تـفــاهــم «مــار مـخــايـــل»..عبير بشير

السبت 13 يوليو 2019 01:04 م / بتوقيت القدس +2GMT
تـفــاهــم «مــار مـخــايـــل»..عبير بشير



لا يقدم الدرزي في لبنان نفسه بصفته درزيا، بل بصفته من «الجبل». والجبل في هذا السياق هو دينه ومذهبه وديدنه وهويته وحكاية تاريخه في لبنان. والجبل مرجع يتجاوز في معناه الجيولوجي والجغرافي أي مرجعيات روحية لطالما التصقت بها بقية طوائف لبنان. والجبل أصل وليس هامشا في الحكاية اللبنانية.
والدرزية السياسية في لبنان هي جنبلاطية منذ ما قبل تشكل الكيان اللبناني بهيكله الحالي، وهي للمفارقة جنبلاطية، من حيث إنها تدور حول المختارة، والموقف معها أو منها.
ورث وليد جنبلاط عن والده زعامة لم تقبل بالجغرافيا والديمغرافيا. كان كمال جنبلاط سياسيا فيلسوفا، رائدا من رواد العروبة، وواجهة من واجهات اليسار في العالم. جعل كمال جنبلاط من الحزب التقدمي الاشتراكي ركنا داخل الاشتراكية الدولية وحجر زاوية من أحجار العروبة الصاعدة. 
كان اغتيال كمال جنبلاط، بمثابة اغتيال للجنبلاطية، بما تمثله من ورشة عابرة للطوائف والحدود. تاريخ لبنان يروي أن كل القوى الخارجية التي غزت البلد كانت تتعامل مع الجبل بصفته تحديا ويجب إخضاعه.
الدروز جماعة صلبة في واقع لبنان، وهي جماعة عريقة في صناعة ونشوء هذا البلد. يتباهى الدروز بتاريخهم المناهض للاستعمار. وثورة «جبل العرب» بقيادة سلطان باشا الأطرش في سورية ضد الفرنسيين جزء من فضاء الذاكرة الجمعية الدرزية. وربما ذلك التاريخ ما دفع الجنبلاطية السياسية دون غيرها وبشخص وليد جنبلاط لدعوة دروز فلسطين إلى رفض التجنيد في صفوف الجيش الإسرائيلي.
وفي خلفية الحادث الذي وقع في منطقة الجبل، نزاع بين القوى السياسية المتورطة فيه على اتجاه لبنان وعلى موقعه في صراعات المنطقة، وهو الصراع الذي ما زالت تحاول كل قوة أن تكسبه. وليس هذا النزاع جديداً، إذ بدأ منذ استيلاء النظام السوري على تطبيق اتفاق الطائف بالطريقة التي أرادها، والتي أدت إلى هيمنته على القرار السياسي هو وحلفاؤه اللبنانيون، ثم بلغ الصراع على النفوذ ذروته مع خروج الجيش السوري، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وبعد ذلك مع انحياز كل من الأطراف اللبنانيين إلى الجهة التي اختار الوقوف إلى جانبها في الثورة السورية، والرهانات المختلفة التي بناها كل طرف على النتيجة التي كان يحلم بها لتلك الثورة.
لذلك بدت زيارة الصهر جبران باسيل إلى منطقة الجبل، من جانب الفريق المناهض سياسياً له وللمشروع الذي يدعمه، وهو فريق وليد جنبلاط، وكأنها عملية اقتحام أكثر مما هي جولة.
المسألة هنا تعبر عن أزمة سياسية، أكثر مما هي مشكلة طائفية. فالوزير باسيل هو سليل مشروع سياسي، وهو مشروع يدعمه «حزب الله»، ومحور الممانعة، لبنانياً وإقليمياً، ويشعر أنه انتصر بوصول حماه العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا، بالصورة التي حصل بها هذا الوصول، الذي كانت رافعته الأساسية الدعم الذي وفره «حزب الله»، والضغوط التي مورست على البلد وعلى رئيس الحكومة سعد الحريري وعلى وليد جنبلاط، لتمرير ما صار معروفاً بـالتسوية الرئاسية.
والحقيقة أن السبب العميق للتسوية الرئاسية في لبنان هو شعور فريق الرابع عشر من آذار بأنه خسر المعركة في لبنان، والأهم في سورية، لصالح «حزب الله» ومحور إيران، وبأن لا مناص من الرضوخ لشرط «حزب الله» وهو البدء بإعادة تكوين السلطة السياسية في لبنان من باب انتخاب عون وإقرار قانون للانتخاب يعتمد النسبية، ومن ثم تشكيل حكومة جديدة وفق نتائج الانتخابات البرلمانية.
وما سمي يومها بتحييد الملفات الخلافية الكبرى ذات التشعبات الإقليمية والتي لا يملك اللبنانيون حيالها قدرة على الحل والربط، هو في الواقع إقرار بأن هذه الملفات أنتجت منتصرين ومهزومين. ولم تكن عبارة النأي بالنفس إلا ورقة تغطي عجز مناهضي «حزب الله» عن التأثير في خياراته الإقليمية هذه. والعجز عن منعه من المضي قدماً بسياساته الإقليمية بمعزل عن الدولة اللبنانية، وخصوصا حين ما بدا أنه انتصار لـ»حزب الله» وإيران في سورية. وتم تسويق التسوية للبنانيين على إنها رهان عاقل قد يعطيهم فرصة عدم انهيار الليرة اللبنانية، والبنوك والاقتصاد، وفرصة لأن تتفرمل لغة العنف المذهبي وسياسات الهوية، وفرصة للناس لتعيش وتأكل وتعمل وتتقدم.
