الكذبة الكبرى التي تنطوي عليها خطة ترمب هي حديثها عن حل الدولتين وادعاؤها أنها تمنح الفلسطينيين دولة بمساحة تقارب تلك التي استولت عليها إسرائيل في عدوان 1967. هذه الكذبة ينقضها تماماً ما تنص عليه الخطة من أن السيطرة الأمنية المطلقة غربي نهر الأردن حتى البحر الأبيض المتوسط ستكون بيد إسرائيل لمدى غير محدود من الزمن. وتجربتنا توضح أن من يسيطر على الأمن يسيطر على كل شي.
وفضلاً عن كونها أرخبيلاً من المعازل التي تفصل فيما بينها المستوطنات تحت السيادة الإسرائيلية، وترتبط بين بعضها فقط عبر الجسور والأنفاق، فإن هذه الدولة المزعومة تفتقر لأبسط مقومات الحكم الذاتي ناهيك عن السيادة. فإسرائيل تسيطر على حدودها ومعابرها وسمائها وفضائها ومجالها الالكترومغناطيسي ومياهها الإقليمية بل لإسرائيل والولايات المتحدة وفقاً للخطة الرقابة والحكم فيما إذا كانت هذه الدولة تستوفي معايير البناء الداخلي والدستوري الخاص بها والتي تمليها عليها الخطة بما في ذلك احترام حقوق الإنسان ومكافحة الفساد، وهي مفارقة هزلية أن يتم الإعلان عن هذا الشرط على الدولة الفلسطينية كي تقوم من قبل شخصين كلاهما مقدم للمحاكمة رسمياً في دولته بتهم فساد. هي إذا بانتوستان أكثر تبعية من بانتوستانات جنوب أفريقيا البائدة وترسيمٌ لنظام تمييز عنصري بامتياز.
وفوق ذلك، تطالب الخطة الفلسطينيين والعرب بالإعتراف بما يسمى "القدس الموحدة" التي تشمل القدس الشرقية والمسجد الأقصى عاصمة غير مقسمة لإسرائيل، وبشطب كل حقوق اللاجئين بما فيها حق التعويض وبالطبع حق العودة، وحتى الذين يمكن أن يعودوا إلى ما يسمى "بالدولة الفلسطينية" يجب أن يخضعوا لموافقة إسرائيل، وأن يتحدد عددهم وفقاً لإعتبارات الأمن الإسرائيلي، وكذلك الإعتراف بإسرائيل كدولة قومية "للشعب اليهودي" الأمر الذي يعني تبني الإيدولوجية الصهيونية ونفي الرواية التاريخية الحقيقية لمجرى الصراع. كان المطلوب الإعتراف بحق إسرائيل بالعيش بسلام، الآن بات المطلوب الإعتراف "بإسرائيل الكبرى" وتطبيع العلاقات معها على أساس منح بعض الحقوق المدنية والدينية لغير اليهود باعتبار ذلك تتويجاً لصنيعة وعد بلفور المشؤوم "قانون القومية" العنصري.
هذه الخطة هي إحدى أبرز محاولات إدارة ترمب لفرض شريعة الغاب بديلاً عن الشرعية الدولية والقانون الدولي، وهي انتهاك صارخ للإجماع الدولي على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. فإضافة إلى إعطائها ضوءاً أخضر لضم الأغوار والمستوطنات -أي أكثر من نصف الضفة الغربية- فإن وظيفتها الرئيسية هي محاولة إيجاد مناخ إقليمي يدفع بعجلة التطبيع بين إسرائيل وبين بعض الدول العربية.
