حنجرة الداعية التي استنهضت الجموع

شيخ أحمد نمر حمدان ..د. أحمد يوسف

الأربعاء 07 أغسطس 2019 04:05 م / بتوقيت القدس +2GMT
شيخ أحمد نمر حمدان ..د. أحمد يوسف



كان اسم الشيخ أحمد نمر حماد الداعية الإسلامي من خانيونس يتردد ذكره على كل لسان، حيث منحه الله (سبحانه وتعالى) حنجرة قوية تصدع بالحق المبين في وجه الظالمين وتتحدى جيش المحتلين، وكانت كلماته المطرزة بلغة الأدب والبيان تصل من القلب إلى القلب فتتحرك معها الجموع وتتفاعل.  

كان مسجد الرحمة في حي الأمل بخانيونس والقريب من بيته هو ميدان رسالته وتوجيهاته للكوادر الإسلامية، فكان دائماً عامراً بالحضور للصلاة وتلقي الدروس. 

لم ينقطع ذكر الشيخ أحمد نمر ومواقفه عن أحاديث كل من عرفوه وتربوا على يديه، فقد كان الشيخ (رحمه الله) أيقونة حي الأمل، الذي يقصده الناس لأخذ الرأي والمشورة في شؤون تخص أمر دينهم، كما كان الكثيرون يترددون على عيادته القرآنية - ومنهم أمي (رحمها الله) - بهدف تلقي العلاج.  

 كان أول من أطنب لي في الحديث عنه رفيقي في السكن الأستاذ محمد المزين (فكَّ الله أسره)، عندما كنا طالبين في جامعة الأزهر بالقاهرة في السبعينيات، حيث كان قريباً من الشيخ وقد تتلمذ على يديه، وقد حببه إلى قلبي وإن لم يكن قد تسنى لي لقياه.  

خلال سنوات الانتفاضة في الثمانينيات كان ذكر الشيخ حاضراً؛ باعتباره أحد الدعاة المؤيدين لها، ومن محرضي الشباب على الانخراط فيها وتأجيجها، لذا كان اسمه يتم تداوله إعلامياً مثل الشيخ أحمد ياسين، وقد تعرض كلاهما إلى مضايقات الاحتلال تحقيقاً واعتقالاً.  

كان الشيخ أحمد نمر أحد الشخصيات التي تضمنها المشروع الموسوعي عن الدعاة الأعلام والشخصيات الفلسطينية الحركية الذي أشرف عليه مع الأستاذ إسماعيل البرعصي، حيث كان الشيخ أحمد نمر ممن لهم "سهم خير وأثر" في بعث الصحوة الإسلامية على أرض فلسطين، وخاصة في قطاع غزة. 

وحتى نقدم اليوم ما ننصف به الشيخ والداعية المربي، كان علينا أن نلجأ لأولاده وأهل بيته ومريديه ليحدثونا عن مسيرته الحياتية والدعوية في سياقها النضالي والجهادي، وهي صفحات نعتز ونفخر في تقديم بعضها اليوم، إنصافاً للرجل وتاريخه، والذي فيه الكثير من صور القدوة والمثال، والتي يحتاج إلى قراءتها والاطلاع عليها الشباب وقادم الأجيال.  

لمحات من السيرة الذاتية: 

المولد والنشأة: ولد الشيخ أحمد محمد نمر حمدان في قرية بشيت الفلسطينية قضاء الرملة في الرابع من نوفمبر 1939، حيث كان يعمل والده في الزراعة، وكانت الأسرة متدينة يرعاها الحاج نمر حمدان جَدْ الشيخ أحمد حيث كان من رواد المسجد ومحافظ على القرآن الكريم. 

كان لحرب عام1948 ونكبة فلسطين في ذلك الوقت الأثر الأكبر في حياة الشيخ وأسرته، حيث قامت العصابات الصهيونية التي هاجمت قرية بشيت باغتيال والد الشيخ وهو ممسك بيده، وتمَّت هجرة الأسرة إلى خانيونس بقطاع غزة مع آلاف اللاجئين، وتكفل بتربيته جده نمر حمدان وعمه، وقد درس الشيخ في مدارس خانيونس وحصل على شهادة الثانوية العامة فيها، ثم التحق بجامعة القاهرة لدراسة آداب اللغة العربية، وحصل على ليسانس فيها عام 1964. 

وقد عمل معلماً ومديراً في مدارس وكالة الغوث حتى عام 1982، حيث أجبره الاحتلال على ترك التعليم في المدراس بحجة أنه يؤثر على الطلاب وطنيناً ودينياً، وقد عمل بعدها كباحث اجتماعي في مراكز التموين، حتى تقاعده من الوكالة عام 1999م. 

