في أيار/ مايو عام 1997، أُصيب طفل في الثالثة من عمره، بما بدا لأول وهلة أنه نزلة برد عادية. وعندما تواصل التدهور في أعراض المرض على مدار ستّة أيام، متسببا بالتهاب حلق الطفل الذي انتابته الحمّى والسعال أيضًا، نُقل الطفل إلى مستشفى الملكة إليزابيث في هونغ كونغ. وهناك ازداد سوء سعاله، وبدأ يتنفس الهواء بصعوبة إلى أن توفي برغم العناية المشددة التي خضع لها.
جاء ذلك في مقال الكاتب جيمس هامبلن وهو كاتب معني بالشؤون الطبية في مجلة "ذي أتلانتيك". ويحاضر في كلية ييل للصحة العامة.
وأرسل الأطباء الذين كانوا في حيرة من أمرهم إزاء تدهور حالة الطفل الصحية بهذه السرعة، عيّنة من بلغمه إلى وزارة الصحة الصينية. لكن بروتوكول الفحص التقليدي لم ينجح بتحديد الفيروس الذي أدى إلى المرض بشكل كامل. وقرر كبير علماء الفيروسات في الوزارة، إرسال بعض العينات إلى زملائه في بلدان أخرى.
وفي أحد المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض والوقاية منها في أتلانتا، بقيت عينة من بلغم الطفل المتوفى، تنتظر دورها للدخول في عملية بطيئة لتحليل مطابقة الأجسام المضادة، لمدة شهر. وأكدت النتائج في نهاية المطاف، أن الفيروس عبارة عن نوع مختلف من الإنفلونزا التي قتلت أناسا على مرّ التاريخ أكثر من أي مرض آخر. لكن هذا النوع لم يُكتشف في البشر من ذي قبل، واسمه "إتش 5 إن 1"، والمعروف باسم "إنفلونزا الطيور"، والذي اكتُشف قبل ذلك بعقدين، إلا أنه كان يُظن أن الطيور فقط تُصاب به. وفق ما اورده موقع عرب 48
وبحلول الوقت الذي اكتُشف فيه نوع الفيروس، حلّ شهر آب/ أغسطس، وأرسل العلماء إشارات تحذير لجميع أنحاء العالم، لتقوم الحكومة الصينية وبسرعة، بقتل 1.5 مليون دجاجة (برغم احتجاجات مالكيها من المزارعين). وروقب المصابون الآخرون من البشر عن كثب، وعُزلوا. ومع نهاية العام، حُددت 18 إصابة بين البشر، وتوفي ستة أشخاص منهم.
واعتُبرت طريقة معالجة الموضوع عالميا، استجابة ناجحة جدا، ولم يظهر الفيروس مرة أخرى لأعوام. وكان احتواء المرض سببا جزئيا لهذا النجاح، إذ أن المرض كان شديد الخطورة، ما أدى إلى بروز المصابين به بشكل واضح جدا، بسبب إعيائهم الشديد. وبالفعل، تبلغ نسبة احتمال الوفاة الناجمة عن فيروس "إنفلونزا الطيور" نحو 60 في المئة من مجمل المصابين به. لكن الفيروس لم يقتل سوى 455 شخصا فقط منذ عام 2003. وذلك بعكس فيروسات الإنفلونزا التي تُعد "أكثر اعتدالا"، والتي تقتل أقل من 0.1 في المئة من الأشخاص الذين تلتصق بهم بالمعدل، ولكنها تتسبب بوفاة مئات الآلاف من البشر سنويا.
ويكمن السر في ذلك، بسهولة رصد الأشخاص المصابين بالأمراض شديدة الخطورة التي تسببها فيروسات مثل "إنفلونزا الطيور" وبالتالي عزلهم، أو لموتهم السريع منه. إذ إن هؤلاء لا يمارسون حياتهم العادية ويشعرون بإعياء طفيف، الأمر الذي يساهم في ترسيخ الفيروس.
ويمكن لفيروس كورونا المستجد (المعروف تقنيًا باسم SARS-CoV-2) المنتشر في أنحاء العالم مؤخرا، أن يتسبب بمرض تنفسي خطير. ويبدو أنّ معدّل الوفيات من المرض يبلغ أقل من 2 في المئة، وهي نسبة أدنى بكثير من معظم حالات تفشي الفيروسات التي تصدّرت الأخبار العالمية. ولكن الفيروس دق ناقوس الخطر بسبب معدّلات وفياته المنخفضة نسبيا، وليس برغمها.
