عن بداية الثمانينات في لبنان..عبد الغني سلامة

الأربعاء 04 سبتمبر 2019 02:31 م / بتوقيت القدس +2GMT
عن بداية الثمانينات في لبنان..عبد الغني سلامة



إذا كان توقيع "كامب ديفيد" قد أدى إلى عزلة مصر وخروجها من النظام العربي؛ فإن الحرب العراقية الإيرانية أدت إلى انشغال العراق واستنزافه، وفي المحصلة خسرت الثورة الفلسطينية أهم حليفين، كان من المفترض أن يكونا قوة إسناد لفلسطين.
ولما انتصرت الثورة الإيرانية، فرح الفلسطينيون بها، وظنوا أنها ستعوض خسارتهم لمصر، وستعدّل من موازين القوى في المنطقة، لذلك كان ياسر عرفات أول من زار إيران وهنأ الخميني بنصره، ومن طهران أطلق عبارته الشهيرة: "عُمْقنا الاستراتيجي يمتد من صور إلى خراسان". لكن بعد وقت قصير تبين أن الرهان كان خاطئاً، وأن الخسائر الفلسطينية ستكون أفدح من المتوقع.
الكاتب "د. شفيق الغبرا" (وهو فدائي عايش التجربة الفلسطينية في حقبة السبعينات)، في كتابه "حياة غير آمنة" يصوّر طبيعة الأجواء التي سادت بعد انتصار الثورة الإيرانية، ويتحدث عن مدى تأثيراتها على الثورة الفلسطينية، وعلى المنطقة بشكل عام؛ يقول: "مع عام 1979 تبين أننا أصبحنا وحدنا، بلا مساندة؛ فقد نجحت إسرائيل في الاستفراد بنا، وبدأت قاعدتنا في جنوب لبنان تهتز". 
ويضيف: "جاء النموذج الإيراني ليقول إن الثورة في العالم العربي والإسلامي لن تكون ماركسية، أو اشتراكية، أو يسارية، أو قومية، أو وطنية كما كنا نقول ونعتقد؛ بل إسلامية الاتجاه والهوى، دينية المضمون والعمق". 
واعتبر أن انتصار الثورة الإيرانية أعطى للإسلام السياسي زخما إضافيا، ومنَحه القوة الإعلامية والجماهيرية التي كان يحتاجها، ومثّل بداية تراجع وانكفاء القوى القومية واليسارية والوطنية والعلمانية؛ إذْ بدأت شعارات الإسلام السياسي بالظهور بقوة، مثل "تطبيق الشريعة"، وأخذ شبان "ثوريون" يتبنّون أفكار الإسلام السياسي، ويستبدلون الشعار القديم "الوحدة العربية الطريق إلى فلسطين" بشعار "الإسلام هو الحل"، فيما راح يساريون متأسلمون باستبدال مصطلحات اليسار التقليدية بأخرى إسلامية؛ فحلت كلمة المستضعفين بدلا من العمال والكادحين، والشيطان الأكبر بدلاً من الإمبريالية، وهكذا.
وأشار الغبرا إلى أنّ أطروحات الإسلام السياسي كانت تركز على مواضيع الحجاب والنقاب ومصافحة المرأة ومنع الاختلاط وغيرها، وأنّ الدين أخذ يحتل مساحة أكبر على حساب القضايا الوطنية، وبدأ الإسلام السياسي يغزو المساجد، ويستقطب المزيد من الأتباع، وإذا بالحجاب يتحول من مسألة فقهية أو شخصية إلى رسالة سياسية بامتياز، تدل على مدى قوى حضور الأحزاب الدينية في منطقة معينة، وإذا بالناس المتدينين يتحولون إلى طبقة سياسية اقتصادية قوامها رجال الدين وقادة الأحزاب السياسية الدينية، وإذا بصورة المجاهد الأفغاني تستقطب جيلا بأكمله، وتستحوذ على فؤاده بدلا من صورة الفدائي الفلسطيني.
وأضاف : "بعد الثورة الإيرانية، بدأ الشيعي منّا يتحول إلى شيعيّته، والسنّي بدأ يكتشف سنّيته، أما الدرزي فبدأ يتساءل عن موقعه في المشروع الإسلامي الجديد، ما يدفعه إلى الانضواء في ظل طائفته، والمسيحي الذي وهب حياته للقضية الوطنية بدأ يكتشف أن المشروع الإسلامي الجديد لا يقدم له الحل؛ بل ينظر له بوصفه مسيحياً، وصار البعض منا يتساءل هل هذا هو المشروع الذي ناضلنا من أجله؟ هل يُعقل أننا كنا على خـطأ طوال هذه السنوات ونحن نتبنى أفكار اليسار والطرح اللاطائفي والعقلاني الثوري؟ وماذا حصل للمفهوم العروبي والوطني الذي يجمع بين الكل". 
