كتب رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق ابهود اولمرت في صحيفة معارف: " يبدأ الانزلاق إلى الفاشية دوماً بأمور صغيرة، بل وفي كثير من الأحيان خفية عن العيان. ويمكن لفترة إنضاجها أن تكون طويلة وتسري من تحت رادار الانتباه العام، بل وأحياناً عن انتباه وسائل الإعلام. في مرحلة ما، بعد فترة الكمون تبدأ بوادر الفاشية تطفو على السطح، ومن هنا فصاعداً ستنمو بسرعة، وأحياناً بسرعة كبيرة لدرجة أن يصبح من الصعب الوقوف في وجهها فتلوث كل مجالات الحياة".
لقد تجاوزنا الآن مرحلة الكمون كثيراً، فالبوادر لم تضرب فقط جذوراً عميقاً لها في أرض الواقع، بل باتت تنبت فروعاً آخذة في الانتشار بسرعة كبيرة. وقريباً سنقف متفاجئين عندما يتبين لنا بأن الأساس الأكثر وضوحاً الذي جعل دولة إسرائيل دولة قوية، ومستقرة، ومصداقة، ومحبوبة رغم مواقع ضعف كثيرة ظهرت فيها، آخذ في الاختفاء من حياتنا: الديمقراطية.
قلت إن هذا يبدأ بأمور صغيرة، مثلاً عندما يسرق رئيس الوزراء وزوجته وأبناء عائلته، المعروفون كبخلاء مرضى، مالاً صغيراً من مالية الدولة. لنقل من خلال إرجاع قناني البلاستيك للمشروبات الخفيفة ومواد التنظيف التي اشترتها الدولة لمنزل رئيس الوزراء، ولكن ربة البيت جمعتها وخزنتها، ثم أرسلتها بواسطة مبعوث عليم إلى المكان الذي يدفع فيه الصندوق العام لقاء تأمين القناني، وكل هذا من أجل كسب بضع مئات أو آلاف الشواكل. ولكن ليس للصندوق العام الذي دفع ثمن القناني، بل لجيب العائلة الخاص.
صحيح، مجرد طرح الموضوع يبدو تافهاً ومحرجاً. دخيلك – ليس لديك ما تنشغل به غير بضعة آلاف شواكل؟ فالحديث يدور عن رئيس وزراء، يفني روحه من أجل الجمهور، رجل يمكنه أن يكسب الملايين في السوق الخاصة، ولكنه فضل التفاني من أجل مصلحتنا جميعاً. حقاً!
وهكذا، فإن هذا الخداع وهذه السرقة الصغيرة تنسى وتصبح سرقة أكبر. العائلة تريد طعاماً طيباً على نحو خاص، وفي معظم الحالات غالياً على نحو خاص. وبالتالي يطلبون، وكي يكون ممكناً إلزام صندوق الدولة.. يزوّرون الفواتير، ويخدعون حماة الحمى، ويلزمون الصندوق العام بالدفع.
هذه الحالة أيضاً، يمكن للكثيرين أن يكونوا مستعدين لأن يسلموا بها. فهذا سيكون أقل حرجاً من أن يتحول من عنصر صغير إلى موضوع لصراع جماهيري. يهز الناس الكتف ويقولون – حسناً، هي كثيرة المطالب بعض الشيء. أمن أجل هذا نقاتل رئيس وزراء كل شخصيته متفانية لشؤون الدولة؟
وعندها في المرحلة التالية يهاتفون الأصدقاء الأغنياء ويطلبون الهدايا، فمسموح للأصدقاء إعطاء الهدايا، ولمسموح لأصدقائهم أن يتلقوا الهدايا. وعندما يكون مسموحاً يأخذون. وعندما يكون مسموحاً – يأذنون. وعندما يكون مسموحاً – يطالبون. في البداية، صندوق واحد من الشمبانيا، وبعد زمن ما يصبح خط توريد، وصندوق واحد يصبح مئات الصناديق، آلاف الزجاجات والسيجارات والمجوهرات. المعطون لا يتطوعون بالعطاء، بل يطالبون بأن يعطوا. فيستسلمون ويعطون.
رويداً رويداً، في وعي الجمهور الذي يرى فيصمت، تصبح العائلة محصنة. تستحق: فهي تهتم بنا، وعلينا أن نهتم بها. مكانتها تتغير. تصبح عائلة مالكة. عائلة كل شيء تستحقه، وكل شيء مسموح لها وكل مالية الدولة مفتوحة أمامها.
وهذه مجرد البداية. من هناك وحتى الأمور الهاذية التي تتميز بها الأنظمة غير الديمقراطية تكون الطريق قصيرة وطبيعية ولا يكون ممكناً منع ذلك.
