المرشّح المنشوري..!!حسن خضر

الثلاثاء 30 يوليو 2019 10:10 ص / بتوقيت القدس +2GMT
المرشّح المنشوري..!!حسن خضر



دخل تعبير "المرشّح المنشوري" لغة السياسة في الولايات المتحدة منذ 1959، عندما نشر روائي يُدعى ريتشارد كوندون رواية بهذا العنوان. 
ومَنْ لم يقرأ الرواية من الأميركيين سمع عنها، بالتأكيد، أو كوّن فكرة ما عن مضمونها بعدما أُعيد إنتاج حبكتها الرئيسة في فيلمين روائيين حملا العنوان نفسه، وبعدما أصبح التعبير مصطلحاً مُتداولاً في لغة السياسة، ودخل معاجم اللغة كتعبير مجازي عن سياسي ليس أكثر من دمية تحركها قوّة معادية.
والواقع أن ثمة مسافة كبيرة بين الرواية، وتمثيلاتها السينمائية، فالحبكة في النص الأصلي تدور حول مؤامرة دبّرتها المخابرات الصينية والروسية لتمكين سياسي أميركي يعمل في خدمتها من الوصول إلى البيت الأبيض. 
الرواية مملة جداً، قرأتها في فترات متقطعة، وقد اتُهم صاحبها بالسطو على نصوص آخرين، ومع ذلك: موجز الحبكة أن الطرفين اشتركا في غسل دماغ جندي أُسر، مع رفاقه، في زمن الحرب الكورية، و"برمجته" بالتنويم المغناطيسي، لتنفيذ كل ما يُؤمر به في وقت لاحق. 
وقد أصبح اسم المذكور المرشح المنشوري لأن عملية غسل الدماغ جرت في منشوريا الصينية. وتجلت مهمته في وقت لاحق في محاولة لاغتيال المرشّح للرئاسة الأميركية لتمكين نائبه، أي رجل الصينيين والروس، من تولي مهام الرئاسة.
والمفارقة، في هذا الشأن، أن قائمة طويلة من الساسة الأميركيين تعرّضوا للاتهام بوصفهم مُرشحين منشوريين، في وقت مضى، ومن هؤلاء هنري كيسنجر، وكذلك باراك أوباما، وأخيراً دونالد ترامب. 
ولم يكن من قبيل الصدفة أن يُعاد نشر الرواية بعد وصوله إلى البيت الأبيض، وأن يُعاد التذكير بها في معرض الكلام عن احتمال رهان الروس عليه في الانتخابات الرئاسية، وحقيقة أن التحقيقات التي أجرتها جهات رسمية، ومن بينها تقرير المحقق الخاص، موللر، أثبتت أن حملة الروس الإلكترونية والدعائية وقعت، فعلاً، وكانت قوية ومنهجية تماماً.
ولستُ، هنا، في معرض التعقيب على أمر كهذا. كل ما في الأمر، وبقدر ما أرى، أن ثمة زوايا رمادية، وتقاطعات، استرعت انتباه البعض في سياق الكلام عن حماسة ترامب الزائدة عن الحد إزاء إسرائيل، وعلاقته الخاصة بنتنياهو. 
فقد لاحظت أورلي أزولاي، المعلّقة في جريدة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، مثلاً، في أواخر أيار الماضي أن التاريخ القريب لم يعرف حالة تمكّن فيها زعيم أجنبي من تحريك رئيس للولايات المتحدة بإصبعه الصغير كما يحدث في علاقة نتنياهو بترامب.
وربما يصعب، في السياق نفسه، المرور مر الكرام على ذلك المشهد الافتتاحي الذي رسمه مايكل وولف في كتاب "النار والغضب: داخل البيت الأبيض في عهد ترامب"، المنشور في أوائل العام الماضي. 