وتتشابه الفيروسات التاجية (الفيروسات من عائلة كورونا)، بفيروسات الإنفلونزا، من حيث أن كلا النوعين من الفيروسات يحتويان على فروع أحادية من الحمض النووي الريبوزي ("أر.أن.آيه"). وهناك أربعة فيروسات تاجية تصيب البشر عادة، والتي تتسبب لهم بنزلات برد، ويُعتقد أنها تطورت داخل أجساد البشر للانتشار بأوسع طريقة ممكنة، والتي تتمثل بإصابة الناس وإعيائهم، لكن دون قتلهم.
وعلى النقيض من ذلك، فإن الفيروسين التاجيّين اللذين تفشيا في السابق على نطاق واسع في العالم، والمعروفين بفيروس كورونا المرتبط بالمتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة (سارس)، وفيروس كورونا المرتبط بمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (ميرس)، انتقلا من الحيوانات إلى الإنسان، مثل "إنفلونزا الطيور". وكان هذان المرضان مميتين للغاية للبشر. وإذا ما تصادف وجود حالات إصابة معتدلة أو بدون أعراض، فقد كانت قليلة للغاية. ولو كان عددها كبيرا، لكان المرض قد انتشر على نطاق واسع. وفي نهاية المطاف، تسبب كل من "سارس" و"ميرس" بوفاة أقل من ألف شخص مجتمعين.
لكن كورونا المستجد المتفشي حاليا، حصد حياة أكثر من ضعف هذا العدد من الناس حتى الآن. إذ إن هذا الفيروس القوي الذي يتميز بمزيج من الخصائص، يُعد قاتلا، ولكنه ليس قاتلا جدا بخلاف الأفكار السائدة من حوله. فهو يُمرض الناس بطرق ليست فريدة من نوعها ولا يمكن التنبؤ بها. ففي الأسبوع الماضي، أظهر فحص لـ14 أميركيا على متن سفينة سياحية في اليابان، أنهم مصابون بالمرض رغم أن جميعهم يشعرون أنهم على ما يرام. أي أن الفيروس الجديد قد يكون الأكثر خطورة لأنه قد لا يتسبب أحيانا بأعراض على الإطلاق كما يبدو.
واستجاب العالم لانتشار المرض بسرعة وبحجم تعبئة موارد غير مسبوقتين. وتم التعرف على الفيروس الجديد بسرعة شديدة، فقد رُتب شريطه الوراثي (الجينوم) على يد علماء صينيين نشروا نتائجهم للعالم في غضون أسابيع معدودة. وتبادل المجتمع العلمي العالمي البيانات الجينومية والسريرية بمعدلات غير مسبوقة. وبات العمل على اللقاح قيد التنفيذ. وسنت الحكومة الصينية تدابير احتواء متطرفة للمرض، وأعلنت منظمة الصحة العالمية حالة طوارئ ذات اهتمام دولي. وحدث كل هذا في وقت قصير جدا مقارنة مع الوقت الذي استغرقه العلماء للتعرّفة على "إنفلونزا الطيور"، ومع ذلك فإن تفشي المرض لا يزال مستمرا.
ويستصعب أستاذ علم الأوبئة بجامعة هارفارد، مارك ليبسيتش، صياغة توقعه للفيروس رغم اختصاصه في المجال، فقد حاول مرتين في حديثنا أن يقول شيئا، ثم توقف لبرهة وقال: "في الواقع، دعني أبدأ من جديد". لذلك، من المفزع أن إحدى النقاط التي أراد أن يصححها كانت بالضبط: "أعتقد أن النتيجة المحتملة هي أنه لن يكون قابلا للاحتواء في النهاية".
واحتواء الفيروس هو الطريقة الأولى لمعالجة تفشيه. أما في حالة كورونا المستجد فإن الاحتمال لمنع انتشار الوباء (رغم عدم معقولية هذا الطرح)، تبدو أنها تتلاشى يوما بعد يوم. فابتداء من كانون الثاني/ يناير الماضي، بدأت الصين بتطويق مناطق أكبر تدريجيا، انطلاقا من مدينة ووهان التي تفشى فيها المرض أولا، باتجاه المناطق المحيطة بها، وفي النهاية، فرضت إغلاقا على نحو 100 مليون شخص، ومُنع الناس من مغادرة منازلهم، وبدأت السلطات توبيخهم باستخدام طائرات مسيّرة تجوب الشوارع، في حال خرجوا إليها. ومع ذلك، عُثر على الفيروس حتى الآن، في 24 دولة.