***
في النظام الفاشي مثلاً يمكن استخدام الأجهزة السرية لملاحقة المواطنين، وشرح ذلك بالحاجة إلى التعرف على الأشخاص الذين يمكنهم أن يتناقلوا العدوى في فترة الوباء. ولكن سرعان ما يتبين أن هذه الحجة عديمة الأساس. فقدرة الشاباك على المساهمة في مكافحة كورونا أو التقليص الكبير لعدد المصابين، تبقى هامشية. ولكن بهذه الطريقة يمكن للنظام أن يبني مخزون المعطيات عن المواطنين بحيث يكون ما يدعو إلى الخوف من أن يشكل عنصراً مقلقاً ضد الحقوق الزائدة التي أخذها الزعماء لأنفسهم. وبالطبع، تنقسم الشرطة التي في نظر الحكم إلى شعبتين، إحداهما شعبة التحقيقات، وهم حالياً، حتى جولة التعيينات التالية التي يقررها الوزير أمير اوحنا، أولئك الذين يظهرون كأعداء النظام؛ أي المحققون، الذين “يحيكون الملفات” ضد رئيس الوزراء وزوجته. هؤلاء يجب صدهم، ويجب معرفة الخطرين منهم الذين يشكلون أدوات في أيدي خصوم رئيس الوزراء، واستبدالهم بمن يعرفون كيف يجمدون التحقيقات ولا يهمهم موضوع الغواصات، كما لا تهمهم الطريقة التي كسب فيها رئيس الوزراء 16 مليون شيكل من استثمار لمال أعطاه له ابن عمه، في غضون وقت قصير. محققون لا يسارعون إلى التحقيق في سبب امتناع رئيس الوزراء التبليغ عن أرباحه لسلطة الضرائب ودفع ضريبة عليها كما يفترض القانون، أو معرفة الصلة بين الشركة التي “بيعت” أسهمها لرئيس الوزراء من ابن عمه وبين شركات السفن التي تبني الغواصات ولا كيف ولماذا خرق رئيس الوزراء التعليمات التي تفترض تبليغ مراقب الدولة.
الشعبة الثانية في الشرطة، حسب فكر النظام الحالي، هي الذراع الطولى والمخيفة التي حرصت على إسكات كل من يستخدم حقه الطبيعي في الاحتجاج، والتظاهر، والانتقاد، والاعتراض على الميل المتعاظم لعنف السلطة. ينبغي لأفراد الشرطة في هذه الشعبة أن يكسروا المظاهرات بلا تردد. مذكورة الأيام التي تجمع فيها مئات الأشخاص خارج بلفور وهتفوا لرئيس الوزراء مناحم بيغن “قاتل”. فهل تصور أحد ما عندها أن يبعث بأفراد الشرطة ليعتقلوا الهاتفين والمحتجين؟
ليس هكذ اليوم. ضباط الشرطة، الذين ينتظرون جولة التعيينات القريبة، يعتقلون المتظاهرين الذين يلتزمون بكل القواعد المقررة في التجمهرات، ويقيدونهم ويخلونهم. بعد وقت غير بعيد سيحظرون التجمهرات، وستخرج المظاهرات عن القانون ويقدم المتظاهرون إلى المحاكمة. ودوماً ستوجد المبررات المسنودة بالحاجة إلى القانون والنظام، لحماية أجهزة الحكم والحفاظ على الزعامة الجديرة بأن تؤدي مهامها في ظروف من الحصانة في وجه أي إزعاج. وهذه المسيرة كما أسلفنا لا توجد في بدايتها بل نحن في ذروتها.
الذروة بالطبع كانت النقاش في لجنة المالية بهدف تدفئة الحساب البنكي لرئيس الوزراء ببضعة مئات آلاف الشواكل الأخرى، وربما الملايين التي ستأتي من استردادات ضريبية بأثر رجعي، بدعوى أنه مظلوم مقارنة برؤساء وزراء سبقوه. وهذا ادعاء كاذب. أسلافه لم يتلقوا أي امتيازات عن صيانة بيوتهم الخاصة، وبالتالي لم يكونوا ملزمين بدفع الضريبة.
“معوق اقتصادي” هتف مؤيدو نتنياهو، وفي الوقت نفسه صوتوا مع شركائهم في الائتلاف ضد مشروع القانون الذي كان يمكن أن يحسن الوضع الاقتصادي لـ “المعوقين” الحقيقيين، أولئك الذين تضرروا وبقى بعضهم دون وسيلة عيش بسبب الإدارة الفاشلة لوباء كورونا.
***
إن هذا الفصل المطلق بين ما يخدم الاحتياجات الخاصة للزعيم وعائلته وبين مصلحة المواطنين، هو التعبير الأكثر فظاظة وعنفاً للاستخفاف المطلب بكل قواعد اللعب. فالمعايير التي ينبغي أن تتميز بها الدولة الديمقراطية، والتي تقوم على أساس المساواة بين كل مواطنيها، تتآكل من جانب الحكم. وكل هذا في ظل خلق أجواء من التخويف والتهديد والكذب تنجح رويداً رويداً ولكن بشكل ثابت في إرهاب المعارضة، ليس فقط البرلمانية بل والمدنية أيضاً.
نتنياهو ليس ضليعاً بالتاريخ كما يدعي، ولكنه ضليع بما يكفي كي يعرف بأن هذا سينتهي بشكل سيئ. وإن الوضع الحالي سيتدحرج إلى مطارح مواجهة مدنية وسفك دماء في الشارع الإسرائيلي. ومثل الكثير من المحتالين قبله، انتخب للحكم بطريقة قانونية، ولكنه جعل القوة التي منحتها الديمقراطية له مطرقة تنزل على رؤوس معارضيه. ليس متأخراً بعد وقف هذا التدهور، ولكن ستكون هذه هي الفرصة الأخيرة.