يبدو موقف منظمة التحرير الواضح من "صفقة القرن"، كما أطلق عليها الرئيس الأميركي "ترامب"، الموقف المبكر الذي تجاوز رفض "الصفقة" إلى رفض التعامل مع الفريق المكلف طرحها وتفسيرها والمكون من الثلاثي؛ كوشنير وغرينبلات والعراب المتطرف ديفيد فريدمان، سفير ترامب في تل أبيب، يبدو هذا الموقف الذي ظهر في البداية كموقف سياسي تفاوضي ليتدحرج، بعد اعتراف إدارة ترامب بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، ثم إلى رفض قاطع شمل الصفقة ومروجيها، يبدو الآن مأزقا حقيقيا يصعب تجاوزه أو الالتفاف أو المزاودة عليه، سواء لمروجي الصفقة أو مروجي الانقسام الفلسطيني الذي اتكأ عليه "نتنياهو" أكثر من عقد كامل.
لا مجال للمناورة على الخط الواضح الذي رسمه موقف منظمة التحرير على الممر، ولن تفيد البلاغة التي استهلكت تماما في رسم خطوط في الهواء وعلى الغبار وبتكاليف باهظة من حياة الناس وأحلامهم.
لم يعد ممكنا إرسال رجل ليصرخ في جموع الناس، ويمنح "الأعداء" مهلا قصيرة قبل إرسال الناس لينتحروا على السياج، الأمر ليس مجازا أو مبالغة كما قد يتبادر للذهن، يمكن هنا العودة إلى "خطبة فتحي حماد" القيادي المتنفذ في "حماس" الأسبوع الماضي.
وسيبدو من السذاجة، إذا لم يكن استغفالا، الإعلان عن موت "صفقة القرن" لتبرير إبقاء الوضع الفلسطيني على حاله من التردي والانقسام، فالصفقة قائمة وتتنفس وتبعث إشاراتها، وقد حققت اختراقات عميقة في المحيط، وتمتلك نفوذها ووسائل ضغطها، ولن يستسلم أصحابها بتلك الرومانسية، إذ إن سقوطها يعني سقوط رموزها ومروجيها.
في هذه النقطة تحديدا، يشكل حاجز رئيس منظمة التحرير محمود عباس العائق الوحيد في هذه البرية المحترقة والتي على أهبة القفز للهاوية، العائق الوحيد أمام "انهيار المنطقة" وليس تبديد "المشروع الوطني الفلسطيني" فحسب.
ليس هذا مديحا شخصيا بقدر ما هو مديح للوطنية الفلسطينية التي أثّثت الموقف في تعبير مثالي عن ثقافة منظمة التحرير الفلسطينية، التي حملتها وحافظت عليها رغم وهنها وعبرت بها إلى هذه اللحظة، البنية الروحية التي قامت عليها المنظمة عبر قادة كبار أمثال المؤسس أحمد الشقيري وغسان كنفاني وفيصل الحسيني ومحمود درويش وخليل الوزير وصلاح خلف وخالد الحسن وخالد نزال وأبو علي مصطفى وحيدر عبد الشافي...إلى آخر السلسلة الطويلة، التي منحتها زعامة ياسر عرفات الشجاعة والمتبصرة جناحين وذراعين قويين.
تبدو مسؤولية الفلسطينيين هذه الأيام أكثر اتساعا من جغرافية بلادهم، مسؤولية الحفاظ على كرامة الشعوب التي تقطن منذ فجر التاريخ المنطقة، لذلك سيشتد حصارهم وسيتواصل على أمل كسر النواة الصلبة التي يشكلونها.
ليس الأمر، كما يبدو في التداول السياسي السطحي، حول حاجة الفلسطينيين للعالم العربي بقدر ما هو حاجة هذا العالم المفكك في أغلبه لصلابة الموقف الفلسطيني الذي يحميه من الانهيار.
هذه مسؤولية تقتضي إعادة النظر في أشياء كثيرة، والالتفات إلى الثغرات وهي كثيرة أيضا وتشمل الخطاب والأداء والوجوه، بحاجة إلى برنامج وطني واضح واستعادة ثقة الناس عبر الثقة بدورهم، بحاجة إلى إعادة الاعتبار لدور الثقافي المغيب في صياغة هذه البرامج، التخلي عن البلاغة الفارغة والشعارات المستهلكة وتدوير الزعامة.