مرة ثانية، إسطنبول تهزم أردوغان، وهي التي في الماضي أوصلت «مؤذن إسطنبول» إلى رئاسة الدولة التركية. وهو الذي قال يوما: «إن من يفوز بإسطنبول، يفوز بحكم تركيا».
عندما أدلى الناخبون الأتراك بدلوهم، في آذار الماضي، رفض أردوغان أن يصغي لهم، وأصر على أن تعيد إسطنبول النظر في اقتراعها. ولما فعلت، حولته من خاسر عادي إلى خاسر مُهان، لأن الأرقام الجديدة لنتائج الانتخابات صادمة ومخيفة ورادعة. فمرشح أروغان «علي يلدريم» كانت خسارته بفارق أكثر من 800 ألف صوت عن أكرم أوغلو في الانتخابات المعادة، في حين كانت خسارته السابقة بفارق 13 ألف صوت. فقد عاقب الناخب في إسطنبول أردوغان على قرار جرجرته بالقوة إلى الصناديق مرة أخرى.
وتكمن أهمية إسطنبول في عوامل عديدة، جغرافية وتاريخية واقتصادية وسياسية، فضلاً عن أهميتها الدينية والثقافية، حيث تقع المدينة في إقليم مرمرة شمال غربي تركيا، ويحدها من الشمال البحر الأسود، ومن الجنوب بحر مرمرة، فيما يقسم مضيق البوسفور المدينة إلى قسمين، شرقي وغربي، حيث يقع قسمها الشرقي في قارة آسيا على شبه جزيرة كوجالي، أما قسمها الغربي فيقع في قارة أوروبا على شبه جزيرة تشاتالجا. وتبلغ مساحة ولاية إسطنبول الكبرى 5461 كيلومترا مربعاً، وقسمت إدارياً إلى 39 بلدية، تشكل 27 منها المدينة المركزية. وبلغت ميزانيتها للعام الماضي، حوالي 11 مليارا . أما عدد سكان مدينة إسطنبول فهو 15 مليون نسمة. وتعتبر إسطنبول بوابة الاقتصاد التركي، ومركزاً مهماً للتجارة البحرية الدولية. فضلاً عن أنها عاصمة ثلاث إمبراطوريات غابرة، وتصورها نابليون بونابرت عاصمة للعالم.
خسارة بيزنطة أو القسطنطينية أو استانة أو مدينة الصدر الأعظم أو إسطنبول، تعد هزيمة سياسية لرجب أردوغان، أكثر منها لمرشح «العدالة والتنمية» علي يلدريم. ووصفت «نيويورك تايمز» انتخابات إسطنبول بأنها أكبر هزيمة لأردوغان في حياته، خصوصاً أنها خسارة بعد ربع قرن من سيطرة «حزب العدالة والتنمية» على منصب بلدية إسطنبول. فنهايات الغرور متشابهة في الأمكنة والأزمنة.
إسطنبول وقبلها أنقرة وأزمير أبلغت أردوغان رأيها في سياسته الداخلية والخارجية معاً - مع ظهور آثار التراجع الاقتصادي في تركيا بشكل فاقع، خصوصا البطالة بين الشباب، والتضخم الذي يؤثر في قطاع التجارة والأعمال - وأفهمته أن الاقتصاد والتنمية، لا يقومان على العزلة والأحادية، والمغامرات العسكرية، وصناعة الأعداء، وشيطنة الخصوم، وخسارة الأصدقاء – عبد الله غول، وداوود أوغلو - ومعاداة دول محورية كمصر والسعودية، وملء سجون تركيا بالسجناء، وشوارعها بالمطرودين من وظائفهم وأعمالهم. والتحول من الخيار الأوروبي إلى الخيار الإيراني الروسي.
