بعد احتدام التوتر الناجم عن أزمة الثقة الحادة بينهما وتفاقم التراشق العلني في الإعلام ومنتديات التواصل الاجتماع قرر الحزبان الأساسيان في حكومة الاحتلال “الليكود” و”أزرق- أبيض” النزول عن الشجرة العالية التي تسلقاها وإبعاد شبح الانتخابات الرابعة، لكن ذلك يبدو مؤقتا فقط طبقا لعدد كبير من المراقبين المحليين. وتوصل الحزبان “الحليفان والخصمان” اليوم الى حل وسط مؤقت للخروج من الأزمة الراهنة يتمثّل بـ إرجاء الموعد النهائي للمصادقة على الميزانية العامة الذي كان محددا لـ الخامس والعشرين من الشهر الجاري، إلى موعد آخر بعد ثلاثة أشهر. ويكمن الخلاف بين الحزبين حول الميزانية في المدة التي سينص عليها قانون الميزانية الجديدة، هل ستكون لعام واحد حسبما يريدها نتنياهو، أم ستكون لعامين مثلما يريدها غانتس وحسب ما ينص الاتفاق الائتلافي بين الحزبين؟ ومن المنتظر أن يطرح مشروع قانون إرجاء المصادقة على الميزانية الجديدة على الكنيست للتصويت بالقراءة التمهيدية اليوم الأربعاء على أمل أن يجدا الوقت الكافي لـ حل خلافاتهم بخصوص الميزانية العامة ومنع اجراء انتخابات مبكرة مجددا. ويوجه “أزرق- أبيض” وأوساط إعلامية إسرائيلية واسعة أصابع الاتهام لنتنياهو بخرق الاتفاق مع “أزرق – أبيض” بالرغبة بالمصادقة على ميزانية للعام الحالي فقط بدلا من أن يشمل العام 2021 أيضا كما ينص الاتفاق الائتلافي وكما يؤكد خبراء اقتصاديون بأن هذه هو الإجراء المهني السليم. ويتهم هؤلاء نتنياهو بعدم المصادقة على ميزانية العام القادم كي يحتفظ بـ فرصة لافتعال أزمة جديدة تمكنّه من التحلل من اتفاق التناوب مع غانتس، لتشكيل حكومة ضيقة أو الذهاب لانتخابات جديدة على أمل أن يبقى وحيدا في سدة الحكم. ويخشى نتنياهو وفق هذه الاتهامات من التناوب ويدرك أنه بحال ترجل عن سدة الحكم حتى لمدة وجيزة وفقا للاتفاق الائتلافي سيكون من الصعب جدا أن يعود رئيسا للحكومة خاصة أنه على موعد قبيل نهاية العام الجاري لبدء محاكمته بتهم فساد خطيرة من شأنها أن تطال شعبيته وهيبته ولذا يسعى لتفكيك الشراكة التي دخلها مضطرا قبل شهور.
محاكمة نتنياهو
ويعتقد المقربون لنتنياهو أن الحكومة البديلة برئاسة غانتس ستجعل من السهل على القضاة محاكمة نتنياهو، لأن إدانته لن تكون لها أي أهمية سياسية وسيكون رئيس الوزراء البديل قادرًا على تولي منصبه دون التسبب في صدمات. ويرى مراقبون كثر أن ما يزيد احتمالات سقوط حكومة الاحتلال الحالية أنها ولدت كـ “زواج غصب” بين نتنياهو وبين غانتس بسبب ضغوط الكورونا وتبعاتها وبسبب الاختلاف في التوجهات بينهما حيال مسائل داخلية بالأساس خاصة ما يتعلق بـ حريات التعبير واستقلالية القضاء وغيره لا سيما أن أزمة الثقة والخصومة بينهما باتت شخصية بعدما قال نتنياهو عن غانتس إنه أخرق ومتلعثم وله علاقات غرامية سرّية خارج نطاق الزوجية وإن المخابرات الإيرانية اخترقت هاتفه المحمول وغيرها من التهم الشخصية الطابع التي تترك رواسب وأزمة ثقة عميقة بينهما. وقالت مصادر في الائتلاف للإذاعة العبرية أمس إن نتانياهو وافق على تسوية اقترحها بعض نواب بقية الأحزاب المشاركة في الحكومة بـ إرجاء الموعد المحدد للتوافق على موضوع الموازنة العامة، وذلك بعدما خشي من تأييد “أزرق- أبيض” لمشروع قانون بادرت له كتلة “يش عتيد تيلم” المعارضة القاضي بمنع متهم بأعمال جنائية من تشكيل الحكومة لأن تمرير مثل هذا القانون سيوصد باب الحكومة أمام نتنياهو. وقال: “أزرق أبيض” في بيان اليوم إنه يرحب بموقف الليكود الرامي الى الحفاظ على الاستقرار السياسي وسيواصل العمل على الحيلولة دون إجراء انتخابات عامة. وقالت مصادر في حزبي المتدينين المتزمتين (ياهدوت هتوراة وشاس) لصحيفة “معاريف” إنه يتم التفكير مليا في عدم دعم كتلة اليمين وحزب الليكود كما في السابق إذا ما تم تبكير موعد الانتخابات.
