"مع الغُرَباء"... شاعر فلسطين القوميّ يكتب خيمته وعودته

الأحد 09 أغسطس 2020 09:13 ص / بتوقيت القدس +2GMT
"مع الغُرَباء"... شاعر فلسطين القوميّ يكتب خيمته وعودته



كتب خالد الجابر :


الشاعر الراحل هارون هاشم رشيد (1927 - 2020)
      
     

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

لعلّ ديوان "مع الغُرَباء"[1] لهارون هاشم رشيد ثاني مجموعة لشاعر فلسطينيّ صدرت عَقيب النكبة عام 1948[2]، وقد وُسِمَ الشاعر على الغلاف الداخليّ للديوان بـِ "هارون هاشم رشيد: شاعر فلسطين القوميّ". أمّا تواريخ قصائده فتتراوح بين 1950 و1954، وتُرِكَ بعضها غُفْلًا من التأْرِيخِ. وللمكان في شعر رشيد خصوصيّته، كما في مُجْمَل الأدب الفلسطينيّ بعد النكبة، لاتّصاله بالتهجير القسريّ، مع أنّه لم يكن أدبًا مكانيًّا محضًا؛ إذ تسوده علاقة جدليّة بين أركان ثلاثيّة: الإنسان – المكان - الزمان، وهي قائمة على اتّزان أركانها؛ فأيّ تغيّر يصيب ركنًا يمسّ الآخَرَيْن. وقد لمس بعض الباحثين تغيّرًا طرأ على هذه الخصوصيّة لأسباب بعضها متّصل بتحوّلات الوجود الفلسطينيّ في الشتات، والقضيّة الفلسطينيّة برمّتها، وأخرى تتّصل بالرؤية العابرة لحدود الجغرافيا الّتي فرضَتْها العولمة في العقود الثلاثة الأخيرة[3].

دالُّ المخيّم

للمخيّم حضوره الراسخ في الذاكرة الفلسطينيّة، والأدب الفلسطينيّ كذلك[4]، ويقترن عادةً بدلالات الظّلم والقهر والألم، والتشريد والنزوح، والجوع والفقر، والتمييز. هذه حقائق عاشها الفلسطينيّ منذ بداية التهجير، وظلّت لصيقة بمَعاشه في الخيام وأكواخ الصفيح؛ بردًا قارسًا في الشتاء، وحرًّا قاتلًا في الصيف، وقد تأسّست في الذاكرة الجمعيّة حتّى حين صار المخيّم مُسْتَقَرًّا ذا بيوت متلاصقة من الإسمنت والطوب[5]. لكنّ حضور المخيّم في السرد قصّةً وروايةً أكثر منه في الشعر، ويمكن تفهّمه في بدايات التهجير؛ فالذات الجمعيّة للجوء الفلسطينيّ لمّا تكن تشكّلت بعد، إضافة إلى أنّ الرؤية الشعريّة في العادة تنطلق بدءًا من ذات فرديّة. ولعلّ هذا يفسّر حضور المخيّم مرّة وحيدة في ديوان "مع الغُرَباء" بصيغة "المُعَسْكَر". جاء في إهداء قصيدة لها عنوان الديوان نفسه: "مُعَسْكَر البريج هو أكبر مُعَسْكَر للاجئين في قطاع غزّة، فإليهم في البريج، وإلى جميع لاجئي فلسطين أُهدي هذه العَبَرات". اللافت أنّ حضور المخيّم لم يكن صاخبًا، إنّما خَيَّمَ عليه الأسى والصمت[6]:

