يبدو أن رئيس الحكومة الإسرائيلي الأسبق، إيهود باراك، صاغ رواية عن نفسه من أجل تجميل صورته، والادعاء أنه سعى إلى التوصل إلى اتفاق سلام مع الزعيم الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات. ورغم أن البعض قد يسجل لصالح باراك قراره سحب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان، في أيار/مايو العام 2000، إلا أن هذا القرار كان مستوجبا لسببين: لأنه لم تكن هناك فائدة من استمرار وجود القوات الإسرائيلية في لبنان وتعرضها لهجمات المقاومة اللبنانية وسقوط قتلى بين الجنود، والثاني يتعلق بتصاعد المطالب الشعبية في إسرائيل بسحب القوات. لكن عدا ذلك، لم يحقق باراك أي خطوة سلامية في قناتي مفاوضات مع الفلسطينيين أو سورية.
ويدعي باراك في مقابلة مطولة معه نشرتها صحيفة "معاريف" اليوم، الجمعة، أنه "أدركت أن استمرار الوضع القائم يقود بالضرورة إلى صدام عنيف مع الفلسطينيين"، ليوحي بذلك أنه توقع انتفاضة القدس والأقصى التي اندلعت خلال ولايته في رئاسة الحكومة، في العام 2000، ونتجت بشكل مباشر عن سماحه لرئيس حزب الليكود والمعارضة حينذاك، أريئيل شارون، الذي ينظر إليه الفلسطينيون على أنه مجرم حرب وسفاح صبرا وشاتيلا، باقتحام الحرم القدسي والتجول في باحات المسجد الأقصى.
وأضاف باراك أنه "قلت عن الفلسطينيين في ’خطاب الحملان الصامتة’، في نهاية أيار/مايو العام 1998، قبل سنة من فوزي بالانتخابات، إن "هذا (الوضع) لا يمكن أن يستمر بهذا الشكل. والوضع سينفجر. نحن أقوياء، أقوياء جدا، وسننتصر في هذا الصراع أيضا، لكننا لن نتمكن من أن نفسر لأنفسنا وللأيتام والأرامل فقدان الحياة غير الضروري، فيما توجد طريق أخرى، لا تمس بأمن الدولة، وإنما تعززه، ولم نجربها".
وتابع أنه كرئيس حكومة، كان سوية مع جنرالات سابقين تولوا مناصب وزارية، يسعى إلى الامتناع عن تكرار "إخفاقات العمى والمنظور الذي ميّز المستوى السياسي أثناء حرب العام 1973".
وحسب باراك، فإنه "قبل انتخابي (رئيسا للحكومة عام 1999) كانت هناك معلومات استخبارية موثوقة بأن الفلسطينيين يتدحرجون نحو انفجار. ومن أجل منع انتفاضة ثانية، كان ينبغي محاولة صياغة إطار ’لإنهاء الصراع’ ويمنحنا نحن والفلسطينيين أفقا من الأمل. وفورا بعد تشكيل الحكومة، في تموز/يوليو 1999، التقيت مع حسني مبارك في القاهرة، ومع عرفات في حاجز إيرز وبعد أسبوعين سافرت للقاء (الرئيس الأميركي بيل) كلينتون. وخرجنا إلى نهاية أسبوع في كامب ديفيد وعقدنا 12 ساعة من المداولات"، التي تناولت، بحسبه، قضايا الحل الدائم ووضع خطة لإنهاء الصراع.
وقال باراك إنه أبلغ كلينتون بأنه "لا أعرف إذا كنا سنحقق شيئا. قد نحقق أمورا جزئية وقد لا نحقق شيئا. وكان كلينتون قلقا من تأجيل تنفيذ اتفاقية واي بلانتيشن (التي أبرمها سلفه بينيامين نتنياهو)، ولم يكن متأكدا من أن الفلسطينيين سيوافقون على عزمي البدء بالموضوع السوري أولا. وبعد أربعة أشهرالتقيت مع كلينتون وعرفات، وتحدثنا مطولا في بيت سفير الولايات المتحدة" في أوسلو.