محطات الشيخ الدعوية والسياسية: 

اولاً) فترة الخمسينيات والستينيات: التحق الشيخ بجماعة الاخوان المسلمين عام 1954، وكان ملتزماً بشُعب الإخوان المسلمين في خانيونس، وخاصة في المسجد الكبير بالمدينة، وكان مصنفاً عند الحكم المصري آنذاك كأحد أفراد الإخوان، وتعرض للملاحقة والاستدعاء خلالها، وتمَّ منعه من دخول مصر في ذلك الوقت وحرمانه من دراسة الماجستير، الذي تم قبوله به في جامعة القاهرة آنذاك، وقد تمَّ إبعاده إلى مصر بعد هزيمة 1967 من الاحتلال، وقضى هناك عشرة شهور. 

ثانياً) مرحلة السبعينيات: بدأ الشيخ في ممارسة الدعوة الإسلامية بعد الاحتلال الاسرائيلي لقطاع غزة، حيث خفَّت القبضة الأمنية على العمل الاسلامي، وكان يمارس ذلك في المدرسة بإذاعات دينية ودروس توعية وأحكام قرآن كريم لمجموعات مختارة من الطلاب، وقام ببناء مصلى في مدرسة الحوراني، وقد قامت إدارة الوكالة بهدمه رافضة لوجود مصليات داخل المدرسة، وقد وقف الشيخ في تلك الفترة في وجه الشيوعيين ومحذراً طلاب المدرسة من الانخراط معهم، وكانت له عدة صداقات مع أقطابهم.  

في عام1976 هدمت قوات الاحتلال منزل الشيخ بحجة عدم الترخيص، وأضافت للشيخ نقمة جديدة ضد الاحتلال، وأقام بعدها في حي الأمل بخانيونس. 

ثالثاً) مرحلة الثمانينيات: وهي المرحلة الأهم في نشاط الشيخ، حيث تولى إمامة وخطابة مسجد الرحمة بحي الأمل منذ عام 1979، وقد بدأ يهاجم الاحتلال، وخطبه كانت حركية ربطت بين السياسة وهموم الشعب وقضيته والدين الإسلامي، وقد كان يؤم المسجد المئات من مختلف مناطق قطاع غزة لسماع خطب الشيخ، التي كانت تمثل نموذجاً جديداً في عهد الاحتلال، وكان الشعار في بداية كل خطبة: هنا صوت الاسلام.. صوت الكلمة الطبية.. صوت الفقه الميسور.. صوت العبادة الخالصة لله من الشرك والانحراف.. صوت الرؤية الواضحة لواقع المعاناة.. صوت الرؤية الكاشفة لأعداء الله.. أيها الاخوة المرابطون على حدود الله والوطن. 

لقد كان من آثار ذلك أن حاصرت قوات الاحتلال المسجد في عام1981 اثناء خطبة الجمعة، وقامت بإطلاق الرصاص على المصلين واستشهد أحدهم، وقد تعرص الشيخ لمحاولة اغتيال وهو على المنبر يومها، وكانت الرصاصة في أعلى المنبر ولا زالت حتى الآن. 

اعتقلت قوات الاحتلال الشيخ أحمد نمر (رحمه الله) عام1985 بحجة التحريض ضد الاحتلال، وقد حكم لسنتين وخرج بعد ستة شهور من الاستئناف، وقد كانت له في فترة الثمانينيات، علاقة متميزة مع الشهيد د. عبد العزيز الرنتيسي (رحمه الله) أقرب إلى الإخوة الكاملة، حيث تناوب الاثنان على قيادة خانيونس وقيادة الأنشطة الحركية في مسجد الرحمة، لدرجة أن الاحتلال كان يتبادل اعتقالهما ولا يريد أن يجتمعان خارج السجن معاً، نظراً لتأثيرهم الشديد على الشباب، وقد كان ثالثهم في خانيونس الشيخ الحاج محمد النجار (رحمه الله)، بالإضافة لكل الإخوة السابقين في منطقة خانيونس. 

ومن الجدير ذكره، أن الشيخ خلال الثمانينيات قد اهتم أيضاً بالدروس الوعظية في معظم مساجد خانيونس، وقام بإلقاء المواعظ في الحفلات الإسلامية لنشر الوعي الديني، الذي انتشر بقوة في تلك الفترة، وأصبح سمة للمجتمع الإسلامي. كانت علاقة الشيخ أحمد نمر طيبة ووطيدة بالشيخ الشهيد أحمد ياسين في تلك الفترة، وكذلك ربطته علاقات متميزة مع مشايخ القطاع، مثل: الشيخ عبد الفتاح دخان، الشيخ أبو أيمن طه والشيخ حمَّاد الحسنات، وغيرهم الكثير. 

