الاستراتيجية الإيرانية: عولمة الأزمة ..محمد ياغي

الجمعة 28 يونيو 2019 10:29 م / بتوقيت القدس +2GMT





أدى إلغاء إدارة ترامب للاتفاق النووي مع إيران وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية عليها وتكثيفها الى زيادة حدة التوتر بين البلدين والاقتراب كثيراً من الحرب بعد إسقاط إيران لطائرة أميركية بدون طيار كانت وفق الرواية الإيرانية قد اخترقت مجالها الجوي.
العقوبات الأميركية الأخيرة هي الأكثر قسوة منذ قيام الجمهورية الإسلامية العام 1979 وهي تستهدف تجفيف مصادر دخل الحكومة الإيرانية من البترول وغيرها من الصناعات، بالإضافة الى حرمانها من فرص الاستثمار الأجنبي ومن التعامل مع المؤسسات المالية الدولية. بشكل مختصر، العقوبات تستهدف تدمير الاقتصاد الإيراني وخلق أزمة داخلية للحكومة الإيرانية تعجز عن حلها.
الهدف الأميركي المعلن للعقوبات هو إجبار النظام الإيراني على القبول بإعادة التفاوض على الاتفاق النووي (الذي وقع عليه الرئيس الأميركي السابق أوباما ومعه بقية الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة لألمانيا)، وعلى التخلص من برنامجها الصاروخي والتوقف عن دعم حلفائها في الشرق الأوسط. في تقدير إدارة ترامب، إن رفضت إيران مطالبها، فإن العقوبات الاقتصادية كفيلة بتحريك الشارع الإيراني لإسقاط حكومته.
الحكومة الإيرانية التي تدرك أن التخلي عن عناصر قوتها (برنامجيها النووي والصاروخي وحلفائها في المنطقة) سيقوض من استقلالها السياسي ويُحيلها الى دولة عاجزة عن الدفاع عن نفسها، لا يوجد لديها النية للخضوع للإملاءات الأميركية - كما هو واضح من تاريخ صراعها مع واشنطن ومن تصريحات قادتها وسلوكهم.
النتيجة بالمحصلة أن العقوبات الاقتصادية ستستمر وتشتد وقد تفعل فعلها في النهاية: تؤدي الى اضعاف النظام وربما الى تحريك الشعب الإيراني ضده. ولأن النظام الإيراني يدرك ذلك، لا يمكنه بالتالي أن يقبل باستمرار العقوبات عليه وهو يعمل على إنهائها، كما هو واضح من خلال استراتيجيته بعولمة الأزمة مع إدارة ترامب بطريقتين:
الأولى يسعى لرفع أسعار البترول العالمية من خلال استهدافه (رغم إنكاره) لناقلات النفط والبنية التحتية للبترول في منطقة الخليج، كما شاهدنا مؤخراً في ميناء الفجيرة، وخليج عمان، والعربية السعودية.
رفع أسعار البترول يعني في المحصلة أن النمو الاقتصادي العالمي سيتراجع بما في ذلك في الولايات المتحدة نفسها التي تعتمد على بقية العالم في اقتصادها.
ولأن المنطق يقول إن الدول الوازنة التي ترسم السياسات في هذا العالم لا تريد ذلك، فإنها ستضطر الى العمل على إفشال العقوبات الاقتصادية الأميركية على إيران حتى تتوقف الأخيرة عن سياساتها التي تستهدف رفع أسعار البترول.
يضاف لذلك، أن أزمة اقتصادية عالمية ستكون كافية للإطاحة بالرئيس ترامب في انتخابات العام 2020 حيث لا يوجد لديه ما يفاخر به الآن غير أن وضع الاقتصاد الأمريكي أفضل حالياً مما كان عليه سابقاً.
الثانية هي سياسة التصعيد العسكري مع واشنطن والذي شاهدناه قبل أيام عندما أقدم الحرس الثوري الإيراني على إسقاط طائرة التجسس الأميركية.