وعلى الرغم من الانعدام الجليّ لفعالية مثل هذه التدابير القاسية، نسبة إلى تكلفتها الاجتماعية والاقتصادية الفادحة على الأقل، إلا أن الحملة الحكومية تستمر في التصاعد. وتحت الضغط السياسي من أجل "وقف" الفيروس، أعلنت الحكومة الصينية يوم الخميس الماضي أن المسؤولين في مقاطعة هوبي سينتقلون من منزل إلى آخر، لاختبار الأشخاص بحثا عن علامات المرض، ليرسلوا جميع الحالات المحتملة إلى معسكرات الحجر الصحي. لكن حتى مع هذا الاحتواء "المثالي"، ربما كان انتشار الفيروس لا مفر منه. إذ لا يُمكن اعتبار أن فحص المرضى الذين تبدو عليهم علامات الإعياء الشديد، إستراتيجية متكاملة، في الوقت الذي يُمكن للفيروس فيه أن ينتشر من خلال أشخاص لا يشعرون بأعراضه البتّة، أو على الأقل ليس بالقدر الكافي الذي يجبرهم على التزام منازلهم، وعدم الذهاب إلى العمل.
ويتنبأ ليبسيتش أنه حتى العام المقبل، سيصاب نحو 40 إلى 70 في المئة من الناس حول العالم، بفيروس كورونا المستجد. ولكنه شدد على أن هذا لا يعني أن جميع هؤلاء سيعانون من الإعياء الشديد. وقال إنّ "من المحتمل أن يعاني الكثيرون من مرض معتدل، أو قد لا يواجهون أعراضه". أي كما هو الحال مع الإنفلونزا، التي غالبا ما تهدد حياة الأشخاص المصابين بأمراض صحية مزمنة وكبار السن، والتي تمر معظم حالاتها دون الحاجة إلى رعاية طبية. (وبشكل عام، نحو 14 في المئة من المصابين بالإنفلونزا لا يعانون من أعراضها).
وليس ليبسيتش وحده من يعتقد أن هذا الفيروس سيستمر بالانتشار على نطاق واسع. إذ ينمو إجماع بين علماء الأوبئة، بأن النتيجة الأكثر ترجيحا لهذا التفشي، هي انتشار مرض موسمي جديد، أي "المرض المتوطن" الخامس من عائلة فيروسات كورونا. ولم يُكتشف بعد، أن أجساد البشر نجحت بتطوير مناعة طويلة الأمد لأربعة أنواع الفيروسات التاجية الأخرى التي انتشرت في السابق، وإذا ما لحق بها فيروس كورونا المستجد هذا، وإذا بقي المرض بالشّدة التي تميّزه الآن، فقد يتحول "موسم نزلات البرد والإنفلونزا"، إلى "موسم نزلات البرد والإنفلونزا وفيروس كورونا المستجد".
وليس معلومًا في هذه المرحلة عدد الأشخاص المصابين به. وحتى الأحد الماضي، ظهرت 35 حالة مؤكدة في الولايات المتحدة، وفقا لمنظمة الصحة العالمية. لكن ليبسيتش كان يتوقع عندما تحدثنا الأسبوع الماضي، بتقدير "تقريبي جدًا" يعتمد على "افتراضات متعددة متراكمة" على حد قوله، إن نحو 200 أميركي قد أصابهم الفيروس. وهذا جلّ ما يتطلبه الفيروس ليتفشى على نطاق واسع في الولايات المتحدة. ويعتمد معدل الانتشار على مدى انتشار العدوى في الحالات المعتدلة. وفي يوم الجمعة الماضي، قال علماء صينيون في تقرير نشروه في المجلة الطبية "غاما"، إنهم وجدوا حالة واضحة لانتشار الفيروس من دون أعراض، بعد فحص مريض كان يجري تصوير طبقي محوري "سي تي" لصدره، ليكتشف الأطباء أنه مصاب بالفيروس صدفة. وخلص الباحثون باستيعاب متبلد لهذه الحالة، إلى أنه إذا لم تكن هذه النتيجة شاذة وغريبة، فإن "الوقاية من عدوى كورونا المستجد ستكون صعبة".