اليمين هو الأقوى
ويتساءل مراقبون محليون ما هو جوهر التغيير الذي سيطرأ على إسرائيل في حال انتهاء عهد نتنياهو نتيجة تصاعد الاحتجاجات وغيرها. ورغم ضبابية مستقبل الاحتجاجات أو الانتخابات الرابعة يبدو الآن أن هناك شبه إجماع على الترجيح بأنه حتى إذا سقط نتنياهو فليس من شأن ذلك أن يعني نهاية حكم اليمين في إسرائيل. ويرى محرر صحيفة “هآرتس”، ألوف بن، في هذا المضمار أن تلك الاحتجاجات لم توجد إلى الآن بديلاً سياسياً أو قيمياً لحكم الليكود واليمين، وأنه حتى في حال ذهاب نتنياهو سيحل مكانه سياسي يميني آخر سيحظى من دون أي جهد كبير بائتلاف حكوميّ واسع ومستقر. وأمام ضعف وتفتت معسكر المعارضة الذي يعرف نفسه بالمركز- اليسار الصهيوني ليس ثمة استطلاع واحد للرأي العام يشير ولو تلميحاً إلى أي احتمال آخر. وبرأي ألوف بن فإن نتنياهو نفسه يشكّل العقبة الأساسية أمام إقامة حكومة يمينية صافية بسبب علاقاته السيئة مع كل من زعماء حزبي “إسرائيل بيتنا” و”يمينا” أفيغدور ليبرمان ونفتالي بينيت وأييلت شاكيد، وميله إلى تفضيل شركاء ضعاف على غرار رئيس أزرق أبيض بيني غانتس. وقد أظهرت جولات الانتخابات الثلاث الأخيرة على نحو واضح للغاية أن أحزاب اليمين والمتدينين والحريديم (اليهود المتزمتين دينياً) تحظى بأغلبية مستقرة في أوساط الناخبين وإذا ما أضيف إليها سارقو الأصوات من الأحزاب الصغيرة التي لا تعبر نسبة الحسم ستكون أغلبيتها البرلمانية أكبر بكثير. ويتابع بلهجة لا تخلو من السخرية: “بالتالي فإن الذي سيستبدل نتنياهو لن يكون أيمن عودة أو يائير لبيد أو غادي أيزنكوت وإنما من يؤيد ضم أراض من الضفة الغربية المحتلة، والاستمرار في انتهاج السياسة الرامية إلى إضعاف حراس العتبة في إسرائيل”. كما ينوّه محرر “هآرتس” ألوف بن بأنه في الواقع القائم خارج تظاهرات “نتنياهو ارحل” تحظى النزعات المتطرفة التي يمثلها رئيس الحكومة وأنصاره بتأييد ثابت في أوساط الإسرائيليين العريضة، وهو تأييد لم يتآكل كثيراً بالرغم من أزمة فيروس كورونا وما تسببت به من ارتفاع نسبة العاطلين عن العمل وازدياد نسبة العجز في الميزانية العامة. ولعل ما يشير إلى ذلك، من ضمن دلائل عديدة أخرى، هو حقيقة أن نفتالي بينيت هو الشخص الآخذ نجمه في الصعود بين أوساط المعارضين لنتنياهو، وفقاً لنتائج عدة استطلاعات رأي عام.