وَقَدْ نامَ البُرَيْجُ أَسًى *** فَلا صَوْتٌ، وَلا نَغَمُ
 

دالُّ الخيمة

الخيمة في الأدب الفلسطينيّ نقيض الطلل في الشعر العربيّ، مع رمزيّة كليهما لمكان يمسّ وجود الإنسان بقوّة، ويحتاج إلى حركة فاعلة في وجه الزمان للإمساك بلحظة من الوجود ثابتة، واقعًا معيشًا، أو مجازًا مُتَخَيَّلًا ذهنيًّا. كان الشاعر العربيّ يعود إلى الطلل فنّيًّا، يَقِفُ عليه ناقته، ويناجيه، ويتذكّر مرابع صباه، وأُلْفَتَه للحياة وأهلها، ويبكي ما ضاع منه في الرحيل حين تنشعب بالحيّ المصائر، وتتفرّق بهم الجهات. والخيمة لم تكن كذلك إطلاقًا؛ لقد مثّلت رمزًا إلى الضياع والمنفى والقبر، وجسّدت في الذاكرة معنى الهزيمة الّتي يجب تجاوزها. الخيمة ليست رمزًا يحنّ إليه الشاعر، إنّما يحنّ إلى الخروج منه، والعودة إلى الوطن[7].

- الخيمة الضياع/ القبر

مثّلت الخيمة للفلسطينيّ الحالة النقيضة للوطن، حتّى وهي فيه؛ فكثير من مخيّمات اللاجئين أُقيمَ للمهجَّرين على أرض فلسطينيّة[8]. هي حالة من الفقد الكامل، والانقطاع الأصيل بين أركان ثلاثيّة: الإنسان – المكان - الزمان، وجد فيها الفلسطينيّ نفسه في عراء خارج السياق الزمنيّ لوجوده. ويتكرّر سؤال المكان معبّرًا عن حالة التيه والضياع بالبحث عن "أين"، ولا "أين" بديل عن المفقود، كما في قصيدة "لاجئ"[9]:

أَيْنَ يَمْضي، راعِشَ السّــا *** قِ، تَـــــــوَلّاهُ الـكُـــــروبْ؟

وَإِلــى أَيْــنَ، وَفـــي جَــــبْـ *** ـــهَـــتِهِ لاحَ الشُّـــحــــوبْ؟

خَيَّــمَ الصَّمْــتُ، فَلا صَوْ *** تٌ، وَلا لَـــحْـــنٌ يُــجــيـــبْ
 

وتكمن أهمّيّة التوازن في ثلاثيّة: الإنسان – المكان - الزمان، في تحقيقه الاستقرار للذات، فإذا انكسر ارتسم التيه قدّامها: تَغيم الرؤية، وتتضاءل الفوارق بين الأمكنة كلّها قبالة مكان وحيد يعيد إليها إحساسها بالوجود، وفقدانه يجعل كلّ ما سواه باليأس من استعادته "قبرًا"، كما في قصيدة "إلى أين"[10]:

أَأَلْقى هُنا، بَيْنَ هَذي الشِّعابِ *** مَكــانًـــا أَحُطُّ بِــهِ "مَدْفَـنـــي"؟
 

لهذا اقترنت الخيمة بالسواد شعارًا للحداد/ الفقد، في تمثيل لاندغام الإنسان بالمكان. المفقود مكان يقتضي إعلان الحداد وارتداء شعاره/ السواد، وذاك أمر يترتّب على فقد إنسان عزيز. كأنّ الذات تفقد نفسها، وتصبح خواءً مفرَّغة من أيّ معنًى للحياة، إزاء الزمان القاهر الّذي ينتهي بحتميّة لا مفرّ منها، هي الموت، كما في قصيدة "سنرجع مرّةً أخرى"[11]:

أَخي، وَالْخَيْمَةُ السَّوْدا *** ءُ قَـدْ أَمْـسَـتْ لَنـا قَبْرا
 

ويبرز الكهف تنويعًا على دالّ الخيمة، ففضلًا عمّا يشي به من رمزيّة للظلام والبرد واللزوجة، وللحياة البدائيّة الّتي سادتها "شريعة الغاب" ومفاهيم القوّة والغريزة، ثمّة دلالات تناصّيّة أخرى في الذاكرة العربيّة يحملها "الكهف" حين يقترن بالذئب، كاشفًا عن اعتقاد دفين بغدر الإخوة، كما جاء في قصيدة "لاجئ في العيد"[12]:

أَأَلْـقـــاهُ بِالــكَــهْــــفِ الــمُـــرَوِّعِ جــاثِــمًا *** يَقُصُّ عَلى الأَقْدارِ أُقْصُوصَةَ الذِّئْبِ؟
 