وحتى لو كانت تقديرات ليبسيتش خاطئة من حيث حجم اتساع رقعة تفشي المرض، إلا أن ذلك لن يغيّر التشخيص العام على الأرجح. وقال ليبسيتش إنّه "يصعب اكتشاف مئتي إصابة بمرض يشبه الإنفلونزا خلال موسم الإنفلونزا، عندما لا تجري فحوصات له. ولكن سيكون من الجيد حقًا أن نعرف عاجلا وليس آجلا ما إذا كان هذا صحيحا، أو هل أخطأنا في تقدير شيء ما. والطريقة الوحيدة للقيام بذلك هي عن طريق إجراء الفحوصات".
في البداية، لم ينصح الأطباء في الولايات المتحدة بفحص الناس إلا إذا كانوا قد ذهبوا إلى الصين أو كانوا على اتصال بشخص تم تشخيصه بالمرض. وخلال الأسبوعين الماضيين، وقال مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها، إنه سيبدأ فحص الأشخاص في خمس مدن أميركية، وسط محاولة لتكوين فكرة عن عدد الحالات الموجودة بالفعل. لكن الفحوصات لا تزال غير متوفرة على نطاق واسع. واعتبارا من 21 شباط/ فبراير الجري، قالت جمعية "مختبرات الصحة العامة" الأميركية، إن كاليفورنيا ونيبراسكا وإلينوي، هي الولايات الوحيدة القادرة على فحص الأشخاص بحثًا عن الفيروس.
ومع شُح المعلومات حول عدد المصابين، يُصبح التشخيص صعبا، لكن القلق من أن هذا الفيروس قد يتجاوز الاحتواء، أي أنه سيبقى في العالم لأجل غير مسمى، ليس أكثر وضوحا من السباق العالمي لإيجاد لقاح مضاد له، إذ أنها إحدى أوضح الاستراتيجيات التي ستُتبع لإنقاذ الأرواح في الأعوام المقبلة.
و خلال الشهر الماضي، ارتفعت أسعار أسهم شركة أدوية صغيرة تسمى "إنوفيو"، بأكثر من الضعف، ففي منتصف كانون الثاني/ يناير، بعد أن ورد أنها اكتشفت لقاحًا لفيروس كورونا المستجد. وكُرر هذا الادعاء في العديد من التقارير الإخبارية، على الرغم من أنه غير دقيق من الناحية التقنية، فاللقاحات تتطلب كأي عقارات أخرى، عملية اختبار طويلة لمعرفة ما إذا كانت بالفعل قادرة على حماية الناس من المرض، وبطريقة آمنة.
وما فعلته هذه الشركة (وغيرها أيضا)، هو نسخ جزء من الحمض النووي الريبوزي للفيروس الذي يمكن أن يثبت ذات يوم أنه يعمل لقاحا له، ومع أنها خطوة أولية واعدة، إلا أن وصفها بـ"الاكتشاف" يشبه الإعلان عن النية بإجراء عملية جراحية جديدة لمجرد شحذ المشرط بشكل جيّد (أي دون التعمّق في حالة المريض).
وفي حين أن تحديد تسلسل الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين، أصبح عملية سريعة للغاية اليوم، فإن ابتكار اللقاحات أمسى فنا وليس مجّرد علم. فهذا المسعى ينطوي على إيجاد تسلسل فيروسي يمكن الاعتماد عليه بأن يجلب ذاكرة وقائية للجهاز المناعي من الفيروس، دون أن يتسبب برد فعل التهابي حاد قد يصيب المريض بأعراض خاصة به. (إذ أنه برغم من أن لقاح الإنفلونزا لا يمكن أن يتسبب بها، إلا أن مركز السيطرة على الأمراض يحذر من أنه يمكن أن يسبب 'أعراض شبيهة بالإنفلونزا'". ومن أجل التوصل إلى هذه النتيجة المُثلى، يتحتم على العلماء إجراء الفحوصات بداية، على نماذج مختبرية، والحيوانات، ومن ثم البشر. وليس الأمر بهذه الدرجة من البساطة التي لا تتطلب من أي جهة معنية سوى شحن مليار قطعة من أجزاء الجينات الفيروسية حول العالم، لحقنها في أجساد البشر عند لحظة اكتشافها.