وهم قاتل
ويرى مركز “مدار” للدراسات الإسرائيلية أن ما يعزّز استنتاج محرّر “هآرتس” هو الصيرورة التي آل إليها “اليسار الإسرائيلي” والتي تجعل من الرهان عليه في ظروف إسرائيل الحالية أشبه بوهم قاتل. وربما يتعيّن علينا في هذا الشأن أن نستعيد توكيد بعض أقطاب هذا اليسار حيال مآلاته ويتابع: “فقد ذهب بعضهم إلى أن اليسار الإسرائيلي كان أحد أبرز المدفونين في “القبر الجماعي” الذي حفرته الحرب الإسرائيلية على لبنان في صيف 2006 وأهالت التراب عليه على مجموعة من ساسة إسرائيل وعسكرها وإعلامييها. ومردّ ذلك أنه لم يفعل ما كان ينبغي به أن يفعله وهو معارضة الحرب بصريح العبارة من دون أدنى تلعثم وبقي يمارس “الرقص على حبلين”، بين المعارضة وبين التأييد للحرب، بمسوّغ أنها “عادلة” و”مبرّرة”. وأكد بعض آخر أن تلك الحرب على لبنان دقّت المسمار الأكبر في نعش اليسار، الذي كان يعتبر نفسه معسكر السلام الإسرائيلي، وأن الحديث لم يدر في ذلك الوقت حول ردات فعل عاطفية عابرة، قد تعدّ “نتيجة مطلوبة ومفهومة لمشاعر الغضب والإحباط والخوف”. ويؤكد “مدار” أن هؤلاء الذين كان يفترض بهم أن يطرحوا بديلا لنتنياهو قد داروا حول “مرحلة إضافية في سيرورة عميقة ومتصلة من فقدان البوصلة واللهاث وراء حلول انعزالية وأحادية الجانب، لا بُدّ أن تكون نهايتها الطريق المسدودة وتكريس الصراع”. كذلك يشير “مدار” لتجلي هذا التردي في الموضوع الفلسطيني ويقول إنه قبل تلك الحرب فإن السهولة أو الخفّة، التي هضم فيها “معسكر السلام” هذا ذرائع رئيس الحكومة السابق إيهود باراك بشأن إخفاقه في مسار المفاوضات السوري- اللبناني والمسار الفلسطيني، في العام 2000، كانت بمنزلة أول شهادة على هشاشته. ويؤكد هو الآخر أن ما اتضح لاحقاً هو أن أغلبية الإسرائيليين الذين يتفاخرون بحمل لقب “يساريين” هم ليسوا أكثر من “حمائم تغرّد داخل السرب” لا “حمائم ذات قيم عالمية” (تتجاوز الإطار المحليّ الضيق). وهؤلاء برأيه يؤيدون عملية السلام من منطلق اعتبارات براغماتية تحيل فقط إلى ما يندرج في إطار مصلحة الشعب اليهودي، مثل الميزان الديموغرافي أو ضمان أمن إسرائيل أو دفع ازدهارها الاقتصادي قدماً. أما الصنف الذي يؤيد السلام بدوافع أخلاقية كونية فقد بات صنفاً نادراً، وهذا الصنف هو الذي لا يبحث عن ملاذ في حضن الوطنية العمياء والإجماع العابـر”. وهناك من لا يرى فارقا أصلا بين “الليكود” وبين “أزرق- أبيض” حيال الصراع والاحتلال والقضية الفلسطينية كما تجلى في مسألة مخطط الضمّ وغيره وأن بداية موت من هو خارج كتل اليمين الخالص تعود للوهم بأن “أوسلو” قد حقق السلام ولم يعد هناك حاجة للنشاط والأهم الانتفاضة الثانية والتفجيرات داخل المدن الإسرائيلية.
الإسرائيليون يمين خالص
وهذا ما يراه الباحث في الشؤون الإسرائيلية دكتور مهند مصطفى مؤكدا أن اليمين الإسرائيلي يتجه في العقد الأخير إلى بناء نفسه ككتلة سياسية مهيمنة وأنه لا تغيير جوهريا بعد فترة نتنياهو. مشددا على أن قواعد اليمين بعد 20 عامًا باتت واعية لذاتها ومصالحها، ولذلك كلّما يصعد حزب مركز، وهو ما أصبح “تقليعة انتخابية” في السنوات الأخيرة لأن الكل يريد أن يكون “مركزًا”، لاعتقاده أنّ المجتمع الإسرائيلي “مركز”، علمًا بأنّ المجتمع الإسرائيلي هو “يمين” خالص. موضحا أن هذا اليمين يعتقد أنه موجود في لحظة تاريخية مواتية لتطبيق مشروعه الأيديولوجي ببعديه القومي الاستعماري و”الخلاصي” الديني، ولذلك يجب عدم السماح في هذه اللحظة بالذات أن تقوم حكومة بدون اليمين. الواقع السياسي واللحظة التاريخية المفترضة تلك، أنتجا ما يمكن تسميته كتلة اليمين المهيمنة، وهذه الكتلة تعني أن اليمين فقط هو من يستطيع تشكيل الحكومة لوحده بدون أي حزب أو كتلة من خارجه، في حين أن كتلة اليسار- المركز لا تستطيع أن تشكّل الحكومة لوحدها دون مركبات دينية أو قومية من كتلة اليمين، ويضيف: “هذا الواقع أفرز كتلة يمينية مهيمنة، هي واعية لذاتها وهي، أيضًا، واعية للسياق التاريخي الذي تعيش فيه، وتسعى برغم كل النقاشات والتحولات التي تعتمل داخلها إلى تحقيق هذه التغيرات التي تعتبرها تاريخية وغير مسبوقة من وجهة نظرها”.