إن الذين يطالبون الجانب الفلسطيني بالتوجه إلى مفاوضات على أساس هذه الخطة يتجاهلون حقيقة الموقف الأمريكي الذي ينطوي على إلغاء الطرف الآخر وهو الفلسطيني، ويشكك بوجوده وجدارته كما جاء في تصريحات كوشنر وجريبنلات، وهو ما يؤكد أن إحدى وظائف الخطة هي العودة مرة أخرى إلى مسلسل إلقاء اللوم على الجانب الفلسطيني تحت ستار الأسطورة الكاذبة التي تتهم الفلسطيني بإضاعة الفرص. ففي الواقع، لم تترك القيادة الفلسطينية فرصة إلا وقبضت عليها، بما في ذلك الفرص الذي تبين فيما بعد أنها وهمية. حيث أقدم الفلسطينيون على مجازفة تاريخية كبرى بقبولهم فكرة الحل الوسط القائم على أساس حدود 1967، ولكنهم منذ ذلك الحين لم يتلقوا عرضاً واحداً لا من الجانب الإسرائيلي ولا من الجانب الأمريكي يستجيب لهذا الحد الأدنى الذي قبلوا به رغم ما يلحقه بهم من ظلم تاريخي. وليس من داعٍ في هذا الإطار أن ندعو كوشنر أو أقرانه لدراسة تاريخ المكان الذي يقبعون فيه على الأقل، ويطلعون على أرشيف البيت الأبيض بدءاً من مدريد مروراً بأوسلو المتفق عليها أمريكياً، والتي ينص فيها بنداً على أن الضفة الغربية وقطاع غزة وحدة جغرافية واحدة والولاية عليها فلسطينية، وصولاً إلى كامب ديفيد وأنابوليس وإنتهاء بمحادثات 2013-2014 بإشراف جون كيري التي نسفتها إسرائيل بالتنصل من تعهداتها.
لكن بعد أن أزالت الخطة القدس واللاجئين والحدود، وبعد أن نصّت على أن مساحة المستوطنات التي سيتم ضمها لإسرائيل تتحدد من قبل لجنة إسرائيلية أمريكية مشتركة فما هي وظيفة التفاوض مع الجانب الفلسطيني حول هذا الموضوع؟ وبعد كل التفاصيل التي تتضمنها الخطة بما فيها فرض السيادة على الغور، ووضع "المستوطنات الكبيرة والصغيرة" تحت السيادة الإسرائيلية، وتغيير الوضع الراهن في القدس، والأخطر من ذلك السماح لغير المسلمين بالصلاة في المسجد الأقصى، وتسليم مفاتيح الأقصى وكنيسة القيامة لنتنياهو وترمب، وإنشاء منطقة سياحية في عطاروت! فعن أي دولة يتحدثون؟ إن هذه الخطة عرضت علي شخصياً من قبل نتنياهو ومفاوضيه عام 2011 و2012، وأتحدى أن يكون كوشنر أو جرينبلات أو فريدمان خطوا فيها حرفاً واحداً. هذه الخطة كتبت بحبر قلم نتنياهو ومجالس المستوطنات، وهي خطة سياسية تهدف إلى القضاء على المشروع الوطني الفلسطيني، ولا ينقصها سوى السلام فقط!
أما على صعيد الإغراءات المالية مقابل الحقوق الوطنية الفلسطينية، واستبدال الحل السياسي وإنهاء الإحتلال بوعود الدولارات، فإن خطة "من السلام إلى الإزدهار"، والتي تعد بمستقبل اقتصادي زاخر لفلسطين توفره استثمارات بقيمة 50 مليار دولار على مدى عشر سنوات، تتجاهل أن قيمة الاستثمارات ليست هي التي تحدد إستدامة النمو الاقتصادي بل قدرة الشعب الفلسطيني على السيطرة على مقدراته وسياساته المالية والنقدية وموارده الطبيعية، وهذه كلها ستكون خاضعة للسيطرة الإسرائيلية، الأمر الذي سيكرس ويخلد تبعية الاقتصاد الفلسطيني ويمنعه من القدرة الفعلية على النمو، عدا عن أن مبلغ الخمسين مليار ما هو إلاّ لوحة إعلانية كبيرة تخفي حقيقة أن ثلاثة أرباع هذا المبلع ينعقد الأمل على جمعه من الاستثمارات الخاصة والقروض التي ليس ثمة ما يحفز على تقديمها من قبل المستثمرين في ظل الإضطراب الشامل الاقتصادي والسياسي الذي سيولده تنفيذ الخطة. وبالتالي، أين يمكن أن يتحقق هذا الإزدهار إن لم يكن للشعب الفلسطيني أرضٌ يقف عليها وينعم بمواردها ويقرر مستقبله ومصيره على ترابها؟ الإزدهار في غياب الاستقلال ليس إلا وهماً، فمن دون الإستقلال الناجز لا يمكن أن يكون هناك اقتصاد مستقر ناهيك عن اقتصاد مزدهر.
