سألني صديقٌ عزيز: أين اختفي الأستاذ أحمد منصور؛ مقدِّم برنامج (بلا حدود)؟ استطلعت الأمر، وفهمت أنه في إجازة، حيث يعكف على إنجاز بعض الكتب والبرامج التلفزيونية الخاصة.
طالت مدة الغياب وتجاوزت فهمي وفهم الجمهور لمعنى الإجازة، ليعاود صديقي السؤال: أين الأستاذ أحمد منصور؟
في الحقيقة، لقد فقد البرنامج الأهم على الجزيرة متابعتي له وآخرين... في السابق، كان برنامج (بلا حدود) يشاهده حوالي 70 مليون عربي، وكانت موضوعاته بالغة الموضوعية والتشويق، وخاصة استضافته لشخصيات إسلامية مرموقة، وعالمية بارزة ومحاورتها بطرح الأسئلة الصعبة والمحرجة، في سياق أخلاقي مشروع؛ لأن إجاباتها هي ما كان يبحث الشارع بنهمٍ عنه.
كان الإعلامي أحمد منصور، وبرنامجه (بلا حدود) هما أيقونة الجزيرة ومتعة المشاهد العربي، حيث تكمن قيمة البرنامج المعرفية والحوارية في طريقة أداء الأستاذ أحمد منصور مع ضيوفه، كذلك برنامجه الشهير "شاهدٌ على العصر"، وما يتضمنه من قيمة تاريخية في سرديات الوقائع والأحداث بلسان صانعيها.
في الحقيقة، كان الأستاذ أحمد منصور أحد أعمدة قناة الجزيرة الفضائية، والإطلالة التي تجذب ملايين المشاهدين لها من نخب الحركة الإسلامية والمثقفين في العالم العربي، حيث إن حواراته كانت - فعلاً - مميزة، واختياره لموضوعات البرنامج وشخصياته كذلك. إن من باب الإنصاف القول إننا لم نعرف الجزيرة كمدرسة فكرية إلا من خلال الأستاذ أحمد منصور، ولم نتمكن من فهم واستيعاب رؤية الإسلاميين وحركية التغيير والوعي لديهم إلا من خلال برنامج (بلا حدود).. هذه الأيقونة التي يمثلها أحمد منصور أين غابت؟ وهذا الشمعدان المعرفي من الذي أطفأه؟! فأنا على المستوى الشخصي لم أعد أهتم بمتابعة برامج الجزيرة كثيراً، ولم يعد يشدني فضاؤها وحالة الإدمان بنفس القوة التي كنت عليها !! وهناك كثيرون قالوا لي مثل ذلك.
في مطلع التسعينيات كانت بداية معرفتي بالأستاذ أحمد منصور، من خلال مجلة (المجتمع) الكويتية؛ لسان حال الحركة الإسلامية، حيث كنت أكتب لها أسبوعياً من واشنطن، وكانت تعاملاتي مباشرة مع الأستاذ أحمد منصور؛ باعتباره مديراً للتحرير، وقد عملنا معاً لعدة سنوات في تطوير صفحات المجلة وخطابها الإعلامي والحركي حول العالم.
عندما تأسست قناة الجزيرة عام 1996، كان الأستاذ أحمد منصور هو أول إسلامي يعمل بدون خبرة تلفزيونية سابقة، ولكنه بجده واجتهاده وسعة علمه وغزارة قلمه وطلاقة لسانه، نجح في لفت الأنظار للشاشة الصغيرة منذ ميلادها، بل وجعل الشارع العربي يعطيها أولوية المتابعة والاهتمام.
مع مرور السنين، كان برنامجه (بلا حدود) حديث المجالس وجدل النخب ونجواها، وكان الإسلاميون يتابعون هذا البرنامج الأهم للارتقاء بوعيهم السياسي وحتى الدعوي. في الحقيقة، كان برنامج (بلا حدود) أكاديمية علمية ومنتدىً فكرياً لنهضة جيل من الإسلاميين في بلاد عربية لم تشهد انفتاحاً على الآخر، ولم تألف ثقافة الحوار وأسلوب المراجعات.
وبرغم صحبتي الطويلة مع الأستاذ أحمد منصور وحتى اللحظة لم أعرف سرَّ هذا الغياب، ولم أسمع أو أقرأ إلا سطور المغرضين للإساءة به، والطعن والتشكيك في الفضائية الأكثر تقبلاً وانتشاراً عربياً وعالمياً.