وحول قمة كامب ديفيد، قال باراك أنه أجاب الدبلوماسي الأميركي، دنيس روس، بشأن قضية القدس، أنه "لا يمكنني إعطاء أجوبة... وأنا لا أخاف من أي شيء لكني لن أقدم أي تنازل عما يبدو لي مصلحة إسرائيلية هامة". وأضاف أنه "اتفقت مع كلينتون والأميركيين على أمرين: لا اتفاق على أي شيء إلى حين الاتفاق على كل شيء. ولذلك، إذا فشلت القمة، فإن جميع المقترحات التي تطرح تكون لاغية من أساسها. وثانيا، ألا تكون مفاجآت بيننا. وقد التزم الأميركيون بذلك بشكل يكاد يكون مطلقا".
باراك يضع "خطوطا حمراء"
تقرر عقد قمة كامب ديفيد في 11 تموز/يوليو العام 2000، وأن تستمر لثمانية أيام، وحسب باراك فإنه تم الاتفاق على مناقشة قضايا الأمن، الحدود، اللاجئين والقدس "وخصوصا ’إنهاء الصراع ونهاية المطالب المتبادلة’". وأضاف أنه أبلغ وزرائه بشأن القمة والخطوط العريضة التي سيطرحها: "محاولة منع انفجار، وبالطبع لن تكون هناك عودة إلى حدود 1967. والقدس ستبقى موحدة والكتل الاستيطانية في المناطق (المحتلة) ستكون ضمن حدود إسرائيل. ولن يتواجد جيش أجنبي غربي نهر الأردن، وإذا توصلنا لاتفاق سنطرحه على استفتاء شعبي". بعد ذلك انسحب حزبا المفدال وشاس من حكومة باراك، والتي بقيت تستند إلى أقلية مؤلفة من 43 عضو كنيست.
ويبدو بوضوح من المقابلة أن باراك لم يكن يسعى إلى اتفاق. فقد كان هذا نهجا إسرائيليا. "لم يتحدث أحد عن اتفاق سلام نهائي. والغاية كانت ’اتفاقية إطار’. فهذا ما تم تحقيقه في قمة كامب ديفيد التي شارك فيها مناحيم بيغن (مع الرئيس المصري أنور السادات) في العام 1978. ولم نفكر في التوصل إلى اتفاق وإنما إلى ’اتفاقية إطار’، لكننا لم نكن متأكدين من ذلك أيضا".
وأضاف باراك أنه في اليوم الخامسة للقمة برز أنه لم يتم حل أي خلافات بين الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي، وأن كلينتون صرخ في وجه عضو الوفد الفلسطيني، أحمد قريع (أبو علاء) أن "إسرائيل مستعدة إعطائكم 85% من الأراضي وأنت غير مستعد لمناقشة ذلك".بعدها طلب عرفات وقف المداولات الجارية في خمسة فرق، وأن كلينتون قرر تشكيل طاقم، يضم شخصين عن طل جانب، واجتمع طوال الليل. "وجلس الأربعة طوال الليل ولم يحدث أي تقدم تقريبا. والأمر الوحيد الذي تم طرحه، كان فكرة لصائب عريقات حول تقسيم السيطرة على القدس، بحيث تكون الأحياء اليهودية تحت سيطرة إسرائيل والأحياء العربية تحت سيطرة الفلسطينيين. وهذا الاقتراح يتعارض مع مبدأ أساسي لدينا بأن تبقى القدس تحت سيادة إسرائيل".
ضم المستوطنات
وتابع باراك أن كلينتون حضر إلى كوخه، في اليوم السادس للقمة، وأنه حمّل الرئيس الأميركي تهديدات للجانب الفلسطيني وعرفات خصوصا. وقال باراك لكلينتون إنه "مستعد لاتخاذ قرارات قاسية، لكن إذا لم يتزحزح الجانب الفلسطيني، فإنني لن أجعل إسرائيل تتنازل عن تطبيق المشروع الصهيوني. وعرفات يتحدث عن مخاطر ولدينا توجد مخاطر أيضا. وعليك أن تقنع عرفات باتخاذ قرارات قاسية. والوضع قد يصل حد المواجهة. وإذا وصلنا إلى مواجهة، فسنكون في إسرائيل موحدين وأقوياء وسننتصر فيها. وبرأيي سنحصل على تأييد دولي أيضا".