من الطبيعي إذن ان يرفض الفلسطيني والعربي ما جاء من وهم في ما يسمى خطة السلام، وهذا ما عبر عنه موقف الإجماع العربي في اجتماع وزراء الخارجية العرب الطارئ في الجامعة العربية يوم 1/2/2020 الذي رفض هذه الخطة، واعتبرها غير مناسبة لتحقيق السلام العادل والدائم والشامل المبنية على القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، بل انتكاسة جديدة لجهود السلام الممتدة على مدار ثلاثة عقود، وأنها لن تنجح كونها توجت القرارات الامريكية الأحادية المجحفة والمخالفة للقانون الدولي بشأن القدس والجولان والإستيطان الاستعماري وقضية اللاجئين والأونرا، ومخالفتها للمرجعيات الدولية لعملية السلام، ولا تلبي الحد الأدنى من تطلعات وحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، وفي مقدمتها حقه في تقرير المصير وتجسيد سيادة دولته على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وحق العودة وفقاً للقرار الأممي 194.
بالفعل لقد شكل هذا الموقف المبدئي الظهير المساند لقضية فلسطين قضية العرب المركزية، مثبتاً أن النضال من أجل قضية فلسطين العادلة لا يقتصر على الفلسطينيين فحسب، بل هو أيضاً نضال عربي جماعي.
لا بد لنا أن نشكر في هذا المقام كل من اصطف إلى جانب فلسطين قضية وشعباً وحقوقاً، وكل من دافع عن الشرعية الدولية، وفي مقدمتهم الدول العربية الشقيقة ولنا كل الثقة بهم على كل ما قدموه من أجل قضيتنا، ونتمسك بما قرروه في قممهم من ثوابت لحل هذه القضية، وندعوهم إلى إحباط المناورات الأمريكية الإسرائيلية الهادفة إلى النيل من ثوابتنا. ونشكر جميع مناصري حقوق شعبنا في جميع أصقاع الأرض، والمؤسسات والشخصيات الدولية وأعضاء الكونغرس الأمريكي، وغيرهم من شجعان هذا العالم، فقضية فلسطين تمثل اليوم المعيار الحقيقي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الذي نتمسك به ونحارب من أجل إنفاذه في وجه هيمنة القوة. وسنقوم بمواصلة حراكنا على الصعيد الدولي بمساندة شعبنا العظيم وأصدقائنا العرب من أجل العمل مع دول العالم التي لم تعترف بفلسطين للإعتراف بها، ومساءلة الاحتلال على جرائمه وفرض العقوبات عليه، ومقاطعة منتجات مستوطناته غير الشرعية، وإطلاق قاعدة بيانات الأمم المتحدة التي تفضح الشركات المتواطئة بترسيخه.
ليس هناك أي "كوشان" في القدس منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام يحتوي على اسم "كوشنر" أو "جرينبلات" أو أي مارق على تاريخ فلسطين العتيق، بينما يحفظ كل حجر من أحجارها أسماء أبنائها وعوائلها الفلسطينية العريقة، هؤلاء فقط من يقرر مصيرها.