جمهورية جلعاد (1-4)..حسن خضر

الثلاثاء 17 سبتمبر 2019 12:30 م / بتوقيت القدس +2GMT
جمهورية جلعاد (1-4)..حسن خضر



قبل سنوات قليلة، أراني مدير مؤسسة ثقافية في رام الله قصة مصوّرة للأطفال قال إن "حماس" منعت تداولها في مدارس غزة، لأن الأولاد في الصور يلعبون مع البنات. وكغيري تابعت على مدار أيام أخبار مقتل إسراء غريب لأسباب ما زالت ملتبسة، وإن كانت لا تخلو من تضافر ألاعيب الجن، مع بلاغة ما يُلحق النزق الأنثوي بالشرف الرفيع من الأذى.
على أي حال، حضرت الحكايتان، مع كل ما فيهما من تداعيات، منذ الصفحة الأولى لـ "الوصايا"، رواية مارغريت آتوود الجديدة، الصادرة يوم الثلاثاء الماضي، والتي لم أطق انتظار الحصول على نسختها الورقية، وسارعت إلى شراء نسختها الإلكترونية.
الشاهد، أي مُبرّر هذا الكلام، أن للكتب سيرة فردية تماماً، ولا شك أن في ذاكرة مَنْ أدركتهم حرفة القراءة في وقت مبكّر من العمر، رائحة كتاب ما، وألوان غلافه، وحكاية الحصول عليه، وما ترك من آثار في العقل والوجدان لحظة القراءة، ولحظات لاحقة تبدّلت فيها المعاني، ولكن الرعشة الأولى لم تتبدّل. فقدنا الرائحة، وحاسة اللمس، في زمن الكتاب الإلكتروني، ولكن ما تبقى مِنْ أشياء كثيرة لم يتبدّل.
والشاهد، أيضاً، أن كل ما تقدّم وثيق الصلة، اليوم، بالكندية مارغريت آتوود، وروايتها الجديدة، وهي الجزء الثاني لرواية صدرت قبل أربعة وثلاثين عاماً بعنوان "حكاية الوصيفة"، ونُقلت إلى العربية في ترجمات وعناوين مختلفة، إلى حد يبرر الافتراض بأن عدداً لا بأس به من العرب قد اطلع عليها، أو كوّن فكرة ما عنها. فاغلب "الثقافة" السائدة شفوي في الواقع.
تنتمي "حكاية الوصيفة" إلى ما يُسمى يوتوبيا مقلوبة، أو دايستوبيا، أي كل ما هو عكس مدينة الفارابي "الفاضلة"، فهي الحلم الوردي البرّاق من الخارج، الذي يتجلى بطريقة كابوسية في الواقع. وما له دلالة، في هذا الشأن، أن اللغة العربية مضطرة لاستعارة تعبيرات من خارجها، لأنها ذات مضامين لاهوتية في الجوهر، ومدينتها الفاضلة في نهاية زمنها الدائري، الذي لا يتجلى فيه المستقبل إلا بوصفه ممراً إجبارياً إلى ماض بعيد. لا وجود لليوتوبيا في الحقل الدلالي للعربية مقارنة بلغات حديثة كثيرة.
سنعود إلى التاريخ السلالي لـ "حكاية الوصيفة" في معالجة مستقلة، ويكفي، الآن، القول إن في اليوتوبيا، كما اليوتوبيا المقلوبة، ما يفتح صندوق بندورا العجيب، على دلالات سياسية واجتماعية يصعب حصرها.
فلا وجود لهذه أو تلك دون، أو قبل، أو خارج، السياسة والمجتمع. ولا معنى لهذه، أو تلك، بلا وجود ملموس لمسطرة أخلاقية وسياسية يُقاس عليها نظام الحكم، أي الإدارة السياسية للمجتمع، ومع كل ما يتصل بها، وينبثق عنها، من مفاهيم من نوع العدالة، والحرية، والمساواة، ومع صياغة وتسويغ الدلالات الأيديولوجية لمفاهيم كهذه من جانب هذا النظام الحاكم أو ذاك.
لذا، وعلى الرغم من حقيقة أن حبكة "حكاية الوصيفة" لم تتجاوز، أو تتفوّق على، حكايات سبقت في التاريخ السلالي لروايات اليوتوبيا المقلوبة، ناهيك عن بساطتها، إلا أنها استُقبلت باهتمام كبير من جانب النقّاد، والقرّاء في الغرب. لم يقتصر الأمر على توزيع 8 ملايين نسخة، بل واحتلت مكانة أيقونية في ثقافة الغرب ومخياله السياسي بفضل أفلام ومسلسلات كثيرة، وتمكّنت من توليد مجازات أغنت الحقلين الثقافي والسياسي في آن.
ولم يعد من النادر، على مدار العقود القليلة الماضية، وجود نساء يرتدين جلابيب حمراء فضفاضة، ويعتمرن قبّعات تحجب الوجه والملامح، في مظاهرات الدفاع عن حرية وحقوق النساء. كان ذلك الزي الرسمي للوصيفات في رواية آتوود، الذي كرّسته الأفلام والمسلسلات. وبهذا المعنى انتقلت صورة مجازية صنعها الخيال من صفحة في رواية إلى مظاهرة في الشارع. ولعل في هذا ما يعيد التذكير بالقرية الخيالية التي صوّرها الياس خوري في "باب الشمس"، والتي تحوّلت إلى كينونة واقعية أخرجها شبّان من الرواية، وبنوها على الأرض، وكلما هدمتها جرافات الاحتلال، واظبوا على مهنة البناء.
الشاهد أن ما نالت "حكاية الوصيفة" من اهتمام يعود في جانب كبير منه إلى نشرها في عام 1985، في الطور الأخير من حياة الأنظمة الشمولية في الجمهوريات السوفياتية، وأوروبا الشرقية. وما له من دلالة أن آتوود كتبت جانباً من الرواية في برلين الغربية، في ظل الجدار الشهير، وأن تصريحاً للدكتاتور الروماني، تشاوشيسكو، أثارها على نحو خاص لأنه اشترط على النساء الرومانيات إنجاب أربعة أطفال.
والشاهد، أيضاً، أنها ترافقت مع صعود الموجة النسوية في الغرب، سواء في الأكاديميا، أو في وسائل الإعلام، والخطاب العام. بمعنى أن التوقيت كان في مصلحة الرواية لأن موضوعها الرئيس يتعلّق بما يلحق بالنساء من ظلم فادح في ظل الدكتاتورية. فلا معنى للدكتاتورية، في أي مكان، بعيداً عن احتكار، ومصادرة، أجساد النساء.
ولكن "ضربة المعلّم" تمثلت في أمرين: أن أحداثها لا تدور في بلدان الكتلة الشرقية، بل في أميركا، التي تمكّن المسيحيون الإنجيليون من الاستيلاء على الحكم في بعض ولاياتها، وفي فرضية أن اليمين الديني يهدد أنظمة الديمقراطيات الليبرالية في الغرب.
وبما أننا بدأنا بالكلام عن السيرة الفردية للكتب، نختم بالقول إن في مجرد صدور الجزء الثاني من "حكاية الوصيفة" ما يستحضر سيرة فردية وجمعية لـ "الوصايا" لدى الكثيرين في الشرق والغرب على حد سواء. وبهذا نقترب أكثر من "جمهورية جلعاد"، التي لم نفسرها بعد، وصلة هذا كله بقصة مصوّرة للأطفال، ومصرع صبية "سكنها" الجن. فالحكايات، إن كانت عن النساء، لا تفنى ولا تُخلق من عدم.