الوضع، بانتظار تغيرها، فإن حركة الإخوان المسلمين تبقى شديدة الوفاء والالتزام بفتوى «التمكين» وشديدة التمسك بهدف الوصول إلى السلطة والانفراد بها.