من الجدير ذكره، أنه عند تأسيس "قناة أبو ظبي" الفضائية كمنافس للجزيرة القطرية عام 1999، شرعت في توظيف الإعلاميين البارزين في العالم العربي، وخاصة العاملين في شبكة الجزيرة، حيث غادر بعضهم جرياً وراء اغراءات المال، وشدَّهم مضاعفة الرواتب والامتيازات لكل شخص يغادر الجزيرة ويلتحق بهم!! لم تغر أحمد الأموال، لأنه كان يعتبر نفسه في مهمة رباط لاستنهاض وعي الأمة والارتقاء بالوعي الفكري والسياسي لمشاهديه من الإسلاميين حول العالم.. كانت الجزيرة هي حصته في الرباط؛ باعتبارها البوصلة لقيادة الأمة نحو الصحوة والرشاد، كان الأستاذ أحمد منصور فارس الميدان وعنوان الوعي لحركية شعوب أمتنا العربية.. صحيحٌ؛ أن هناك في فضائية الجزيرة وفرة إعلامية متميزة، ولكن الإعلامي أحمد منصور كان يمتلك كاريزما حوارية ومعرفية خاصة، وكان له نكهته الخاصة التي تشد الكثيرين من الإسلاميين إليه.
صديقي العزيز أحمد منصور لا يتكلم في موضوع غيابه، ولا أعرف عنه إلا الالتزام والانضباط والمهنية والذوق الرفيع لأصحاب المبادئ، فما الذي تسبب في غيابه أو تغييبه الإعلامي؟
من المعروف أن العاملين في الجزيرة هم كالعروة الوثقى والعائلة الواحدة، وعلى قلب رجل واحد، من حيث الانتماء لمهنتهم، ونجاحهم بالجزيرة هو نجاح لهم جميعاً، ولقد تيقنت من أن المسالة تتجاوز خلافات التنافس بين الأنداد.. لذا، يبقى تساؤلي وسؤال الشارع الإسلامي المتابع للجزيرة مشروعاً: أين الأستاذ أحمد منصور؟ شخص بما لديه من معرفة وإمكانيات يجب ألا تغيب اشراقته، حيث إن إطلالته هي علامة مميزة، وهي تشبه البصمة الوراثية المتلازمة في شرايين قناة الجزيرة.
من خلال معرفتي بالقطريين أنهم أهل وفاء وعطاء، وأنهم لا يفرطون أو يخذلون من عمل معهم.. من هنا، نعيد تكرار السؤال مضطرين لطرحه عبر الفضاء الإعلامي، ووسائل التواصل الاجتماعي: أين الإعلامي أحمد منصور؟! سؤال ما زال يتردد على ألسنة النخب والمثقفين من الإسلاميين.
وعليه؛ فكلما مرَّ الوقت وطال الغياب ستكبر الاسئلة المحرجة للفضائية، والتي اعتبرناها عنواناً لجيل الصحوة العربية، والجامعة التي تعلمنا فيها الكثير عن تاريخ المنطقة وصراعاتها التاريخية، ونجحت في تعرية الأنظمة الاستبدادية والدكتاتوريات، وحملت بأمانة ومسؤولية عالية مظلوميِّة الشعوب وهمومها، فأسرت الشاشة قلوب المثقفين والمستضعفين حول العالم.
الإعلامي أحمد منصور هو أحد الذين شكلوا وعينا وأناروا لنا الطريق، وهو للكثير من الإسلاميين المعلم الذي يذكرون له الفضل في ارتقاء وعيهم وصحوة عقولهم، وأحد الذين أسهموا في تشجيع الإسلاميين على طرح الأسئلة، وكسر "التابوهات" أو المحذورات التي يعتبرها البعض أنها محرَّمات يجب الابتعاد عن تناولها في النقاشات أو عند طرح التساؤلات!!
آمل أن تظل انطباعاتنا الإيجابية عن الجزيرة ومكانتها في المخيال الجمعي لنخب المثقفين ونظرائهم من الإسلاميين، وألا نضطر لمعاودة طرح السؤال: أين الأستاذ أحمد منصور؟ سؤال بانتظار رسم الإجابة من القناة الأهم عربياً وعالمياً.