وليست شركة التكنولوجيا الحيوية الصغيرة "إنوفيو"، الوحيدة في مجالها التي تغامر بابتكار تسلسل يحقق التوازن المذكور أعلاه، فهناك "مودرنا"، و"كيورفاك"، و"نوفافاكس" وغيرها من الشركات التي تسعى لإيجاد لقاح لكورونا المستجد. ويسعى باحثون أكاديميون في جامعة "إمبريال كوليدج" في لندن وجامعات أخرى أيضا إلى إيجاد حلول، وكذلك علماء حكومات دول عديدة، بما في ذلك في معاهد الصحة الوطنية بالولايات المتحدة. وكتب رئيس المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية في المعهد الوطني للصحة، أنثوني فوشي، في دورية "جاما" العلمية، في كانون الثاني/ يناير الماضي، أن الوكالة تعمل بسرعة تاريخية للعثور على لقاح. وخلال تفشي فيروس "سارس" عام 2003، انتقل الباحثون من الحصول على التسلسل الجيني للفيروس، إلى المرحلة الأولى من التجارب السريرية للّقاح، في غضون 20 شهرا. وكتب فوشي أن فريقه قام منذ ذلك الوقت بضغط هذا الجدول الزمني على ما يزيد قليلا عن ثلاثة أشهر بحثا عن لقاحات لفيروسات أخرى، وأما بالنسبة لفيروس كورونا المستجد، فإنهم "يأملون في التحرك بسرعة أكبر".
ونمت نماذج جديدة تعد بتسريع تطوير اللقاحات في الأعوام الأخيرة. وأحدها، هو التحالف من أجل التأهب للأوبئة ("سي إي بي آي")، والذي أُطلق لأول مرّة عام 2017، في النرويج، بهدف تمويل وتنسيق تطوير لقاحات جديدة. وتشتمل قائمة مؤسسيها على كل من حكومات النرويج والهند، وصندوق "ويلكم"، ومؤسسة "بيل ومليندا غيتس". وتتدفق أموال المجموعة الآن إلى "إنوفيو" وغيرها من الشركات الصغيرة الناشئة في مجال التكنولوجيا الحيوية، مشجعة مديريها على الانخراط في مراهنة أعمال خطرة، وهي تطوير اللقاحات. ويشارك الرئيس التنفيذي للمجموعة، ريتشارد هاتشيت، رؤية فوش الأساسية، وهي ابتكار لقاح لكورونا المستجد، بحيث يكون جاهزا للمراحل المبكرة من اختبارات السلامة في نيسان/ أبريل المقبل. وإذا ما سارت الأمور على ما يرام، فقد تبدأ الاختبارات في أواخر الصيف لمعرفة ما إذا كان اللقاح قادر على منع المرض بفاعلية.
وبشكل عام، إذا تمت كافة الاستعدادات على أكمل وجه، فإن هاتشيت يتوقع أن يستغرق الأمر ما بين 12 إلى 18 شهرًا قبل اعتبار المنتج الأولي آمنا للاستخدام، وفعالا. وأطلعني على أن الجدول الزمني يتسارع جدا "مقارنة بتاريخ تطوير اللقاحات". لكنه أيضا طموح بشكل غير مسبوق. بل أنه أضاف أن "حتى اقتراح مثل هذا الجدول الزمني في هذه المرحلة، يجب اعتباره طموحا للغاية".
وحتى لو حُقق هذا التخطيط الذي سيستغرق ما لا يقل عن عام، بشكل مثالي، سيظل المنتج الجديد يتطلب التصنيع والتوزيع. وقال هاتشيت إنّ "أحد الاعتبارات المهمة هو ما إذا كان بالإمكان التوسع في النهج الأساسي لإنتاج ملايين أو حتى مليارات الجرعات في الأعوام المقبلة". لكن في حالة الطوارئ المستمرة، وإذا تفاقم إغلاق الحدود وانقطاع سلاسل الإمداد، فقد يكون التوزيع والإنتاج صعبا من الناحية اللوجستية المحضة، ناهيك عن النواحي الأخرى المتعلقة بانتشار الفيروس وجدوى اللقاح.