والمشهد المذكور محادثة على دعوة للعشاء، في الفترة الفاصلة بين الإعلان عن فوز ترامب بالرئاسة، ودخوله البيت الأبيض، بين ستيف بانون، وروجر إيلس.
الأوّل، بانون، دماغ ترامب السياسي والأيديولوجي، والثاني، إيلس، أحد كبار حيتان إعلام اليمين الأميركي، الذي كان قبل اللقاء المذكور بوقت قصير رئيساً لشبكة فوكس نيوز اليمينية، التي يشبه دورها في الولايات المتحدة دور "الجزيرة" القطرية في العالم العربي، وهو، أيضاً، أحد أعضاء الدائرة الضيّقة المحيطة بترامب، ومن أصدقائه، ومستشاريه غير الرسميين، وكبار مؤيديه.
أما المحادثة فتدور حول السياسات المُنتظرة لإدارة ترامب، والمرشحين لتولي مناصب رفيعة. واللافت للنظر أن البند الأوّل على جدول أعمال الإدارة الجديدة، وكما جاء على لسان بانون، يتمثل، ومنذ يومها الأوّل في البيت الأبيض، في نقل السفارة الأميركية إلى القدس، ناهيك عن الإشارة إلى عِلم نتنياهو، وشيلدون أدلسون، بالأمر، والثاني ملياردير، من دائرة ترامب الضيّقة، ومن كبار المؤيدين لإسرائيل والمدافعين عنها في أوساط اليمين الأميركي.
ويمكن العثور في كتاب وولف الثاني الصادر في حزيران الماضي بعنوان: "الحصار: ترامب في مرمى النيران" على ما يلقي مزيداً من الضوء على شخصية جاريد كوشنر، زوج ابنته، الذي سيتولى لاحقاً هندسة "صفقة القرن"، الذي تربط عائلته علاقات قديمة بنتنياهو، واليمين الإسرائيلي، كما تربطه هو علاقة خاصة بكيسنجر، الذي يحلو له أن "يُستشار" في شؤون الشرق الأوسط، من جانب شاب، في مُقتبل العمر، وقليل التجربة، يتصرّف في حضرته كتلميذ نجيب.
على أي حال، خلاصة هذا كله: أن عالماً يقطنه أصحاب المليارات، وتحكمه مصالحهم السياسية والأيديولوجية، وتحظى فيه إسرائيل بمكانة خاصة، هو الذي أنجب ترامب. 
وربما يصح القول إن تلك الحيتان لم تكن لتعثر حتى في أكثر أحلامها فاوستية على نموذج كهذا، فيه ما يُترجم التهويمات والاستيهامات القيامية للإنجيليين، واليمين الديني، الذي يعرف أنه فاسق تماماً، ولكن "تلك حكمة الرب"، واليمين القومي المتطرّف، المعادي للثقافة، والسياسة، والنخبة، والذي يجهل، بالتأكيد، أو لا يعنيه، ما في الصفقة الفاوستية من تداعيات خطيرة على أميركا، والعالم، ولا يعنيه من ترامب إلا كونه مجرّد واجهة خارجية لثورة تاريخية تُعيد إيقاف العالم على قدميه.
بأي من المعاني يمكن النظر إلى ترامب كمرشّح منشوري، أعني بطريقة أعقد وأبعد، من خيال كوندون، الذي استمد عناصر حبكته من أخيلة واستيهامات الحرب الباردة؟ وهل في مكانة إسرائيل الخاصة في عالم اليمين الأميركي والأوروبي وحيتانه، وما يترتب على رهاناته، ورهاناتها عليه، من نتائج بعيدة المدى، ما يعود على الإسرائيليين بالنفع في المدى المتوسط والبعيد؟ 
هذا ما يستحق التفكير والتدبير. وهذه القراءة، على أي حال، تُعتبر جزءاً خامساً في قراءات نُشرت في الأسابيع الأخيرة بعنوان "العرب، ترامب، إسرائيل، الفلسطينيون"، ولنا عودة.