ثم إن باسيل والتيار العوني، الذي يشكل رأس حربة «حزب الله» في سعيه لاحتواء المسيحيين وإخضاعهم للحزب بعد تهديدهم بـداعشية السنية السياسية، متحالف مع أنصار «حزب الله» من الدروز الذين كلَفهم الحزب المهمة نفسها، والهدف الاستراتيجي من وراء ذلك يتصل بالخريطة المستقبلية للمنطقة وشروط التعايش الدولي مع المخطط الإيراني.... إنه فصل جديد ومقلق من تحالف الأقليات.
ويشعر رئيس مجلس النواب نبيه بري الشيعي، وإن كان في موقع الحليف لـ»حزب الله»، انطلاقاً من تحالف الثنائي الشيعي، بفعل ما يجري في لبنان، بأن هناك من يريد أن يأخذ البلد الى قفص سياسي أوحد، تتطاير شظاياه على الجميع، ومنه تنبثق توازنات جديدة بعد تحطيم التوازنات الحالية وأدوارها.
إذ إن عهد عون يريد تكريس تقاليد وأعراف بفعل الأمر الواقع يحسم فيها التيار الوطني الحر بدعم من حليفه «حزب الله» الأمور، بما يؤدي في النهاية إلى ضرب اتفاق الطائف والعبث بصلاحيات الطوائف. لذا كان لافتاً استمرار التواصل بين بري وجنبلاط والحريري لإعادة ضبط الحالة السياسية التي وصلت الى حدود الانفجار، خصوصاً وأن البلد يمر بمنعطف اقتصادي خطير ويتعرض إلى المزيد من العقوبات على ما قررته الخزانة الأميركية إدراج أسماء نواب وقيادات من الحزب على لائحة الإرهاب.
أكثر ما يهم بري في هذا الوقت هو أن يكون جنبلاط في موقع قادر على المناورة والمواجهة، إذ إن إضعاف هذا الموقع يعني فرط أحد ركائز اتفاق الطائف والموقع الوطني في الجبل الذي سيدخل في حالة فوضى لن تسلم منه المصالحة التاريخية
كذلك فإن إضعاف جنبلاط سينسحب على الموقع الذي يمثله نبيه بري تاريخياً، خصوصاً وأن علاقته مع ميشيل عون ليست جيدة، وهي إلى مزيد من التأزم مع جبران باسيل الذي وقف مطالباً بإعادة مناقشة الموازنة في مجلس الوزراء ووجه سهامه الى علي حسن خليل وزير المال المحسوب على بري. 
ولأن جنبلاط يعلم أن رأسه مطلوب، أو على الأقل إضعافه، فلا يمكنه التراجع أو الاستسلام، وفي الوقت ذاته هو قرر الانفتاح على كل الحلول، ووجه رسائل الى «حزب الله» بأن اللحظة السياسية الراهنة في البلد والمنطقة لا تحتمل تصفية حسابات، وأن السير في حصاره في مجلس الوزراء لا يخدم الحزب أيضاً في اللحظة التي يتعرض فيها لعقوبات جديدة، فهو مطالب بأن يكون أكثر انفتاحاً على الجميع لحماية نفسه وحماية البلد أيضاً واستقراره.
ويصعب رد التوتر الذي ضرب لبنان مؤخرا إلى عامل واحد. يصعب رده فقط إلى شعور فئة بالحصار أو رغبة فئة بالهيمنة في معزل عن الخلفية المشتركة بين الحالتين.
 وهي «تفاهم مار مخايل» بين ميشيل عون والسيد حسن نصر الله الذي يجوز اتهامه بأنه الحاضن الأهم لكل توتر يطرأ، والتفعيل الأبرز لأي جموح أهلي، فهو اللبنة التأسيسية الأولى للبنان ما بعد الوصاية.
ما هي الروح العميقة لذاك التفاهم؟ إنها عدم التفاهم مع كل من يقع خارجه. فقد بدا أن ثمة رغبة جامحة في إبقاء المسيحيين ضعفاء في لبنان، وأن نهاية الحضور العسكري السوري لن تكون نهاية لضعفهم. وعزز ذلك في العونية أكثر مكوناتها عدوانية وثأرية. دفعتها إلى حضن «حزب الله» الذي كان، هو الآخر، يبحث عن حليف قوي يفك به العزلة التي تحشره في النطاق الشيعي.
التفاهم تم عن إدراك كلا الطرفين إلى الحاجة الوجودية للآخر، وانتقل من الدفاع إلى الهجوم، أي إحكام الحصار على الحريرية السياسية.
وقامت التسوية على دعامتين:
يقطع «حزب الله» عهدا لميشيل عون، أن يوصله إلى قصر بعبدا، مقابل أن يمنح عون الشرعية والغطاء لسلاح «حزب الله».
ويُقطِع التيار العوني الحدود لــ»حزب الله»، فيما الأخير يُقطعه الداخل. هكذا تأتلف نزعتان متناقضتان، واحدة رأينا ذروتها في سورية، وأخرى تتخذ شكل القضم السياسي انطلاقاً من منصة الرئاسة وتوسيع صلاحياتها.
بالتأكيد ليست العلاقة بين العونيّة و»حزب الله» متجانسة، فسيادية التيار العوني مطالبة، بفعل التسوية، أن تتخلى عن مبدأ سيادي حاسم هو قرار الحرب والسلم. أما «حزب الله»  فمضطر إلى غض الطرف عن التيار العوني الذي يستكثر على الشيعة مُساكَنة المسيحيين في منطقة واحدة.
نظرية «الداخل للمسيحيين والحدود للشيعة» تذكر بنظرية «الاقتصاد للسنة والمقاومة للشيعة» في مرحلة سابقة. النظريتان تنطويان على فرضية تقول إن الدولة اللبنانية تؤخذ بالمفرق وبالذراع.