رابعاً) رحلة الانتفاضة الأولى: بدأت الانتفاضة الأولى في 8/12/1987، حيث كان في حينها الشيخ معتقلاً لدى الاحتلال كأول معتقل إداري في قطاع غزة، وخرج في نهاية ديسمبر1987 والانتفاضة مشتعلة، ليأخذ دوره مباشرة من خلال خطب الجمعة والتحريض ضد الاحتلال، وقد كان يلتقي يومياً مع د. عبد العزيز الرنتيسي، حيث اقترح الشيخ على الدكتور بعد البيان الأول تسمية ح. م. س بحماس، وتمَّ ذلك لأول مرة حتى كانت ضربة 1989، والتي أعتقل فيها الشيخ إدارياً ثم تكرر الاعتقال عام 1990 مرة أخرى، وقد صدر بحقه حكم الإبعاد مع سبعة من الفصائل الأخرى في عام 1991، وتمَّ تجميد القرار بعد استئناف العدل العليا ليتم تحويله خلالها إلى الاعتقال الإداري ومنه ثم إبعاده مع مبعدي حماس والجهاد إلى مرج الزهور، حيث قضى عاماً كاملاً هناك، ليعود في عام 1993 ويماس نشاطه الدعوي والسياسي والحركي من جديد. 

خامساً) مرحلة السلطة الفلسطينية: كانت الفترة التي أعقبت عودة السلطة الفلسطينية إلى الضفة والقطاع ربما هي  المرحلة الأكثر سخونة في حياة الشيخ أحمد نمر (رحمه الله)، حيث رفض من البداية اتفاقية أوسلو، واعتبرها جريمة وطنية ودينية، وحرَّم أي تعامل معها، وأصرَّ على أن هؤلاء هم حرَّاسٌ للاحتلال، وأن فلسطين قد تمَّ بيعها لليهود مقابل العيشة الهانئة، وبدأ يهاجم السلطة وممارساتها ويتهم قياداتها في خُطب الجمعة، حيث جرى اعتقاله ثماني مرات في سجون السلطة، ومنعته السلطة من الخطابة في المسجد، ومع بداية الانتفاضة الثانية رفض الشيخ (رحمه الله) تسليم نفسه للسلطة، وأعلن العصيان المدني ضدها، واعتلى المنبر ثانية رغماً عنها، وبدأ في مرحلة التحريض الجديدة ضد الاحتلال والسلطة، وقد أطلق عليه في خانيونس (أبو الشهداء)؛ لأنه كان يقوم بتجهيز كل شهداء خانيونس قبل ذفنهم حسب الشريعة الإسلامية، وخاصة من يتعرض للتقطيع والتمزيق منهم. 

ويلقى كلمة قبل دفنهم في المقابر، فيما كان يسميه جهاد الدفع ضد الاحتلال، وقد احتضن الشيخ الشهيد يحيى عياش وأسرته في بيته وأبنائها، رُزق يحيى بولده براء، وقد كانت القابلة الحاجة خديجة والدة الشيخ. 

وقد استشهد ولده حسام العامل مع كتائب الشهيد عز الدين القسام في عملية اغتيال فوق المنزل القريب من المستوطنة، بينما كان يقوم برصد تحركات قوات الاحتلال، وقد تعرض معظم أبنائه للاعتقال في سجون الاحتلال والسلطة، وقد عارض الشيخ دخول حماس في انتخابات 2006، واعتبرها من افرازات أوسلو ولن تجلب الخير. 

مارس الشيخ العلاج بالقرآن الكريم، وهو معتقد بأن ذلك ضروري لكثرة المشعوذين والسحرة، ويرى أن ذلك جهداً يخدم الدعوة والناس بخير، وقد كانت عيادته القرآنية يقصدها الكثيرون من أقصى الجنوب إلى شمال قطاع غزة، نظراً لثقة الناس فيه. 

وقد استمر الشيخ في أداء دوره الدعوى في مساجد خانيونس ضمن برنامج يومي إلى أن أصيب بجلطة دماغية أبعدته عن المنبر والدروس، وأعلن ذلك للجمهور في خطبة بتاريخ 16/3/2016، مشيراً إلى أنه لن يستطيع مواصلة ذلك استجابة لطلب الأطباء. 

خلال فترة مرض الشيخ أحمد نمر زرته في بيته مرتين بصحبة الأخوين إسماعيل البرعصي وربحي الجديلي، وقد سبق لي أن شاهدته على كرسيه المتحرك في عزاء لعائلة النجار، وقد تمكنا في إحداها من إجراء حديث مقتضب معه.  

باختصار: كان الشيخ أحمد نمر (رحمه الله) داعية ربانياً امتلك مع حنجرتة التي كانت تهتز لها المنابر لغة خطابية مشرَّبة بنكهة البلاغة والأدب، وإيماناً عميقاً ووعياً بقضية شعبه وحقه في الجهاد والمقاومة حتى التحرير والعودة. 

رحم الله شيخنا الجليل، وأسكنه الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء من الأولين والآخرين.