وبدأ يتضاءل تفاؤل فوشي الأولي أيضا؛ فقد قال الأسبوع الماضي إن عملية تطوير اللقاحات أثبتت أنها "في غاية الصعوبة ومُحبطة جدا". فمقارنة مع جميع أوجه التقدم في العلوم الأساسية، لا يمكن أن تتقدم عملية تطوير لقاح فعلي دون إجراء اختبارات سريرية مكثفة، الأمر الذي يتطلب تصنيع العديد من اللقاحات ومراقبة نتائجه بدقة على المصابين. وقد تكلّف العملية في نهاية الأمر مئات الملايين من الدولارات، وهي أموال لا تملكها المعاهد الوطنية للصحة والشركات الناشئة والجامعات، والتي لا تملك أيضا، مرافق الإنتاج والتكنولوجيا لتصنيع اللقاح وتوزيعه على نطاق واسع.
ولطالما كان إنتاج اللقاحات مرهونًا بالاستثمار من إحدى بضعة شركات الأدوية العالمية العملاقة. وعبّر فوشي عن آسفه في معهد "آسبن" الأسبوع الماضي، من عدم "تقدم" أي جهة للالتزام بصناعة اللقاح. وقال "إن الشركات التي تملك المهارات اللازمة التي تمكنها من ذلك (صناعة اللقاح)، لن تنتظر مستعدة للعمل عند حاجتنا إليها". وحتى لو فعلت ذلك، فإن الحصول على منتج جديد مثل هذا قد يعني خسائر فادحة بالنسبة لها، خاصة إذا تلاشى الطلب أو إذا اختار الناس، لأسباب معقدة، عدم استخدام المنتج.
يتطلب صنع اللقاحات سيرورة صعبة للغاية، وشديدة التكلفة، ذات مخاطر اقتصادية مرتفعة جدا، إلى حد أنه في ثمانينيات القرن الماضي، وعندما بدأت شركات الأدوية في تحمل تكاليف قانونية على الأضرار المزعومة التي سببتها اللقاحات للمرضى، اختارت شركات كثيرة التوقف عن صناعتها ببساطة. ولتحفيز صناعة الأدوية على الاستمرار في إنتاج هذه المنتجات الحيوية، عرضت الحكومة الأميركية تعويض أي شخص يدعي أنه أصيب بأحد اللقاحات، ويستمر ذلك حتى يومنا هذا.
ومع ذلك، فقد وجدت شركات الأدوية عمومًا أنه من المربح الاستثمار في الأدوية التي تستخدم يوميا لعلاج أو منع تطور الحالات المزمنة. ويمكن أن تشكل فيروسات كورونا تحديا خاصا لهذه الشركات، لأنها في جوهرها، شأنها شأن فيروسات الإنفلونزا، تحتوي على سلاسل أحادية من الحمض النووي الريبوزي. ومن المحتمل حدوث طفرة في هذه الفئة الفيروسية، ما يعني أن اللقاحات تحتاج إلى تطوير مستمر (ومكلف)، كما هو الحال مع الإنفلونزا.
وأخبرني الأستاذ المساعد في كلية ييل للصحة العامة الذي يدرّس سياسات اللقاحات، جاسون شوارتز أنّه "إذا وضعنا كل آمالنا في اللقاح كاستجابة للفيروس، فنحن في ورطة". وبالنسبة له، فإن أفضل سيناريو متوقع، هو تطوير هذا اللقاح بعد فوات الأوان، أي أنه لن يتمكن من التأثير على التفشي الحالي. وتكمن المشكلة الحقيقية بأن الاستعدادات لهذا التفشي كان يجب أن تحدث خلال العقد الماضي، منذ انتشار سارس. وقال: "لو لم نوقف برنامج بحوث لقاح سارس، لكنا قد امتلكنا الكثير من هذا العمل التأسيسي الذي كان بإمكاننا تطبيقه على هذا الفيروس الجديد ذي الصلة الوثيقة به". ولكن، وكما هو الحال مع فيروس إيبولا، تبخر التمويل الحكومي وتطوير صناعة الأدوية بمجرد انتهاء حالة الطوارئ التي كان يشعرها العالم تجاهه. وأضاف شوارتز متطرقا إلى إيبولا: "انتهى الأمر ببعض الأبحاث المبكرة إلى الجلوس على الرفوف لأن التفشي انتهى قبل تطوير لقاح".