وليس الكوخ "بيت الصفيح" منهما ببعيد، ولعلّ اقترانه بالخيمة في هذه المرحلة المبكّرة يصوّر تنوّع مظاهر القسوة في حياة اللجوء الفلسطينيّ؛ فثمّة مَنْ "حَظِيَ بخيمة"، وثمّة من اضْطُرَّ إلى تلفيق ألواح من الصفيح توفّر لعائلته مأوًى ما، كما جاء في قصيدة "مع الغرباء"[13]:

وَإِذا مَشَتْ في اللَّيْلِ عاصِفَـةٌ *** وَطَغَـتْ عَلـى الأَكْواخِ وَالْخِيَـمِ

فَلْتَصْبِــري، وَتَـحَـمَّـلـي، فَــغَـــدًا *** لا بُـــدَّ مِــــنْ ثَـــأْرٍ لِـمُــنْــتَــقِـــمِ
 

- الخيمة القسوة

والخيمة عضويّة العلاقة بالفقر والقهر، والبرد والأسى، والألم والجوع والحرمان، والأسمال البالية والتمزيق والهلهلة. هي مفهوم مكانيّ لحياة الشقاء بصورتها الكلّيّة، نفسيًّا، واجتماعيًّا، ومَعاشًا. يطلّ السؤال "لماذا؟" متكرّرًا على لسان "ليلى" الّتي شُرِّدت طفلةً محاوِلةً فَهْم ما جرى، بين ليلة وضحاها، في قصيدة "مع الغرباء"[14]:

لِمـاذا نَـحْـنُ فــي الخَيْـــمَـ *** ـةِ، في الْحَرِّ، وَفي البَرْدِ؟

لِمـاذا نَــحْـنُ فــي الــجــوعِ *** وَفي الأَلَمِ، وَفي السُّقْـمِ؟

لِـمــاذا نَــحْــنُ، يــا أَبَــتـــي، *** لِــمــاذا نَـــحْـــــنُ أَغْــــرابُ؟
 

وأشدّ مصادر القسوة لم يكن في "الخيمة" ذاتها، إنّما في ما اقترن بها من تلميح وغمز ولمز. مصدر الألم الحقيقيّ كان النظرات الغريبة المرتابة الّتي رُمِق بها "أولئك الغرباء"، في العبارات الاتّهاميّة الجارحة الّتي رُمُوْا بها أينما حلّوا، في القصص الّتي نُسِجَتْ عنهم وعن لجوئهم، كما جاء في قصيدة "غرباء"[15]:

غُـرَبـاءٌ، وَكُـــلُّ ذَنْـــبٍ كَبيــرٍ *** أَلْصَقوهُ بِنا، وَقالوا: فَعَلْنـا

غُرَباءٌ، في كُلِّ قُطْرٍ نُلاقي *** لِاسْمِنـا قِصَّـةً تُهَـدُّ وَتُبْنـى
 

 - الخيمة اليأس

حين هُجِّرَ الفلسطينيّ من بيته حمل معه ما أُتيح له؛ مفتاح البيت، وزوّادة تكفيه أيّامًا، ظانًّا أنّ العودة قريبة. ثمّ بدأت الحقائق تتكشّف عن مُقام قد يطول شهورًا، بل سنين. تسرّب اليأس إلى النفوس قليلًا قليلًا مقترنًا بالعجز عن الفعل، حتّى احتلّ اليأس نفسه كما احتلّ الغاصب بيته، كما جاء في قصيدة "هناك بلادي"[16]:

وَيَرْحَـلُ عـامٌ، وَيُشْـرِقُ عــامْ *** وَنَحْنُ كَما نَحْنُ تَحْتَ الخِيامْ
 

ولعلّ اكتمال اليأس المطبق يقتضي "التسليم" بالعجز، وهو ما يُظهره اللجوء إلى الغيب طلبًا للعون بعد أن تحقّق اليأس من أيّ فعل للذات المقهورة، وذوي القربى العاجزين، والعالم المتواطئ، كما جاء في قصيدة "دموع ودماء"[17]:

يا نَبِيَّ السَّلامِ، هَذي فِلِسْطيـ *** ــنُ دُمـــوعٌ، وَحُـــرْقَــةٌ، وَدِمــاءُ

وَالْخِـيـامُ المُــهَــلْــهَــلاتُ نُــواحٌ *** وَقُلوبٌ يَحُزُّ فــيــهــا الشَّــقــاءُ

فَـادْعُ للهِ فــي السَّـمــاءِ، فَإِنّـا *** جَفَّ في ثَغْرِنا، وَماتَ، الدُّعاءُ
 

- الخيمة الصبر/ الصمود

لم يكن ممكنًا أن تتحوّل الخيمة في دلالتها فنّيًّا، ووجودها واقعيًّا، للدلالة على الصبر/ الصمود إلّا بتحقّق اليأس من أيّ فعل خارج فعل الذات الجمعيّة للجوء الفلسطينيّ، اليأس من كلّ شيء خارجها، حتّى الغيب المطلَق. والصبر حين يكون من أجل غاية، لا استسلامًا، يكون تجسيدًا رمزيًّا لحالة الصمود الّتي يُرتجى لها أن تنتهي بتحقّق الغاية. الصبر هنا أمل بمعنًى ما، مقهور، وصعب المنال، لكنّه يُبقي في النفس جذوة لا تخمد، كما جاء في قصيدة "أخي"[18]:

أَخي، إِنْ حَوَتْكَ كُهوفُ العَذابْ *** وَعَــوَّتْ حَوالَيْــكَ تِلْـكَ الذِّئــابْ

وَهَــــزَّ صِـغـــارَكَ ظُــفْـــرٌ وَنـــابْ *** فَصَبْــرًا، إِلى أَنْ يَحيــنَ الإِيابْ
 

وهو ما تلمحه في الإصرار على الثبات والصلابة. ضيق الخيام يجب تحويله سعة أفق، وكأنّ الحاجة إلى الحركة أساس في بدء اشتعال ثورة النفس المقهورة. إنّها حركة نفسيّة في المكان الضيّق ساعيةً إلى تحطيم القيود الحائلة دون الحركة خارجه، منه إلى الوطن. الثبات في ذاته حركة حين يكون فعل صمود، تواجه به الذات محاولات تحطيمها وكسرها من الداخل، كما جاء في قصيدة "مهاجِرون"[19]:

هَــذي الْخِيــامُ، أَلا تَــرى؟ *** ضاقَتْ بِمَنْ فيها الْخِيامُ

لا، لا يُــرَوِّعْـــكَ السَّـقــامُ *** فَلَـنْ يُحَطِّمَـهــا السَّقــامُ
 

كانت تلك مرحلة تكوين الذات الجمعيّة للجوء الفلسطينيّ، ظهرت معها الواقعيّة قرينة المسؤوليّة، والتفكير العقلانيّ الّذي يُنَحّي جانبًا خصوصيّة الفرد. كان واجبًا إزالة الحواجز بين الذوات الفرديّة الّتي فُرِضَتْ عليها حالة اللجوء قسرًا، لتكوين "مجتمع الخيام"، بما يقتضي إحساس الذات بمثيلاتها في المعاناة، ومشارِكاتها في القهر؛ ليكون التحدّي على مستوى الكلّ، كما جاء في قصيدة "يا صاحبي"[20]:

يــــا صـــاحِــبـــي، مـــا أَنْــــتَ وَحْـ *** ـدَكَ في العَذابِ، وَلَسْتُ وَحْدي

كَــــلّا؛ فَـفــــي لَـــيْـــــلِ الْـــخِــــيـــــا *** مِ بَقِـيَّـــةُ الشَّـــعْــــبِ المُـــــجِــــدِّ

الصّـــــــابِــــــــرِ الْــجَــــــبّــــــــارِ يَشْـ *** ـقى بَيْـنَ تَــعْـــذيـــبٍ وَسُــــهْـــــدِ

لكِـــــنَّـــــــهُ، يـــــــا صــــاحِـــبــــــي، *** مـا زالَ يُـمْـعِـــنُ فــي التَّحَـــــدّي!
 

