الموقف السوداني من سد النهضة موحد وينسجم مع الثورة..محمد مصطفى جامع

السبت 07 مارس 2020 11:53 ص / بتوقيت القدس +2GMT
الموقف السوداني من سد النهضة موحد وينسجم مع الثورة..محمد مصطفى جامع



أدهشتني صحيفة “رأي اليوم” الغرّاء بافتتاحيتها ليوم الخميس 5 مارس/ آذار، التي جاءت في نظري ونظر كثير من السودانيين غير موفقة على الإطلاق، حيث تحتوي على معلومات خاطئة لم أتوقع أن تنشرها صحيفة محترمة كرأي اليوم، المنبر الحر الذي كثيراً ما عبّرنا عن آرائنا فيه بعشرات المقالات.
نبدأ من العنوان الذي جاء كالآتي: “الحُكم العسكريّ السوداني يفك ارتباط بلاده العربيّ ويُجاهر علنًا بدعم إثيوبيا ضِد مِصر وفي قلبِ الجامعة العربيّة.. لمصلحة من هذا التّواطؤ لتجويع ملايين المِصريين؟ ومن يَقِف خلف هذا التحوّل السوداني الرسميّ الخطير؟ وما هي المفاجأة القادمة؟”
الملاحظة الأولى.. أنه ليس هناك نظاماً عسكرياً في السودان بالمعنى الذي تصفه الافتتاحية.. صحيح أن الفريق أول عبدالفتاح البرهان يرأس في الوقت الحالي المجلس السيادي السوداني، لكنها رئاسة مؤقتة مدتها عام ونصف فقط، ذات صلاحيات محددة يفترض أن تؤول خلال النصف الثاني من الفترة الانتقالية إلى أحد المدنيين ال6 في المجلس السيادي، أما أغلب السلطات التنفيذية فهي بيد رئيس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك والذي يتمتع بشعبية حقيقية في أوساط السودانيين ليس كالبرهان الذي يعتبره الثوار امتداداً لنظام المخلوع عمر البشير، وأنه متورط هو كل أعضاء المجلس العسكري المحلول بما فيهم حميدتي في مجزرة فض الاعتصام أمام بوابات القيادة العامة في مطلع يونيو/ حزيران الماضي.
الملاحظة الثانية.. عبارة “يفك ارتباطه بالجامعة العربية”، أليس فيها استهتاراً بالسودان وانتقاصاً من حقه السيادي الذي يكفله له القانون”؟ أليس من حق السودان أن يتحفظ وأن يرفض حتى؟.. حسبما يقتضيه الموقف وتقديرات المصلحة الوطنية للشعب السوداني.
لعل صحيفة رأي اليوم لا تعلم أن الموقف السوداني من سد النهضة لم يتغير على الإطلاق، كتبنا هنا في هذه الصحيفة الغراء عدداً من المقالات التي أوضحنا فيها فوائد السد الإثيوبي للسودان والسودانيين والتي تكرّم محرر رأي اليوم بذكر عدد كبير منها.
فمنذ عهد الرئيس المخلوع عمر البشير كان السودان حكومةً وشعباً داعماً لسد النهضة ليس من باب التآمر على مصر ولا كراهية في العروبة والإسلام كما تقول الصحيفة، بل لأن السد يحقق مصالح البلاد العليا بعيداً عن العواطف.
مواقف تاريخية مشرفة للسودان على مصر مقابل أنانية مصرية
لعّل الكثير من الإخوة العرب لا يتذكرون على الإطلاق المواقف المشرفة للسودان على مصر، في مقابل الأنانية المفرطة التي اتصفت بها السياسة المصرية تجاه السودان ساعدها على ذلك الأحزاب السودانية التي كانت خاضعة بالكامل للقاهرة.
نذكر هنا من هذه المواقف، ما فعله السودان لمصر في مشاريعها المائية وأبرزها مشروع السد العالي الذي قدّم السودان وأهله أرض حلفا (شمال السودان)، أرض الحضارة والآثار النوبية هدية أو قرباناً لهذا المشروع الضخم الذي أغرق منطقة حلفا مع حضارتها الضاربة في القدم، ورحل أهلها إلى الداخل السوداني متحسرين على أراضي الآباء والأجداد.
وحتى لا نتهم مصر فقط، فإننا نقول إن سذاجة الساسة السودانيين وعدم اهتمامهم بمصالح (السودان أولا)، كان السبب الأول وراء الركض خلف أكاذيب الحكومة المصرية، وشعارات “الأخوة والمصير المشترك.”
ولا أحد من المصريين يستطيع أن يُنكر الدور الذي لعبه السودان خلال حرب الاستنزاف ” 1970 – 1968″ ودعمه اللامحدود لمصر في تلك الفترة، حيث تحوّل إلى قواعد تدريب وإيواء لسلاح الجو المصري والقوات البرية، بل أرسل قوات من جيشه إلى قناة السويس أثناء حرب الاستنزاف للقتال إلى جانب شقيقه المصري.
