الأسئلة المشروعة مرّة أخرى...عبد المجيد سويلم

الخميس 01 أغسطس 2019 12:09 م / بتوقيت القدس +2GMT



2019-08-01

إذا أردنا أن نتحدث عن الأسئلة المطروحة بعد أن اتخذت القيادة الشرعية القرار بوقف التعامل بالاتفاقيات، فإن هذه الأسئلة كثيرة، عامة وتفصيلية، حسّاسة ومفصلية، مباشرة ومواربة، ملحة ومؤجلة...، ليس هذا فقط، فإن بعضها سيكون ملتوياً في السؤال وفي الإجابة، أيضاً.
بعضنا يتصور أن المطلوب هو الإجابة الشافية على سيل من هذه الأسئلة الآن وفوراً، حتى «يطمئن» لصحة قرارات القيادة، وتوجهاتها المرئية والبعيدة المرجوة، بالرغم من مشروعيتها. 
ما أراه هو أننا وقبل الإجابة عن سيل الأسئلة نحتاج إلى امتلاك الفلسفة السياسية المطلوبة في منهج التعامل مع هذه الأسئلة.
السؤال الأهمّ هنا، وسؤال الأسئلة، ـ في منهج التعامل ـ هو فيما إذا كان الانفكاك عن منظومات الاحتلال ـ مهما كان هذا الانفكاك متدرجاً ومتعقلاً ـ يمكن أن يؤدي، أو هو سيؤدي حتماً إلى غياب السلطة وحلّها، أم ان هذا الانفكاك سيؤدي إلى تعزيز دورها ومكانتها؟ وفيما إذا كان أحد أهم استهدافات هذا الانفكاك هو تعزيز وتقوية السلطة الوطنية وزيادة فعلها وتأثيرها.
والحقيقة هنا أن هذا السؤال بالذات هو سؤال موضوعي، وواقعي وملحّ، بغض النظر عن تعدد صيغ وأشكال طرح هذا السؤال.
هنا الفكر السياسي الفلسطيني يحتاج إلى إعادة تعريف وإعادة تحديد دور السلطة ومكانتها وجوهر كينونتها.
وحول هذه المسألة بالذات، دار نقاش عميق أحياناً، وعقيم في أكثرها، وكان هناك من الأفكار الإبداعية إلى جانب الكثير من أفكار الشطط، والمواقف الشعبوية والانفعالية والمسبقة.
هناك من يعتقد أن معارضة «اوسلو» «تقتضي» معارضة السلطة التي أنتجها «اوسلو»، وهناك اعتقاد «راسخ» لدى البعض الآخر أن بقاء السلطة أو زوالها لا يؤثر على جوهر الصراع نظراً لـ «هامشية» الدور الحقيقي لها، بل هناك من يعتقد أن «زوالها» سيعيد للصراع وجهه الحقيقي، وان بقاءها يغيّب ويموّه هذا الصراع، وهو الأمر الذي تستثمره اسرائيل في صالحها، ويحقق لها هوامش دائمة للمناورة.
الثابت اليوم أن إسرائيل والولايات المتحدة ومنذ «انطلاق» حملة «صفقة القرن» شرعتا بممارسة ضغوط هائلة على السلطة، وهما تعملان ليل نهار إما لإخضاعها، أو لإضعافها، بحيث لا تكون قادرة على مقاومة مشروعهما المشترك.
هكذا فحتى لو كان هناك «أساس» للنقاش حول دور السلطة سابقاً، فإن هذا «الأساس» اليوم لم يعد بالقدر الذي كان عليه، وأصبح الاستهداف المعادي مركّزاً على هذا الدور وهذه المكانة، وحتى لو كان حجم الاخفاق في البناء الداخلي كبيراً، وحجم الإنجاز قليلاً، ومهما كان لدينا من ملاحظات جادة وجدية على أداء هذه السلطة، فإن الواقع اليوم يقول بكل وضوح، إنها ذراع قوية للمنظمة، وهي بحكم مسؤوليتها في الدفاع عن كل الأرض المحتلة منذ العام 1967، وبحكم أن الأرض المحتلة قد تحولت فعلياً إلى ساحة الصراع الرئيسية، وهي اليوم في صدارة التصدي للمشروع الصهيوني المدعوم بالكامل في الولايات المتحدة، وهي التي تقارع الاحتلال دولياً وعربياً، وهي عادت لتكون ذراعاً قوية للمنظمة بغض النظر عن مدى انتقادنا لعدم سوية هذه العلاقة بينهما.