- الخيمة الإعداد/ النضال

لعلّ عبارة "أمّ سعد" غسّان كنفّاني تلخّص هذا التحوّل في دالّ الخيمة، حين تمنّت لو أنّها قادرة على الانضمام إلى "الفدائيّين" مع ابنها، قالت: "لو لم يكن لديّ هذان الطفلان للحقت به، لسكنت معه هناك - خيام؟ خيمِة عَنْ خيمِة تِفْرِق! - وعشتُ معهم، طبختُ لهم طعامهم، خدمتهم بعينيّ. ولكنّ الأطفال ذُلّ"[21]. الخيمة الّتي كان يسكنها اللاجئ صارت خيمة "الفدائيّ". هكذا تجد صورة الخيمة تنزاح دلاليًّا لتمثّل نقطة الانطلاق "مِنْ"، كما جاء في قصيدة "سأزرع أحلاميَه"[22]:

مِنَ الْكَهْفِ، وَالْخَيْمَةِ البالِيَةْ *** سَــأَجْــمَــعُ لِلثَّـــأْرِ أَشْــلائِيَـهْ
 

حين تنضوي الذوات الفرديّة في ذات جمعيّة كلّيّة، وتتخلّص من إحساسها الخاصّ بشأنها وألمها وقصّتها وفَقْدِها، ويتشكّل الوعي، تقف الخيمة رمزًا إلى العمل الدائب بكلّ صوره؛ هي في جانبٍ خيمةُ إعداد للنضال المسلّح، وفي آخَرَ مكان معادِل للمدرسة. اختار رشيد لهذه الغاية فتاة مجهولة رمزًا إلى نضال المرأة الفلسطينيّة في تلك المرحلة، تُبَكِّر إلى تعليم تلاميذها في خيمة، وهم يتشوّقون إلى التعلّم فَيُبَكِّرون للقائها، وتلقّي تعاليمها بالصبر والإعداد للعودة، ورفض حياة التشريد والذلّ، كما جاء في قصيدة "معلّمة لاجئة"[23]:

فَقيلَ لَها: في شُقوقِ الْخِــيـــامِ *** تَــلامــيــذُ مِـــنْ أَجْلِــهـــا بَكَّـــروا

تَلامـيـــذُ كـــانَ لَــهُـــمْ مَــوْطِـــنٌ *** عَـــزيـــــزٌ بِــآبـــائِــهِــــمْ يَفْـــخَـــــرُ

إِلى أَنْ تَلاقَوْا هُنــا في الْخِيــامِ *** يَضُــمُّـــهُــــمُ الْهَــــدَفُ الْأَكْــبَـــرُ

فَقَدْ عَلِمُوا مِــنْ دُرُوسِ الْفَتَــاةِ *** بِــأَنْ لا يَــذِلّـــوا، وَأَنْ يَصْــبِـــروا
 

الخيمة السوداء أصبحت منطلَقًا. ويقف القارئ في هذا الديوان – ولعلّ في غيره أيضًا - على فيض من الألفاظ الدالّة على المستقبل "غدًا، سوف، سَ، لن..."، قبالة ما يدلّ على المُضيّ (كان، أمس...)، وأخرى دالّة على التحوّل (أمسى، صار، أضحى...)، وكلّ هذا الفيض تعبير في اللغة عن واقع زمنيّ متحوِّل، مع ضرورة التنبّه على رومانسيّة العبارة المخلّاة من الفاعل الحقيقيّ "ذهبت... سترجع"، كما جاء في قصيدة "سنرجع مرّة أُخرى"[24]:

أَخي، وَالْخَيْمَةُ السَّـوْدا *** ءُ قَدْ أَمْسَـتْ لَنـا قَبْــرا

غَــدًا سَنُحيـلُـهـا رَوْضًــا *** وَنَبْنـي فَوْقَـهـا قَصْـــرا

فِلِسْطيـنُ الّتي ذَهَبَتْ *** سَتَرْجِـــعُ مَـــرَّةً أُخْـــرى
 

يقترن دالّ الخيمة، وتنويعه الكَهْف، في هذه المرحلة، بالثورة وحتميّة العودة. لكنْ كيف اتّسعت الخيمة الّتي كانت ضيّقة على ساكنيها لتعجّ بالشباب المستعدّين للنضال؟ يذكّرنا هذا التحوّل بزنزانة درويش الّتي "اتّسعت في الصدى شارعًا، شارعَين...". قد يكون الأمل كافيًا مبدئيًّا لاتّساع المكان، وكذلك الثقة بالذات وتمثّلُها معنى الصبر/ الصمود، لا الاستسلام، لكنّ إحساس الذات بقدرتها على الحركة ذهنيًّا وعمليًّا يمنحها طاقة لإعادة رسم المعالم والحدود، كما جاء في قصيدة "يا بلادي"[25]:

يا بِلادي، وَتِلْكَ قِصَّــةُ شَـعْـــبٍ *** شَـتَّـتَـتْـهُ مَــظـــالِـــمُ الأَضْـــــدادِ

انْظُري، فَالْخِيامُ مَـلْأى حَـوالَــيْـ *** ـكِ، شَـبــابًــا يَـــتُـــوقُ لِلْأَنْـجـــادِ!

يَـوْمَ تَدْعينَ أَلْــفَ لَـبَّـيْــكِ مِـنّــا *** سَوْفَ تَمْشـي الْخِيـامُ بِالأَوْتـادِ
 

تحفل الصورة "تمشي الخيامُ بالأوتادِ" بالدلالات؛ فهي تكشف عن توق إلى انبثاق الحركة من رحم السكون/ الموت، من الخيمة القبر، من الظلمة إلى النور، من الكهف والخيمة إلى الوطن، وتشير في عمقها إلى الحواجز الحائلة دون العودة المباشرة، فضلًا عن القيود المفروضة على اللاجئ في حركة العودة. ولعلّ هذا ما تبرزه الصورة الأخرى الّتي تُظْهِر كثافة أستار الظلام في وجهه؛ فهي تحتاج إلى "شَقّ" لا مجرّد إزاحة. حركة الخيمة الّتي تمشي بالأوتاد تشبه حركة الأسير الّذي ثُبِّت قَيْده بصخرة أو جدار؛ فلا ينتظر كسر القيد، إنّما يخلعه وما ثُبِّت به، ويمشي إلى وطنه/ حرّيّته، كما جاء في قصيدة "نشيد فلسطين"[26]:

مِنْ كُهوفِ الْيَأْسِ، مِنْ لَيْلِ الْخِـيامْ

سَـوْفَ نَمْضــي دائِمًـا إِلى الأَمـامْ

وَيَـشُــقُّ الشَّـعْــبُ أَسْتـارَ الظَّــلامْ
 

حياة المكان

من اللطيف الإشارة إلى حياة المكان في هذا الديوان، مع كلّ مظاهر الجمود والموت واليأس، وهو ما يحرّكه الأمل في العودة، واندغام الإنسان مرّة أخرى بالمكان الأصيل الّذي أُخْرِج منه. لعلّ جَعْل الوطن يتحرّك في اتّجاه اللاجئ يكون تعويضًا عن عجزه هو عن الحركة في اتّجاهه/ العودة إليه؛ هكذا إذا عجز المُهَجَّر عن رؤية قريته فهي تراه رغم المسافة، وتشقّ الزمان نحوه؛ لتُمْسِك باللحظة الأولى في تخيّل يعيد إلى الثلاثيّة توازنها، كما جاء في قصيدة "هناك بلادي"[27]:

وَخَلْفَ الْحُدودِ هُناكَ قُرانا

تَكادُ عَلى بُـعْـدِها أَنْ تَرانـا

تَـكـادُ تَـشُـقُّ إِلَـيْـنـا الزَّمـانـا
 

الحركة في وجه السكون دليل حياة، ولعلّها الوحيدة الّتي تُثْبِت وجود الإنسان في المكان؛ ذلك بما هي حياته/ عمره الزمنيّ في جنباته. وإذا كان المُهَجَّر يشقّ أستار الظلام إلى وطنه أعلاه، فهو هنا يشقّ إليه الزمان. وكأنّ الأمر تحقيق لحُلم ليلى الصغيرة باللقاء في تبادليّة الإحساس مع غرفتها الّتي هُجِّرت منها؛ فالخُطى تكون في المكان، وهو ظرفها، ولا يُتَصَوَّر أن يسمعَ وقعها فيه إلّا إذا اندغم في الحياة تمامًا، وأصبح صِنْو ساكنه، كلاهما يحنّ إلى صاحبه وينزع إليه. تُسائل ليلى أباها في قصيدة "مع الغرباء" [28]:

