بوفاة الدكتور محمد مرسي أثناء جلسة محاكمته، ينسدل الستار على أهم مفصل في العلاقة الإشكالية بين الدولة المصرية، و»الإخوان المسلمين» عقب ثورة يناير.
لقد ظلم «الإخوان المسلمين» محمد مرسي - رحمه الله - حين رشحوه لرئاسة دولة بحجم مصر، غداة ثورة هادرة اسمها ثورة 25 يناير. وسرعان ما اكتشف المصريون، عقب وصول مرسي إلى قصر الاتحادية، بأن نظام الإخوان، أسوأ من كل الأنظمة التي عاصروها أو سمعوا عنها.
وحين اتخذت المؤسسة العسكرية في مصر قراراً نهائياً، بالانحياز إلى الشعب المصري الذي خرج إلى الشوارع فيما يشبه الطوفان في 30 يونيو، لإسقاط نظام الإخوان المسلمين، كانت تعرف أنه قرار ليس سهلاً.
وهو على حال، لم يكن وليد اللحظة الانفعالية، بل كان قراراً تراكمياً، وساعدت أخطاء الإخوان الكارثية على صناعته والدفع به إلى موضع التنفيذ، مع تنامي السخط الشعبي المصري، واتساع رقعته ووصوله إلى الذروة في شهري نيسان وأيار، أي قبل ثورة يونيو بشهرين. حينها أدرك الجميع أن النظام الإخواني ساقط لا محالة، بمن فيهم المؤسسة العسكرية، ولكن كان السؤال: متى وكيف؟
المؤسسة العسكرية كانت تراقب ما يدور على الساحة المصرية، وترى كيف انقض الإخوان المسلمين على كعكة مصر، يريدون التهامها في لقمة واحدة. وكيف نقض نظام الإخوان كل وعوده مع القوى السياسية والثورية الأخرى التي ساندته وساعدته من أجل الوصول إلى الحكم، وافتعل معارك طاحنة مع القضاء المصري والأزهر الشريف والكنيسة القبطية والشرطة والإعلام، بدلاً من استمالتها أو تحييدها.
ولكن الصدمة الفعلية كانت من هزالة الأداء الاقتصادي لحكومة الإخوان، ومن قصور الرؤية الإستراتيجية لديهم، فقد اتضح أن تنظيم الإخوان المسلمين الذي كان ينتظر حكم مصر منذ ثمانين عاماً، لم يكن لديه مشروع اقتصادي لمصر، بل كان كل همه الاستيلاء على مصر، ووراثة نظام حسني مبارك، الأمر الذي حرك قطاعات واسعة من الشعب المصري للتمرد على حكم الإخوان، ورفعوا في كل ميادين مصر شعار «إذا مش قادرين تديروا مصر.... سيبوها!!».
كانت كل التقارير توضع على مكتب وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي مرفقة – بتقدير موقف – وهو يقرأ جيداً، معتمداً على تجربته في رئاسة جهاز المخابرات الحربية. وبعد فرمان «الإعلان الدستوري» الذي أصدره مرسي، والذي أعطاه سلطات مطلقة، تحولت الشكوك العميقة لدى المؤسسة العسكرية ولدى الفريق السيسي من مخططات الإخوان إلى حقائق، ولم يبق لديهم أدنى شك، أن مصر ذاهبة في طريق ديكتاتورية من العيار الثقيل وليس ديكتاتورية متوسطة، ولكن هذه المرة بثوب ديني، طويل الأمد.
ويتحدث المشير السيسي عن هذه المرحلة: قابلت الرئيس السابق محمد مرسي، وواجهته وصارحته، قلت له: لقد فعلتم في أقل من سنة، ما لم يفعله مبارك على مدار ثلاثين سنة. وحجم الغضب والسخط الشعبي عليكم في أشهر فاق حجم السخط على نظام مبارك الذي قضى عشرات السنين. ويضيف السيسي: إنه كان يضع مرسي في صورة الموقف أولاً بأول، وحذره في أكثر من مناسبة من خسارة الجميع، ودعاه إلى الخروج من عباءة الجماعة الضيقة والدخول في عباءة الدولة الجامعة، كما نصحه بإطلاق حوار جدي وحقيقي مع كافة القوى السياسية والاجتماعية بجدول أعمال واضح، هدفه طمأنة الجميع ووضع خريطة طريق للخروج من الأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد قبل فوات الأوان. ولكن مرسي لم يكن يمتلك قراره، بل كان مجرد «مندوب سامي» لمكتب الإرشاد، ويعلق الفريق السيسي على ذلك: حينئذ أشفقت على الرجل من مهنة رئيس جمهورية مصر العربية، فقد كان الرئيس مرسي عالقاً وضائعاً بين جماعته وبين متطلبات الحكم والدولة.
ولكن لغاية هذه اللحظة، كان الجيش المصري يرفض التدخل عسكرياً، وينأى بنفسه عن التجاذبات السياسية، لأنه يعرف مسبقاً الثمن الباهظ الذي ستدفعه البلاد في حال القيام بهذه الخطوة، خصوصاً أننا أمام تجربة فريدة ورئيس مدني منتخب لأول مرة بطريقة ديمقراطية!