وبالتالي، فإن السلطة الوطنية بقدر ما تتقدم في التصدي للاحتلال فإنها ستتعرض للاستهداف، وكلما تصدت بشكل أنجع فإن دورها ومكانتها سيتعززان، وسيتعزز الوعي بـأهميتها ككيان وطني هو بمثابة البنية التحتية الأساسية للدولة الوطنية المستقلة.
وعلى ضوء هذا كله فإن الأسئلة حول مصير السلطة الوطنية هي أسئلة ليست مشروعة فحسب، بل هي أسئلة جوهرية، وعلى الإجابات الموضوعية عنها تتوقف وجهة القرارات التي اتخذتها القيادة الشرعية وكامل توجهاتها.
وهنا يطرح السؤال التالي: ما هو معنى ومغزى الانفكاك التدريجي عن الاحتلال إذا كان من نتيجته زوال السلطة أو حلّها؟
وما هي قيمة هذا «الانفكاك» إذا عادت إسرائيل لتكون المسؤولة المباشرة عن السكان الفلسطينيين؟.
لا يمكن الحديث أصلاً عن فكاك أو انفكاك بمعزل عن سلطة أو بمعزل عن المنظمة، أو بمعزل عن هياكل وطنية للإدارة الوطنية.
فإذا انحلت أو غابت أو زالت السلطة فنحن هنا لا نتحدث لا عن فكاك ولا عن انفكاك، وإذا غيبت السلطة وتم تقويضها إسرائيلياً فنحن هنا أمام هياكل سيقيمها الاحتلال، ولا مجال للحديث في حينه عن فكاك أو انفكاك.
على العكس لا يمكن أن تتحقق عملية الانفكاك إلاّ إذا كان من نتيجتها تعزيز دور المنظمة والسلطة، وإلاّ إذا كان هذا الدور في جوهره تمدد سيطرة وصلاحيات وتأثير السلطة، وخلق أمر واقع جديد تكون لدور السلطة فيه مكانة القيادة والريادة.
إحدى أهم مشكلات الواقع الفلسطيني اليوم هي عدم إدراك هذه الجدلية، وعدم القناعة بها لدى بعض أنوية التشدد في اليسار الفلسطيني، وكذلك محاربة حركة حماس لهذه الجدلية بالذات.
ولكن عملية الانفكاك لن تقود إلى تعزيز دور السلطة والمنظمة إلاّ إذا تلازمت وترافقت مع بناء النموذج الديمقراطي والحداثي والمستنير، وإلاّ إذا غادرت السلطة كامل المساحات الرمادية في الفكر والسياسة والثقافة والبناء الوطني الديمقراطي.
الذين يرون أن قرارات القيادة الشرعية هي ردة فعل آنية، أو هي مناورة إعلامية، أو ان التنفيذ سيؤدي موضوعياً إلى تمييعها بذريعة «الصعوبات» أو غيرها، هم على خطأ، وهم لا يدركون مع الأسف ان المرحلة الجديدة قد تجاوزت هذه الهواجس والشكوك.
هذه عملية صراع في طور جديد، سيصار من خلاله وعبره إلى دخول المجتمع الدولي والنظام العربي على خط «الوساطة» من جديد، لفك الارتباط وفضّ الاشتباك، ولوضع ترتيبات جديدة هي في جوهرها عملية متواصلة من الفكاك مع الاحتلال.
ليس بمقدور أحد أن يجيب عن كل الأسئلة، لأن الإجابات هي برسم عملية قادمة من الصراع بأشكاله المتاحة، وليس بمقدور أحد أن يرسم معالم واضحة للخارطة الجديدة لهذا الصراع.
وموضوع وحدة الإرادة والأداة الوطنية قد تحولت في الواقع إلى طور جديد ومرحلة جديدة.
مفهوم المصالحة طواه الواقع وتجاوزه الزمن، وأصبح الانخراط غير المشروط للكل الوطني في النظام السياسي الفلسطيني هو الممر الإجباري للجميع، وإذا كان هناك من مشروطية ما على هذا الصعيد، فلتكن على ضوابط ومحددات الانخراط في هذا النظام، وليس على الانخراط من عدمه.
وهنا بالذات لا مجال أمام الجميع إلاّ إعادة توحيد المنظمة ورصّ صفوفها وافتراق محتوم بين من هم مع المشروع الوطني ومن هم يعملون على هدمه وتدميره.