في فهم أولويات الصراع مع المشروع الصهيوني في بلادنا ممثلا بإسرائيل تشكل الثقافة حضورها العميق كأحد أهم محاور هذه المواجهة الممتدة على عقود طويلة سابقة على النكبة وقادمة من تخوم القرن العشرين، نتحدث عن "حق الرواية"، عن تفكيك الصورة النمطية التي أسسها "الاستشراق" في المخيلة الغربية، وهي الصورة التي انطلقت منها واعتمدت عليها الدعاية الصهيونية لإقناع العالم بروايتها.
لقد نجحت الرواية الصهيونية في إقناع العالم ليس بضرورة "إسرائيل" وشرعيتها أو التعامل معها كأمر واقع فقط، ولكن في إشراك العالم في بنائها على الأرض الفلسطينية، حيث واصلت الرواية عملها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مع إضافات جديدة، عبر عشرات آلاف المتطوعين الذين تدفقوا من أوروبا للتضامن مع "الدولة الفتية المحاصرة"، حيث تبني "أقلية مضطهدة" جنة في ارض فارغة، وحيث "يخضّر اليهود الصحراء" محاطين بقبائل همجية وبدو رحّل يكرهون الزراعة.
العديد من الشباب الأوروبي المذهول أمام بشاعة "الهولوكست"، وصل المزارع التعاونية الناشئة في النقب والجليل ليساهم في بناء "القلعة" التي ستحمي وتطعم الناجين من المحرقة النازية، وصلوا مدفوعين بقوة الرواية وقدرتها على الإقناع، خاصة وأنهم في معظمهم من أبناء دول استعمارية غذت أجيالها على ثقافة الاستشراق، الذي حول الاستعمار الى عمل خيري.
قوة الرواية التي أعمتهم عن رؤية البنية التحتية المتطورة في فلسطين، الموانئ والمطار وسكة الحديد والطرق والزراعة والصحافة والاقتصاد التي استولت عليها "الضحية" القادمة من أوروبا والتي شكلت أساس بنيتها، ...في وطن صغير لا يتجاوز الـ 27 ألف كم2.
لقد استفادت الرواية الصهيونية من ضعف الرواية الفلسطينية، أو شبه الغياب الذي عانت منه طويلا، ومن تصدر الأنظمة العربية للحديث باسم الفلسطينيين، ثم عندما قرر "السياسيون" الذين تصدروا المشهد الفلسطيني الحديث باسم المشروع الثقافي الفلسطيني.
ببساطة لقد أفسد السياسيون روايتنا.
وهم يواصلون هذا العبث المنطلق أساسا من الجهل بأولويات الصراع، ثم من جهلهم الشخصي، كذلك من خلال تهميشهم لدور الثقافة في المشروع الوطني.
ورغم ذلك استطاع المثقفون الفلسطينيون، عبر مشاريع فردية في الغالب، إعادة بناء الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني بعد النكبة في المنفى، تلك كانت مهمة مذهلة، وعبر سنوات الستينيات نهضت الهوية الوطنية في الداخل بقوة، واستطاعت الشرائح المثقفة الفلسطينية أن تشكل رافعة للثورة المعاصرة، وأن تعزز الحضور الفلسطيني في وجدان العالم عبر قائمة طويلة من المبدعين والمفكرين، قبل أن يحبس المشروع الوطني نفسه في قفص "السلطة"، ويستبدل الثقافة بالولاءات والمثقفين بطبقة من سياسيي التنظيمات.
هذه مقدمة لأقول: لو كنت في موقع رئيس الوزراء لبدأت بملف التعليم. تأهيل العملية التربوية المناهج والوسائل وتحسين جذري لظروف المعلم عبر ربط هذا التحسين بعملية تأهيل حقيقية، دون محاولة إرضاء أفكار بائدة ثبت فشلها وتركت آثارها السلبية على وعي الجيل، ولمنحت الملف الثقافي المهمش، لأسباب كثيرة منها ضحالة ثقافة معظم أصحاب القرار، لمنحته أهمية تنقله الى قائمة الأولويات، دون محاولة إخضاعه للمحاصصة التنظيمية وأفكار الفصائل التي تسببت في عزوف المثقفين عن المؤسسة وخوائها. التعليم والثقافة يشكلان "العنقود" الأم في المواجهة الطويلة التي نخوضها، ويشكلان البنية التحتية لأي عملية تنمية حقيقية. دون ذلك سيبدو الأمر أقرب الى إعادات بالأبيض والأسود.