وصعّد باراك من تهديداته قائلا لكلينتون إنه "إذا لم يغير الفلسطينيون مواقفهم فنحن في الطريق إلى مواجهة. وفي هذه الحالة سنوسع السيادة لتشمل الكتل الاستيطانية، ونقيم منطقة أمنية على طول نهر الأردن وغور الأردن، وسنحتفظ بوجودنا الأمني في المنطقة (الضفة الغربية) كلها، وستعمل قوات الجيش في أي مكان ضد أي تهديد أمني".
وحسب باراك فإن كلينتون غادر عائدا إلى كوخه، ثم عاد بعد ساعة وبدا "أكثر تفاؤلا"، وقال إنه يقدر أن عرفات سيوافق على انسحاب إسرائيلي من 90% أو 92% من الضفة إلى جانب تبادل أراضي تعادل 10% من مساحة الضفة، وأن "عرفات يريد سيطرة فلسطينية على غور الاردن، وأنه يدرك أن هذا يتعلق باحتياجات إسرائيل الأمنية وأنه مستعد للاستماع إلى ترتيبات أمنية. لكن موقف عرفات صارم بشأن القدس وحسب أقواله فإن كل شيء مشروط باتفاق بخصوص القدس".
تعنت إسرائيلي
أضاف باراك أن كلينتون أجاب أنه "من دون المس بالسيادة الإسرائيلية في جبل الهيكل (الحرم القدسي) والحائط المبكى (البراق)، فإنه ثمة أهمية لإيجاد طريقة تسمح لعرفات بأن يدعي بشكل صادق أنه يوجد له دور في القدس. على سبيل المثال، سيطرة إدارية في قسم من الأحياء العربية". ورفض باراك قائلا إن "القدس موضوع حساس وأريد التشاور مع وزرائي والوفد المرافق لي. وبعد مشاورات استمرت خمس ساعات، تخللها اختلاف آراء، لكن تبين وجود قاسم مشترك، بأن لدينا مصالح حيوية، قومية، تاريخية ورمزية في القدس وجبل الهيكل، وتمتد إلى جذور سيرورتنا وهويتنا كأفراد وشعب. ولكن بالإمكان أن ننقل إلى سيادة فلسطينية جميع الـ28 بلدة وقرية التي تم ضمها إلى القدس بعد حرب الأيام الستة (1967)، لأنها ليست جزءا من القدس" وأن هذا متعلق بمصادقة الكنيست ومن خلال استفتاء شعبي.
وأشار باراك في المقابلة إلى أن هذه المشاورات كانت قبل يوم واحد من انتهاء القمة، وأنه لن يكون بالإمكان إنهاء مناقشة موضوع القدس خلال 24 ساعة. لكن باراك أراد إرسال سؤال لعرفات حول ما إذا سيوافق على "سيادة" إسرائيلية على البلدة القديمة كلها في القدس.
وتابع باراك أنه بعد أبلغ كلينتون بنتائج مشاورات الوفد الإسرائيلي، حدث بينهما صدام، وقال كلينتون لباراك إنه "جعلتني أنا وعرفات ننتظر 10 ساعات، لتقول لي الآن إنك لن تنسحب من 11% من الضفة". وتذرع باراك أن مدير مكتبه، غلعاد شير، والوزير شلومو بن عامي قالا خلال اجتماعها مع الوفد الفلسطيني أن إسرائيل ستنسحب من مساحة أكبر من دون صلاحية ومن دون أن يوافق هو على ذلك. ثم عاد باراك ليطالب بأن يقدم عرفات تنازلات، بينها أن يوافق على أن تكون الأماكن المقدسة تحت "سيادة" إسرائيلية، وأن يشارك الفلسطينيون في لجنة لإدارة الأماكن المقدسة الإسرائيلية إلى جانب الأردن والسعودية والمغرب.
وادعى باراك خلال محادثة مع كلينتون في نهاية القمة أنه "ليس هناك رئيس حكومة إسرائيلي مستعد للذهاب بعيدا إلى هذه الدرجة من أجل فحص إمكانية التوصل لاتفاق وليس مؤكدا أنه سيكون اتفاقا في المستقبل. وتوجد أمور لن أنفذها لأنها تتناقض مع المصالح الحيوية الإسرائيلية".