وأورد موقع "بوليتيكو"، السبت الماضي، أن البيت الأبيض يستعد لأن يطلب من الكونغرس الحصول على تمويل قدره مليار دولار، لضخه في مشاريع التصدي لفيروس كورونا المستجد. وسيأتي هذا الطلب، إذا تحقق، في الشهر ذاته الذي أصدر فيه الرئيس دونالد ترامب اقتراحا جديدا للميزانية من شأنه أن يخفض العناصر الأساسية للتأهب للأوبئة، أي تخفيض تمويل مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها والمعاهد الوطنية للصحة والمعونة الخارجية.
وتُعد هذه الاستثمارات الحكومية طويلة الأجل، مهمة، لأن إنتاج اللقاحات والأدوية المضادة للفيروسات وغيرها من الأدوات الحيوية يتطلب عقودا من الاستثمار الجاد، حتى عندما يكون الطلب عليها منخفضا. وغالبا ما تتكبد الاقتصادات القائمة على السوق (الرأسمالية)، عناء شديدا لتطوير منتج لا يوجد طلب فوري عليه، ولتوزيع المنتجات على الأماكن التي تحتاج إليها. وأُثني على التحالف من أجل التأهب للأوبئة، لكونه نموذج واعد لتحفيز تطوير اللقاحات قبل بدء حالات الطوارئ، ولكن هناك بعض المتشككين بالمجموعة أيضا. ففي العام الماضي، كتبت منظمة "أطباء بلا حدود" رسالة مفتوحة قاتمة، قائلة إن النموذج لم يضمن التوزيع العادل أو القدرة على تحمل التكاليف. وقام التحالف لاحقا بتعديل سياساته من أجل المنالية العادلة، وأخبرني مستشار الابتكار الطبي والمنالية في "أطباء بلا حدود"، مانويل مارتن، الأسبوع الماضي أنه الآن يشعر بتفاؤل حذر إزاء هذه الخطوة، وقال إن "التحالف من أجل التأهب للأوبئة، واعدا للغاية، ونأمل حقا أن ينجح في إنتاج لقاح جديد". لكنه هو وزملاؤه "ينتظرون لمعرفة كيف سيثبت التحالف التزاماته في الممارسة؟".
ولا تنحصر أهمية هذه الاعتبارات في العمل الخيري الإنساني فحسب، ولكنها أيضا تشمل السياسة الفعالة. فتمكين وصول اللقاحات وغيرها من الموارد إلى الأماكن التي ستكون مفيدة للغاية فيها، هو أمر ضروري لمنع انتشار المرض على نطاق واسع. وخلال تفشي أنفلونزا "إتش 1 إن 1" عام 2009، على سبيل المثال، تعرضت المكسيك لضربة وبائية شديدة، لكن أستراليا، والتي لم تتأثر به بهذا القدر، منعت صادرات صناعة الأدوية حتى استيفاء طلب الحكومة الأسترالية من اللقاحات. وكلما دخل العالم في وضع الانغلاق والحفاظ الذاتي، أصبح من الصعب تقييم المخاطر بشكل رصين وتوزيع الأدوات بفعالية، من اللقاحات وأقنعة التنفس إلى الغذاء والصابون اليدوي.
وتعد كل من إيطاليا وإيران وكوريا الجنوبية من بين الدول التي أبلغت عن عدد متزايد متسارع من الإصابات الناجمة عن فيروس كورونا المستجد. ولقد استجابت العديد من الدول للفيروس بمحاولات احتواء، على الرغم من الفعالية المشكوك فيها والأضرار الكامنة في حملة العزل الصينية غير المسبوقة تاريخيا. وقد تكون بعض تدابير الاحتواء مناسبة، لكن حظر السفر على نطاق واسع وإغلاق المدن وتخزين الموارد ليست حلولًا واقعية لمنع تفشي المرض الذي سيستمر لأعوام، ناهيك عن أن جميع هذه التدابير تأتي مع مخاطر خاصة بها. في النهاية ، ستتطلب بعض الاستجابات الوبائية فتح الحدود، وليس إغلاقها. وفي مرحلة ما، يجب التخلي عن توقع أن تتفادى أي منطقة آثار كورونا المستجد: يجب أن يُنظر إلى المرض على أنه مشكلة الجميع.