ويتساءل الغبرا على لسان صديقه خالد (المسيحي الفدائي): "هل بهذا الفكر الطائفي الضعيف سنحرر فلسطين؟ ونتقدم وننجح في استيعاب تنوع مجتمعنا؟ أم بهذا الفكر سنـزداد طائفية وقبلية وانغلاقاً وتفتتاً واقتتالاً؟ هل كانت مشكلتنا في الأساس قلة الصلاة والصوم وغياب الحجاب؛ أم مشكلتنا في غياب الجدية والاستعداد للبذل وضعف حرية التفكير؟ هل بدأنا نتخلى عن فكر "فتح" المرن الذي يعترف بالتعددية والتنوع وحق الاختلاف، لصالح فكر منغلق يفرق الناس بين مؤمن وكافر، ويركز على طقوس شكلية؟ هل بدأ الفكر الوطني يموت لصالح فكر طائفي فئوي؟ هل هذه بداية هزيمتنا وانتهاء حلمنا؟". 
أحدثت موجة الإسلام السياسي حالة من تفكك الروابط التنظيمية الفتحوية، وتراجُع قوة التيار اليساري الذي كان يتسم بالطرح العقلاني الثوري غير الطائفي، وتشتُّت القاعدة الفتحوية بين منبهر بالنموذج الإيراني، ومتفرج ومراقب، ومنتقد ومتخوف.. وعندما اندلعت الحرب انقسمت القاعدة التنظيمية بين مؤيد للعراق ومؤيد لإيران. ويذكر الغبرا عددا من الأمثلة التي تأثرت بالثورة الإيرانية: "فمنير شفيق الذي كان يرمز لعمقنا الفكري، وهو مسيحي يساري، ذهب إلى إيران، وهناك أعلن إسلامه، بينما حمدي وأبو حسن ومروان، وهم من أعمدة الكتيبة الطلابية، فساروا على الدرب الإسلامي ولكن في إطار فتح، أما خالد فقد بدا متألما مصدوما يعيش خيبة أمل، وهناك مثله الكثيرون من المسيحيين الذي تركوا عائلاتهم وانسلخوا عن خلفياتهم المسيحية والمارونية لصالح القضية الوطنية، ووجدوا أنفسهم فجأة مكشوفين وبلا أي سند، وأيضا أنيس النقاش المفكر المنفتح الذي ترك فتح لصالح العمل في الثورة الإيرانية، لدرجة أنه تورط في اغتيال شاهبور بختيار في باريس، وكذلك عماد مغنية الذي تحول إلى حزب الله (يقال أنه تورط في خطف طائرة كويتية لصالح إيران)، وغيرهم الكثيرون من كوادر فتح الذين رجعوا إلى طوائفهم وانضموا لأحزاب طائفية". 
والتغيير الآخر المهم، حصل في الطائفة الشيعية التي كانت تقف بأكملها إلى جانب الثورة الفلسطينية، وتدعمها، حتى أن المئات منهم كانوا منتسبين لـ "فتح" هؤلاء وبدعم من "فتح" في البدايات أسسوا حركة "أمل"، والتي سرعان ما اصطدمت مع الحركة الوطنية اللبنانية، ثم في مرحلة لاحقة قادت حركة احتجاج كبيرة على الوجود الفلسطيني، حتى تصادمت مع "فتح" (بدعم سوري)، وبدأ سكان الجنوب يضيقون ذرعا بالمسلكيات غير المنضبطة لبعض أفراد القوى الوطنية والفلسطينية، وتفاقمت معاناتهم من تبعات احتضان المقاومة من جراء القصف الإسرائيلي، هذه القاعدة الشعبية التي شكلت الحاضنة الأهم للثورة الفلسطينية بدأت تتململ وتعبر عن استيائها بصوت أعلى؛ الأمر الذي جعل "فتح" وفصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية تواصل عملها العسكري بعد العام 1982 تحت اسم "المقاومة الوطنية اللبنانية"، ثم وفي مرحلة لاحقة بعد صعود حزب الله في أواخر الثمانينات تحولت إلى مسمى "المقاومة الإسلامية" التي تفرد بها حزب الله.  
وستتأثر الطائفة السنية بنفس الشكل والطريقة، ولكنها ستحتاج مزيدا من الوقت، حيث انتشرت في المناطق السنية والمخيمات الفلسطينية ظاهرة الحركات الأصولية، التي أخذت منحى طائفيا متطرفا.
وهذا الاستقطاب الطائفي أشعل المزيد من النيران في الحرب الأهلية اللبنانية، وأمدها تسعة أعوام كاملة بعد الخروج الفلسطيني من لبنان. وجعلها تأخذ مناحي أخرى أشرس وأخطر؛ وهذا كله، جعلنا نخسر نموذج التعايش اللبناني المتسامح والمنفتح بآفاقه الرحبة على الإنسانية، وجعل الفلسطينيون يخسرون أهم قاعدة ارتكازية لهم بعد الأردن، وأجبرهم على الدخول في أنفاق سياسية مظلمة، والوقوع في منزلقات لم تكن تخطر على بالهم أيام الثورة والعمل الفدائي.