قال أردوغان، في مطلع نيسان الماضي، إن اعتراضهم على نتائج انتخابات البلدية في مدينة إسطنبول هو «للدفاع عن الإرادة الوطنية والأصوات التي دعمت حزب العدالة والتنمية». وقال أكرم إمام أوغلو أمام جمهور إسطنبول، إنه سيقود ثورة من أجل الديمقراطية، بعد إلغاء الهيئة العليا للانتخابات نتائج انتخابات مدينة إسطنبول، فتدخل الناخب الإسطنبولي ليحسم المسألة.
لم يفشل حزب العدالة فقط في محاولة استرداد إسطنبول، المدينة التي منحته دعمها الكامل منذ العام 1994، بل يعاني اليوم من بروز أرقام ونسب جديدة في الأقضية التابعة للمدينة، ففي الوقت الذي تمكن فيه «العدالة والتنمية» من الفوز في الانتخابات الملغاة في 25 قضاء، فقد فاز في الانتخابات الجديدة بـ11 قضاءً فقط، فيما خسر أهم معاقله، وأبرزها أحياء الفاتح وبايرم باشا وأيوب سلطان وأوسكودار وباهتشلي أوفلار لصالح أمام أوغلو، الذي حقق أيضا أصواتا كثيرة في المناطق ذات الكثافة العلمانية، مثل بشكتاش وبكركوي وكاديكوي.
إمام أوغلو الذي حرص على إظهار مظلوميته، كونه وافق على خوض جولة الإعادة بعد الإعلان عن فوزه بالجولة الأولى. فضلا عن أن حملته الانتخابية التي أطلق عليها شعار «كل شيء سيصبح جميلا جدا»، نجحت في حشد أكثر من 150 ألف شاب وشابة تطوّعوا لقيادة حملته الانتخابية التي اعتمدت على التواصل الاجتماعي واستعمال الشاشات الصغيرة.
كما نجح الرجل المنظم في حزب يساري علماني (الشعب الجمهوري)، بالظهور بمظهر الملتزم دينيا، - يقرأ القرآن على أرواح ضحايا حادثة نيوزيلندا - ويبدد مخاوف المحافظين من خلال تعهده بمواصلة منع الاختلاط في مسابح البلدية وعدم بيع المشروبات الكحولية في المؤسسات الاجتماعية.
وساعدت شخصية أكرم أوغلو الكاريزمية، وهدوؤه، وحيويته، وأسلوبه اللبق وخطابه المتفائل خلال الحملة الانتخابية على حصد ملايين الأصوات. وأظهرت المناظرة التلفزيونية التي جرت لأول مرة في تاريخ تركيا بين المرشحين، كبرياء أوغلو وتواضعه، وثقة بالنفس ومهنية عالية ونهجاً جديداً في التعاطي مع الشأن العام بتركيزه على الأخلاق والقيم، والنزاهة في العمل السياسي ودولة القانون والعدل، وتشديده على الوحدة والتسامح.
وفي المقابل، تركز حديث منافسه على الماضي، وعن إنجازاته فيه، وبدا للناخب التركي أن حزب العدالة والتنمية فقد روح الإبداع الاقتصادي والاجتماعي، وأضحى خطابه الانتخابي والدعائي «تذكيريا»، يذكّر الأتراك بفضل الحزب على الشعب، ولكنه لا يرسم رؤى، ولا يفتح آفاقا ولا يشكّل أملا يخترق واقعا اجتماعيّا واقتصاديّا صعبا.
وكشف انتخاب أوغلو وجود مجتمع مدني تركي حي ونشط وشبابي يتطلّع إلى التغيير وتحسين ظروف الناس المعيشية والإنسانية، وتأمين الخدمات من ماء وكهرباء وسكن لـ16 مليون نسمة يعملون ويعيشون في تلك المدينة الساحرة والجميلة، وليس الأغنياء ورجال الأعمال وأصحاب المشاريع العقارية والصناعية، وأن تركيا ما زالت تؤمن بصندوق الاقتراع.
انتهت معركة إعادة انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول بنتيجتين: ظهور قائد سياسي شاب، لم يكن معروفاً حتى قبل أشهر قليلة، وهو أكرم إمام أوغلو، وهزيمة كبيرة للرئيس رجب طيب أردوغان.