هذا نذر يسير من كتاب السودان تجاه مصر فماذا كان الرد المصري للسودان بالمقابل؟
سعت الحكومات المصرية إلى صناعة أزمات داخل السودان حتى يسهل عليها التحكم في الإرادة السياسة ولتمرير أجنداتها ومصالحها، مثل دعمها لمتمردي جنوب السودان، دارفور، وشرق السودان بالإضافة إلى احتواء واحتضان المعارضة السودانية في القاهرة. فضلاً عن الوقوف ضد السودان في المحافل الدولية وخاصة مجلس الأمن الدولي والعمل على تشويه اسمه وربطه بالإرهاب والتطرف، حتى تستمر القاهرة في الاستفادة من الحظر المفروض على السودان إذ تقوم بإعادة تصدير المنتجات العضوية السودانية مثل الصمغ العربي والمنتجات الزراعية بعد تصنيعها تحت لافتة “صُنع في مصر”.
وردّت مصر جميل السودان حينما أرادت الخرطوم منح إحدى الشركات الكندية التنقيب عن النفط في المياه المقابلة لمثلث حلايب، عندها اعترضت الحكومة المصرية، وغدرت بالقوة السودانية التي كانت موجودة في المثلث، حيث قامت القوات المصرية بفرض سيطرتها، وتشريد الأهالي وفرض قيود على قاطني المثلث. بينما أعلن السودان عدم تخليه عن المنطقة، وأحالها إلى مجلس الأمن الدولي للبت فيها، وحتى الآن مصر ترفض التفاوض في القضية.. فأين هو الإخاء وروابط العروبة في هذا الموقف الغادر؟
الإعلام المصري لم يقصر هو الآخر، فقد عمل على السخرية من السودان والسودانيين فجسّد صورة المواطن السوداني في شخصية عثمان “البواب العبيط”، وقدّم صورة شائهة عن السودان لدرجة أن الكثير من الإخوة المصريين ما زالوا يعتقدون أن جارهم الجنوبي بلد تعيش فيه الأسود والسباع إلى جانب الإنسان!
مغالطة أخرى وردت في افتتاحية راي اليوم، تقول: ” الأمّة العربيّة وقفت مع السودان في جميع أزماته، ودعمت مجهوده العسكريّ لمنع انفصال الجنوب وإقليم دارفور، واستوعبت أسواق العمل الخليجيّة ملايين السودانيين، ومن مُنطَلق الأخوّة العربيّة والإسلاميّة، وما زالت، ومهما قدّمت إثيوبيا من خدمات فإنّها لن تُقدِّم أعشار ما قدّمه العرب للسودان.”
هنا نتساءل، ما الدعم العسكري الذي دعمته الأمة العربية للسودان ومَن حارب مع السودان؟!
الإجابة صفر كبير.. إيران هي التي دعمت حكومة البشير عسكريا، خلافها لا يوجد أي نظام عربي قدّم دعماً حربياً للسودان، بل على النقيض كانت مواقف مصر مخزية ومساندة للتمرد كما حدث في العام 2016 عندما ضبط الجيش السوداني آليات عسكرية مصرية بحوزة متمردي دارفور.
أما القول بأن أسواق العمل الخليجية استوعبت ملايين السودانيين فهذه لا خلاف عليها، ولكن ذلك ليس من باب المنّة أو التفضّل على السودانيين كما يعتقد محرر الصحيفة، بل لأن سوق العمل خاضع لقانون العرض والطلب، والحاجة إلى عمالة ماهرة وموظفين أكفاء مخلصين، من دون اعتبار لجنسياتهم ولا قومياتهم وإلا لما وُجدت الأغلبية العظمى من العمالة الوافدة في الخليج من جنسيات آسيوية لا علاقة لهم بالدول العربية! “الهند، باكستان، بنغلاديش”، هذه الجنسيات هي المسيطرة على سوق العمل في كل الدول الخليجية تتفوق على كل الجاليات العربية في منطقة الخليج وتتبوأ معظم الوظائف من الرؤساء التنفيذيين إلى مبرمجي الحاسب إلى العمالة البسيطة!
تقول افتتاحية رأي اليوم في فقرة أخرى، “هُروب الحُكم الجديد في السودان إلى إثيوبيا ودولة الاحتلال الإسرائيلي لن يُؤدِّي إلى حلِّ مشاكل السودان الاقتصاديّة، ونتمنّى أن يطّلع أصحاب هذه المدرسة الانهزاميّة على أحوال الدول التي سارت على النّهج نفسه ووقّعت اتّفاقات مع الإسرائيليين، حيث تراكمت الدّيون بالمِليارات، وتراجعت اقتصاديّاتها بشكلٍ مُرعب، وعلى رأس هؤلاء مِصر والأردن والسّلطة الوطنيّة الفِلسطينيّة”.
سؤالنا هنا هل هذا الوضع ينطبق على مصر نفسها؟ وهل مصر بقيادة الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي عدوة لإسرائيل؟!