أَأَدْخُلُ غُرْفَتي، قُلْ لي، *** أَأَدْخُــلُــهـا بِــأَحْــلامــي؟

وَأَلْــقــاهـــا، وَتَـلْـقــانـي *** وَتَسْمَعُ وَقْعَ أَقْدامـي؟

..........

إحالات:

[1] هارون هاشم رشيد، مع الغرباء [شعر] (القاهرة: رابطة الأدب الحديث، المطبعة المنيريّة، 1954).

[2] الديوان الّذي سبقه عَقيب النكبة، كان "المعركة" لمعين بسيسو، من إصدار دار الفنّ الحديث في القاهرة، عام 1952.

[3] انظر: عايدة فحماوي - وتد، "’فتافيت‘ من أوراق ومخطوطات شاعرات فلسطينيّات: شِعر جديد وصناديق مفتوحة"، مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، المجلّد 30ـ، العدد 118 (2019)، ص 126.

[4] انظر: لبابة صبري، الرؤية الفكريّة والمخيّم الفلسطينيّ في روايات غسّان كنفاني [رسالة جامعيّة] (جامعة بير زيت، 2009). ومن المهمّ هنا تذكّر أنّ المخيّم الّذي ارتبط بالتهجير وفقدان الوطن، أصبح ذات حين رمزًا للنضال والعمل الفدائيّ، ورمزًا إلى المجازر، مثل "صبرا وشاتيلا"، وغدر ذوي القُربى أيضًا، مثل "تل الزعتر"... إلخ.

[5] انظر: ميسون مصطفى، "المخيّم في الشعر الفلسطينيّ"، ديوان العرب، 18/11/2009، شوهد في: 02/08/2020، في: https://bit.ly/2XxnLUR

[6] هارون هاشم رشيد، المصدر نفسه، ص17. تستغرب لفظة "مُعَسْكَر/ عَسْكَر" اسمًا لبعض المخيّمات الّتي صار إليها الفلسطينيّون بعد تشريدهم عام 1948، وهي تحمل في طيّاتها دلالة مخالفة تمامًا لدلالتها اللغويّة: المكان الّذي ينزل فيه العسكر في طريقهم إلى أرض المعركة، فهو هنا المكان الّذي شرّدَ إليه "العسكر" الفلسطينيّين المدنيّين من مدنهم وقراهم بعد مجازر وأعمال عسكريّة ضدّهم.

[7] شاكرة حسن، "أثر النكبة في الشعر الفلسطينيّ"، قصّة الإسلام، 08/05/2013، شوهد في 02/08/2020، في: https://bit.ly/2Pr2HLc

[8] ظلّ قطاع غزّة والضفّة الغربيّة - وهما مفهومان حدثا عقب اغتصاب الجزء الأكبر من فلسطين عام 1948 - تابِعَيْنِ إداريًّا لمصر والأردنّ، حتّى احتلالهما مع سيناء والجولان وبعض جنوب لبنان ومناطق من الأردنّ عام 1967. وتوزّعت مخيّمات اللاجئين الفلسطينيّين حينذاك بين: لبنان وسوريا اللتين هُجِّرَ إليهما قسم من أهل شمال فلسطين، والأردنّ الّذي هُجِّرَ إِليه قسم من أهل وسط فلسطين، ومصر الّتي هُجِّرَ إليها قسم من أهل جنوب فلسطين. غير أنّ أغلب أهل فلسطين الّذين هُجِّروا قسرًا لجؤوا إلى الضفّة الغربيّة وغزّة، وأُقيم في الضفّة 24 مخيّمًا بين عامي 1948 و1952، وفي غزّة 12 مخيّمًا بين عامي 1948 و1949.

