عند احتلال الاستعمار الفرنسي لسورية العام 1920، ادعى الجنرال غورو أن مهمة فرنسا هي حماية الأقليات في الشرق، وخاصة المسيحيين، ناهيك عن مهمة تمدين السوريين، فما كان من فارس الخوري، وهو الشخصية الوطنية المسيحية المعروفة، إلا أن ذهب إلى المسجد الأموي في دمشق، وأعلن من على منبره: «إذا كانت فرنسا تدعي أنها احتلت سورية لحمايتنا، نحن، المسيحيين، من المسلمين، فأنا كمسيحي من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله».
بالطبع، ليس المقصود من كلام فارس الخوري أنه سيغير دينه، وإنما رفض سياسات فرنسا الاستعمارية التي تهدف إلى التفريق بين السوريين على أسس دينية وعرقية، بقصد تسهيل مهمة استعمار سورية، ولقد لجأت فرنسا إلى وسائل عدة لتكريس تلك السياسة، ومنها تأسيس جيش الشرق باعتماده على الأقليات السورية والعلويين والأكراد.
وتاريخيا، عرف المشهد السوري معارضين أكرادا قاوموا سياسات التهميش والتمييز العنصري، ومعارضين سوريين بارزين من الإسماعيليين والدروز والعلويين والمسيحيين، دفعوا أثمانا قاسية في معاركهم ضد النظام السوري، لقاء دعوتهم لبناء سورية مدنية تعددية وديمقراطية، ونهضت من منابت متنوعة، قامات وأسماء وطنية خاضت المعارك ضد الاحتلال الفرنسي واحتلت مناصب سياسية وعسكرية عليا، كإبراهيم هنانو وصالح العلي وسلطان باشا الأطرش وفارس الخوري وفوزي السلو وسعيد إسحاق وحسني الزعيم وأديب الشيشكلي و.....
ومع انطلاق شرارة الثورة السورية، نشط النظام الأسدي من أدواته الدعائية والعملاتية، لتوتير المناخ الاجتماعي، وتحفيز الهواجس والمخاوف لدى الأقليات، وخطط، في إطار الدفاع عن نظامه، لانزلاق الأوضاع إلى مسارات حرب طائفية، بهدف تحشيد الأقليات حوله، والطائفة العلوية خصوصاً، وربط مصيرها بمصيره، وتخويف المجتمع السوري من الثورة، وتخويف الغرب من نتائج انتصار الثورة، على المسيحيين الذين لطالما لعب بورقة حمايتهم تغطية لأطماعه الاستعمارية.
لذلك شهدنا قلقا وخوفا مشروعا لدى الأقليات ومثقفيها من مرحلة ما بعد النظام السوري، ازداد مع ظهور خطابات حول أسلمة الثورة، ودفع البعض للقول إن ثمة من يتقصد تهميش دور الأقليات لإعطاء الثورة السورية بعداً وشكلاً إسلاميين، وللتحسب من وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم، والخشية من مظاهر التضييق والتنميط المرافقة لهذا النوع من الحكومات، التي تحاول فرض أسلوب حياتها وثقافتها على المجتمع، وتهديد هوية هذه الأقليات وحقوقها وطرق عيشها. لتصبح لاحقا، علاقة هذه الأقليات بالثورة السورية كأنها تدور في حلقة خطيرة، فتنامي العنف والميل الإسلامي في الثورة السورية إذ يعزز من مخاوف أبناء الأقليات، فإن خوف هؤلاء وإحجامهم عن المشاركة يعزز بدوره من إسلامية الحراك ويغذيه ببعد طائفي ليعود ويغذي تلك المخاوف من جديد.
إذا لم يتبلور تيار ضمن تلك «الأقليات» يؤيد الثورة تأييدا حقيقيا وذلك لأن الجسد الغالب للثوار هو من المسلمين السنة، وثانيهما دخول الفصائل الجهادية الإسلامية السورية والعابرة للحدود إلى دماغ الثورة السورية.
وهذا ما كان يحتاجه النظام السوري دون زيادة، وهو دخول رجالات سنية متطرفة كقيادة معلنة للشارع، وهو ما مكن السلطات السورية من أن تربح معركة الاصطفاف بالضربة القاضية، هذا إذا أضفنا إلى المسلسل السوري، إفراج النظام في دمشق عن عدد كبير من المتطرفين الإسلاميين المعتقلين لديه، بإيمان مطلق من النظام، أنهم سيدخلون المعركة ويلوثونها.