التصعيد فيه رسالة واضحة للولايات المتحدة بأن إيران لن تقبل باستمرار الحصار عليها حتى لو أدى ذلك الى حرب بين البلدين. التلويح بالحرب أو الحرب المحدودة أو الشاملة، جميعها تؤدي الى ما تريده طهران وهو عولمة الأزمة وإجبار كل دولة على الشعور بها من خلال رفع أسعار النفط.
إيران تعلم أن الحرب ممكنة ومحتملة رغم انقسام الإدارة الأميركية بشأنها بين ترامب ومعه وزارة الدفاع وهما لا يريدان حرباً جديدة في الشرق الأوسط (ترامب مثلا وعد ناخبيه بأن لا يرسل قوات أميركية جديدة للشرق الاوسط وان يسحب الموجود منها في سورية والعراق)، وبين الصقور من أركان إدارته الذين يرغبون في إعلان الحرب على إيران لتدميرها مثل بومبيو وبولتون، الأول وزير الخارجية والثاني رئيس مجلس الأمن القومي الأميركي.
وهي تعلم أيضا، أن التصعيد قد يؤدي الى تقوية الجناح الراغب في الحرب، لكنها ترى نفسها مكرهه عليه من أجل رفع العقوبات الاقتصادية عنها والعودة الى الاتفاق النووي السابق.
عدم تقديم إيران التنازلات التي يريدها ترامب وجرأتها على التصعيد العسكري مع الولايات المتحدة فيه ثقة عالية بالنفس مصدرها اولاً تطويرها لصناعتها العسكرية وبالتالي قدرتها على إيلام خصومها إذا ما حدثت الحرب. وثانياً، عمق تحالفاتها في الشرق الأوسط والتي تعني بالضرورة أن المواجهة مع اميركا حال حدوثها ستكون على امتداد الشرق الاوسط ومعه أفغانستان.
وثالثاً، ثقتها بأن أميركا ستكون وحيدة إن أعلنت الحرب عليها، وأن أوروبا لن تساند أميركا فيها بسبب نقض الأخيرة للاتفاق النووي وتمسكها هي فيه. يضاف لذلك اقتناعها بأن أي حرب محدودة مع الولايات المتحدة لن يكون لها تأثير فعلي على نظامها لكنها بالمحصلة ستحقق الهدف الإيراني منها بعولمة الأزمة.
من المهم هنا القول بأن عدم رد أميركا العسكري على حادثة إسقاط طائرتها مصدره الخوف من أن إيران ستقوم بالرد على أي هجوم عسكري عليها، والرد سيفرض على أميركا إما بلع الإهانة أو الرد مجدداً، وهو ما قد يؤدي الى حرب شاملة لا يرغب فيها ترامب. أميركا تستطيع تدمير إيران بالطبع لأنها تمتلك القوة العسكرية الأكثر فتكاً في العالم، لكن ذلك لن يتم بدون مقابل كبير لا تريده ولا مصلحة لأميركا بدفعه، ولعل هذا ما يمنع الحرب المفتوحة مع إيران الى الآن.
للتوضيح، في الحرب الأميركية على العراق العام 1991 مثلا، أطلق العراق 43 صاروخا على العربية السعودية. نجح واحد منها بإصابة القاعدة العسكرية الأميركية في الظهران، ما أدى لمقتل 28 من العسكريين الأميركيين.
ماذا لو سقطت العشرات وربما المئات من الصواريخ الدقيقة على القواعد العسكرية الأميركية المتناثرة في الخليج العربي؟
ماذا سيكون عليه الاقتصاد العالمي إن تم إغلاق مضيق هرمز وتوقفت صادرات البترول من الخليج العربي لمدة طويلة نسبياً؟
الخوف من تكلفة الحرب على أميركا، تمنعها الآن. لكن، سياسات الحصار الاقتصادي الخانق لإيران، واستعداد الأخيرة مهما عظمت التكاليف على عدم التنازل لأعدائها، يجعل الطريق الى الحرب ممهدة ويضاعف من احتمالاتها، وإن حدثت فإنها ستؤدي الى عولمة الأزمة وتحويلها الى مشكلة لكل دولة في العالم.
ج