[9] هارون هاشم رشيد، المصدر نفسه، ص116-117.

[10] المصدر نفسه، ص107.

[11] المصدر نفسه، ص 128. ولعلّ اقتران الخيمة باللون الأسود ("الخيمة السّوداء") تعبير انتشر في الشعر الفلسطينيّ في تلك الآونة، انظر مثلًا: معين بسيسو، الأعمال الشعريّة (1)، ط1 (بيروت: دار الفارابي، ط1، 2016)، ص67، وتحديدًا في قصيدة "السّيل" من ديوانه الشّعريّ الأوّل "المعركة": يا مَنْ نَصَبْتَ لَهُمْ سودَ الخِيامِ عَلى *** صُفْرِ الرِّمالِ، لَقَدْ غاصَتْ إِلى الأَبَدِ

[12] هارون هاشم رشيد، المصدر نفسه، ص61-62. ويستدعي هذا التناصّ إلى الذاكرة يوسف بن يعقوب وإخوته الّذين كادُوا له، وألقوه في غَيابة الجُبّ، وزعموا أنّ الذيب أكله وهم يلعبون.

[13] المصدر نفسه، ص71-72. وتكرّر دالّ الأكواخ والخيم في شعره، انظر مثلًا: هارون هاشم رشيد، الأعمال الكاملة 1، ص 427. الخيمة أقلّ سوءًا من بيت الصفيح، خاصّة في حالتَي الحرّ والبرد، وحين تهبّ الريح، ويتساقط المطر؛ فالأصوات الّتي تصدر عن حركة الصفيح، وارتطام المطر به، لا يتصوّرها إلّا مَنْ جرّبه.

[14] رشيد، مع الغرباء، ص21-22. وتكرّر هذا الاقتران في شعره، انظر مثلًا: المصدر نفسه، ص 124؛ رشيد، الأعمال...، ص387-388.

[15] رشيد، مع الغرباء، ص98. الفاجع أنّ مثل هذه النّظرات والقصص والعبارات ما زالت تُتَداول إلى يوم الناس هذا، بعد عقود من انكشاف حقائق مخيفة عن خطط مسبقة للتهجير، ومجازر مروِّعة، وأعمال عصابات شنيعة ضدّ الفلسطينيّين هي في الصُّلب من الجرائم ضدّ الإنسانيّة والاضطهاد والتمييز العنصريّ.

[16] المصدر نفسه، ص 38. وانظر قصيدة "العيد يوم الثأر" في: المصدر نفسه، ص 46.

[17] رشيد، مع الغرباء، ص65-66. وتكرّر هذا الوصف للخيام في شعره، انظر مثلًا: رشيد، الأعمال...، ص 241.

[18] رشيد، مع الغرباء، ص102.

[19] المصدر نفسه، ص31. وانظر أيضًا في قصيدة "أعيدَ الفِطر": المصدر نفسه، ص 48–49. وتكرّر دالّ الخيمة السوداء في شعره، انظر مثلًا قصيدة "مع الغرباء": المصدر نفسه، ص 71؛رشيد، الأعمال...، ص 132، 164.

[20] رشيد، مع الغرباء، ص78.

[21] غسّان كنفاني، أمّ سعد [رواية] (قبرص: دار منشورات الرّمال، مؤسّسة غسّان كنفاني الثقافيّة، 2013)، ص 25.

[22] رشيد، مع الغرباء، ص 29.

[23] المصدر نفسه، ص56- 58. وهذه ليست القصيدة الوحيدة الّتي يدعو فيها المرأة لتحمّل مسؤوليّة النّضال، ويصفُ فعْلَها المُقاوِم.

[24] المصدر نفسه، ص 128.

[25] المصدر نفسه، ص67- 68؛ وانظر: رشيد، الأعمال...، ص 167، 176، 399.

[26] المصدر نفسه، ص 84.

[27] المصدر نفسه، ص 37.

[28] المصدر نفسه، ص 25.

أكاديميّ فلسطينيّ، أستاذ نقد وبلاغة، خبير لغويّ في "معجم الدوحة التاريخيّ للّغة العربيّة".