نعم، هذه البنود الساذجة فعلت فعلها في الشارع، لأنها تستند على تاريخ قديم ومثخن بالجراح وليس طارئا مفصولا عن سيرورته، فكيف يراد لابن الطائفة العلوية أن يصدق أن السوري السني الخارج من المسجد بلحية متروكة وغير مشذبة وشارب مجتث، أو الأجنبي القادم عبر الحدود من كهوف أفغانستان وباكستان والشيشان والعراق، طالب للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ودولة المواطنة والقانون والعدالة الاجتماعية، ولا يريد الثأر لما فعله حافظ الأسد عبر ثلاثين سنة.
لكل ذلك نجد انه على عكس البساطة، وسهولة التحديد والتعريف، والإجماع الشعبي التي يتميز بها العدو الخارجي - الاحتلال الإسرائيلي، الاستعمار الغربي، الإمبريالية الأميركية... - فإن العدو الداخلي يبقى من الصعوبة بمكان تحصيل الإجماع ضده، أو تعريفه، وخاصة عندما ترتبط شرائح عديدة معه بالمصالح والنفوذ، وأخرى بالمخاوف، والهواجس، فالحس الشعبي الجمعي يميل إلى الأمان الواضح، والملاحظة البسيطة، والرؤية المباشرة.
كما أنه ثمة ملاحظة مهمة، وهي أن «عدائي مع النظام لا يجعلني حليفا لك»، ليس عند الأقليات السورية فحسب، بل عند نخب اليسار السياسي أيضا، التي اعتقلت لسنوات طويلة في عهد حافظ الأسد وابنه، لكنها لم تنخرط في صفوف الثورة لتأكدها أن الحيل الإخوانية تتشكل من جديد بحلة حداثوية، والغريب أنهم لو خُيروا بين بشار الأسد والإسلاميين سيختارون الأول، ولا تفسير لوضع معتقلي حزب العمل الشيوعي في مهاجع الإخوان أثناء فترة حكم حافظ الأسد، إلا فهم السلطة السورية أنها أقرب لليسار من الإخوان المسلمين، حتى أثناء فترة التنكيل القاسي.
ولا شك أن هناك حالات فردية ظهرت ضمن تلك «الأقليات»، انحازت بالكامل إلى الثورة ومطالبها، وتحمّلت جراء مواقفها، السجن والمنفى، ناهيك عن «العزل» الاجتماعي من أبناء طائفتها، وهناك تيار ضمن الأقليات، وجد أن الانكفاء هو أفضل الحلول، وسارع في محاولة تعجيزية إلى طلب الضمانات من الثورة بألا تعيد الأمور للخلف، بمعنى أن الثورة لن تُفقد تلك الأقليات، ما قد حصلوا عليه من حقوق، وأنها لن تعيدهم إلى «ذمّيين» يدفعون الجزية.
أما الطائفة الدرزية والتي تتمركز أغلبيتها في محافظة السويداء، فشاركت مجموعات صغيرة منها في المظاهرات ضد حكم الأسد، ولكن سرعان ما تلاشت تلك التحركات، وتم تطويقها من قبل الزعامات المحلية والأمنية الدرزية التابعة لنظام الأسد. وفي السنة الثالثة من عمر الثورة السورية بدأ أهل جبل العرب في السويداء يتذمرون من ارتفاع عدد القتلى بين أبنائهم في صفوف النظام، وخوفهم من انتقام الثوار، فما كان منهم إلا أن أعلنوا عدم إرسال أبنائهم إلى التجنيد في صفوف جيش الأسد وحدثت بعض الاحتجاجات والمناوشات مع فرع الأمن العسكري وصلت الى حد الاصطدام المسلح وطرد عناصر النظام من بعض الحواجز الأمنية، وهددوا نظام الأسد أنه في حال تم قطع الوقود عنهم سيقومون بقطع طريق السويداء - دمشق.
بينما شارك الأكراد على استحياء في الحراك السلمي حتى استشهاد المعارض الكردي البارز مشعل تمو، والذي كان تحولا نوعيا في فعالية الحراك الكردي، لكن للأسف بعد أن سيطر الجناح الكردي المتعصب قومياً حدث شرخ بينهم وبين الثورة السورية الشاملة، وبدأت تظهر الشعارات القومية والأهداف الانفصالية، وخير شاهد على ذلك هو تشكيل مجلس اطلق عليه اسم «المجلس الوطني الكردي» على غرار المجلس الوطني السوري، كذلك رفعوا الرايات الخاصة بهم «علم كردستان»، بعيدا عن علم الوطن السوري الأم.