حتى عندما امتلأت شوارع مصر بملصقات تدعو الجيش للتدخل وحماية مصر والمصريين من الغزو الإخواني، وحتى عندما بدأت حناجر الليبراليين والقوميين واليساريين تصدح – في مشهد غريب - مطالبة الجيش بالانقلاب على الرئيس مرسي وتخليص مصر، وهم أنفسهم الذين رفعوا شعار «يسقط يسقط حكم العسكر»، كان رد الجيش فاتراً، ففي اجتماع مع عدد من الفنانين والرموز الثقافية، أوصل قائد الجيش الفريق السيسي رسالة إلى المصريين: لا تنتظروا الخلاص من الجيش المصري، وإذا أردتم تغيير الوضع القائم، فما عليكم إلا المشاركة في الانتخابات القادمة بكثافة، وتحمل الانتظار لساعات في طوابير الناخبين.
فمنذ تسليم السلطة للرئيس المنتخب مرسي، اتخذ الجيش المصري قراراً إستراتيجياً، بالعودة إلى الثكنات، والانسحاب بهدوء من المشهد السياسي، والاكتفاء بدور المراقب العام لما يجري على الساحة المصرية. ووجدت المؤسسة العسكرية أنه من صالحها عدم التدخل في الصراع السياسي الدائر في البلاد، تاركة الموضوع برمته للأحزاب والنخب السياسية. ولكن قيادة الجيش وضعت استثناءً واحداً لعدم التدخل: هو شريطة عدم مساس النظام القائم بهوية الدولة ووجهها المدني.. هذا من جانب، أما الجانب الآخر، فهو عدم تعرض السلم الأهلي أو الأمن القومي للخطر.
وتمر الأيام ويتكشف الوجه الحقيقي للإخوان، بمحاولة أخونة الدولة، وتغيير طابعها المدني، حينما لا نرى سوى قادة الأحزاب الإسلامية، هم فقط من يحجون إلى قصر الاتحادية، وأن الرئيس مرسي محاط من كل جهة من الإسلاميين والقطبيين والجهاديين، وسط دعوات وهتافات ومؤتمرات للإسلاميين تدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وتهاجم المجتمع المدني، وتتهمهم بالكفر والزندقة. الأمر الذي أثار حالة من الذعر لدى كل القوى المدنية، ولدى المجلس العسكري على هوية الدولة المدنية.
وبالتزامن مع ذلك، كانت التقارير توضع على مكتب الفريق السيسي عن خطوط المؤامرة، التي تجمع بين نظام مرسي، والإدارة الأميركية، وعن الصفقات المشبوهة بينهم، من خلال بيع أجزاء من سيناء لتوطين الفلسطينيين، وبيع أجزاء من منطقة قناة السويس، وغيرها من الصفقات لبيع مصر.
وحينها، اتضح للمؤسسة العسكرية خطر نظام الإخوان على الأمن القومي، وهوية الدولة الوطنية والمدنية، وبقي الضلع الثالث والأخير وبعدها يقرر الجيش التدخل، وهو عدم المساس بالسلم الأهلي.
ولكن حتى هذا الضلع سرعان ما تهاوى، فمع النجاح الكاسح الذي حققته حركة «تمرد»، كانت هناك تقارير سيادية لدى الفريق السيسي تؤكد أن المشاركين في تظاهرات يونيو سيكونون بالملايين بوجود غليان شعبي غير مسبوق، وأن الجماهير لن تغادر الشارع قبل تحقيق مطالبها. هنا أصبح لدى الجيش المصري صورة كاملة عما سيحدث عقب تظاهرات يونيو، وهو انزلاق البلاد إلى حافة الحرب الأهلية. لذلك قرر الجيش التدخل والانحياز إلى الشعب، وليس إلى النظام الحاكم. ولكن كيف؟
وجدت المؤسسة العسكرية أن مناخ تظاهرات يونيو وفر لها فرصة لن تتكرر، بإنهاء الوضع الشاذ وهو حكم الإخوان، لذلك تعهد الجيش المصري بحماية التظاهرات السلمية. كان تقدير المؤسسة العسكرية المصرية يقول: إن ما يفوق الخمسة ملايين مصري سينزلون في هذا اليوم، وبالتالي هناك فرصة للضغط على مرسي وتكرار سيناريو تنحي مبارك.
وفي الثلاثين من يونيو، فاجأ الشعب المصري نفسه، وفاجأ العالم بأكبر تظاهرة في التاريخ، ليتخذ الجيش قراره النهائي بالانحياز للشعب وإنهاء حكم الإخوان. وحاول الجيش حتى آخر للحظة إقناع الرئيس مرسي بفكرة التنحي، لكن مرسي لم يكن حسني مبارك، ورفض بشكل قاطع الفكرة، وأصر على ترديد: أنا الرئيس الشرعي وسأحمي الشرعية بدمي... وذلك في خطابه الأخير للشعب المصري.