وبالمناسبة نحن ضد التطبيع مع إسرائيل، الذي نراه قفزة في المجهول قام بها البرهان دون استشارة الحكومة المدنية، وملف التطبيع يتجاوز صلاحيات الحكومة الانتقالية ذات التفويض المحدود، وأن الأولوية يجب أن تكون لمعالجة الأزمة الاقتصادية واستعادة الدولة المدنية كاملةً غير منقوصة من براثن العسكر.
نتوقف أيضاً مع هذه الفقرة: ” لا نعتقد أنّ الشعب السودانيّ الوطنيّ الطيّب سيقبل بهذه المواقف الذي يتفرّد فيها المجلس العسكري، وتُريد فصل السودان عن أمّته وطمس هُويّته العربيّة والإسلاميّة، وتوتير العُلاقة مع مِصر، الدّولة الأقرب إلى السودان، بحُكم الرّوابط التاريخيّة والاجتماعيّة، والصّمت على المُؤامرة الإثيوبيّة المدعومة أمريكيًّا وإسرائيليًّا لضرب أمنها المائيّ وتجويع الملايين من أبنائها.”
كما قلنا في أول مقالنا هذا.. لا يوجد في السودان حالياً شيء اسمه “المجلس العسكري”، والموقف السوداني من قضية سد النهضة متفق عليه داخل الحكومة المدنية التي يقودها رئيس الوزراء عبدالله حمدوك المسنود شعبياً.. وهذا الموقف يعبّر عن السواد الأعظم من الشعب السوداني، نظرة واحدة إلى التعليقات التي دونّها السودانيون على افتتاحية راي اليوم تؤكد ما أقول، إذ لم يعد السودانيون يهتمون بشعارات “الهوية العربية والإسلامية”، وانتبهوا متأخراً إلى أن عمقهم الحقيقي هو دول الجوار الإفريقي.. جنوب السودان وإثيوبيا وإرتريا والصومال وتشاد.
وقفة أخرى مع هذه الفقرة، لعلّ العديد من الإخوة العرب لا يعلمون أنّ ما يجمع الشعب السوداني بشقيقه الإثيوبي لا يقل عما يجمعه بالشقيق المصري إن لم أكثر من صلات قربى وأسر مشتركة وتصاهر، بل لم يحدث في تاريخ العلاقة بين السودان وإثيوبيا أن خرج مسؤول إثيوبي واحد يتعرّض بسوءٍ إلى السودان، مثلما حدث من مسؤولين مصريين كثيراً ما أساؤوا للشعب السوداني بألفاظ عنصرية، أما الإعلام المصري فحّدث ولا حرج!
والسوداني يتجوّل في مدن إثيوبيا وقُراها كأنه مواطن إثيوبي، لا يأتيه أبداً إحساس بأنه غريب أو أجنبي فالسحنات متشابهة والثقافات كذلك، حتى في الأطعمة يجد “الإنجيرا” التي تقابل “الكِسرة” في السودان.
إثيوبيا يا “رأي اليوم”، هي بلد التسامح بين المسلمين والمسيحيين، تجد أحياناً بين أفراد الأسرة الواحدة معتنقي الديانات المختلفة، وهي أرض الحبشة القديمة التي احتضنت صحابة رسول الله، عندما ضاقت بهم الأرض في أرض الأجداد نصحهم بالهجرة إلى الحبشة قائلاً إنها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وبالمناسبة مسجد النجاشي وقبور الصحابة موجودان إلى اليوم في إقليم تيغراي شمالي إثيوبيا، والحكومة الإثيوبية نفسها يشغل منصب الرجل الثاني فيها رجل مسلم هو السيد ديمقي ميكونن حسن نائب رئيس الوزراء، مع العلم بأن الرجل الأول “آبي أحمد” من أصول مسلمة فوالده مسلم وأمه مسيحية أرثوذوكسية.. فلا مجال إذاً للتباكي على تحوّل موقف السودان إلى دولة معادية للإسلام كما يدعي البعض.
العلاقات بين الدول ينبغي أن تقوم على مبدأ الندية الكاملة، واحترام السيادة والمصالح المشتركة، فلن تقوم علاقات سوية ما بين السودان ومصر في ظل رؤية مصر للسودان على أنها دولة تابعة لها كما في العبارة المفضّلة للمحللين المصريين: “السودان هو العمق الإستراتيجي لمصر”.
والسودان كذلك، دولة مستقلة في قرارها السياسي وتقرر مع من تتحالف ومع من تعادى وفق ما تُملي عليها مصالحها الوطنية. وعلى الإخوة المصريين أن يعالجوا قضية سد النهضة مع نظامهم الذي فرّط في حقوقهم المائية، ووقّع على اتفاقية إعلان المبادئ في الخرطوم على 2015 وبالتالي منح إثيوبيا إقراراً رسمياً ببناء السد.
إن شباب السودان الذين فجّروا ثورة ديسمبر المباركة يرفعون اليوم شعار “السودان أولاً”، ويقولون كفى استغلالا وحان الوقت أن نلتفت إلى مصالحنا الوطنية فحسب، إن كان في سد النهضة أو تحالفات السودان المستقبلية.
صحفي وباحث سوداني مهتم بالشؤون الأفريقية