توقف القلب الكبير عن الخفقان، رحل د. صبحي غوشة تاركاً فراغاً كبيراً، رحل أحد أهم المدافعين عن القدس في الزمن الأكثر صعوبة. غاب عن القدس وفلسطين وشعبها وكل من أحبوه، بعد أن قضى أهم سنوات عمره الذي ناف تسعين عاما، يفتش عن عناصر القوة في شعبه ويستجمعها. قرع حكيم القدس أبوابها السبعة، محاولاً إيصال الصدى الى البعيد البعيد. لم يرحل قبل ان يكتب حكايته المعجونة بحكايات المقدسيين، قبل ان يكتب حكاية القدس بكل مفاخرها ومآسيها. استوقفنا سرده الحميمي عن المدينة في كتابه «الحياة الاجتماعية في القدس في القرن العشرين» حين قدم المدينة كمكان يستوعب الحضارة الإنسانية والبشر الذين يصنعونها دون تمييز او احتكار. فقد تشكل في القدس كيان فلسطيني متنوع استوعب مغاربة وأفارقة ويوناناً وأفغاناً وأحباشاً وأقباطاً وسرياناً وهنوداً وأرمنَ وموارنة وحجاجاً ويهوداً جاؤوا من الأندلس، وأكراداً جاؤوا مع صلاح الدين الأيوبي، وشركسَ هربوا من المجازر، وآخرين جاؤوا من الولايات العثمانية وبعثات تبشيرية وإرساليات دينية مسيحية، كل هؤلاء وغيرهم جاؤوا الى القدس ووجدوا فيها الحماية والأمن والسلام والاحترام من مواطنيها الذين تمثلوا كل الحضارات التي مرت على المدينة من شتى بقاع الأرض، كل هؤلاء اندمجوا وصاروا جزءاً من الشعب الفلسطيني وجزءاً من ثقافته المتعددة والمنفتحة. هذه هي القدس التي أحبها غوشة ابنها البار وقدمها بصورتها الحضارية. لم تبخل هذه المدينة العريقة الخالدة على احد، لم تميز بين ديانة وأخرى ولا بين عرق وآخر ولا بين لون وآخر ولا بين قومية وأخرى. لقد فتحت القدس أبوابها للجميع وكانت نموذجاً للتعايش والسلام بين الشعوب. وحدهم المحتلون المستعمرون ومعهم ترامب وإدارته وفريقه العنصري أرادوا الاستحواذ على المدينة كلها، وشطب حقوق سكانها الأصليين.
هؤلاء وضعوا المقدسيين تحت نظام سيطرة الأبارتهايد، يحظر عليهم بناء البيوت والمدارس وإذا خرجوا بحثاً عن سكن وتعليم تشطب مواطنتهم، واذا سافروا وغابوا اكثر من مدة محددة يحظر عليهم العودة والإقامة في مدينتهم. ويحظر على كل المقدسيين الموجودين في الخارج وهم أضعاف الموجودين داخل مدينتهم مجرد زيارة القدس. وتقدم للمقدسيين خدمات اقل بكثير من خدمات المستوطنين غير الشرعيين ولا تتناسب مع حجم الضرائب المرتفعة التي يدفعونها.
كما نرى، صورتان للقدس: الأولى صورة المدينة تحت حكم الابارتهايد وقيوده. والصورة الحضارية الانسانية التي أبدع د. صبحي غوشة في تقديمها بكل جمالياتها عبر كتبه وسيرته، والتي تحدث فيها عن كل حارة وسوق ومقهى وزاوية وتكية وسبيل ومقام ومزار ومعصرة زيتون، فضلاً عن المسجد الاقصى وكنيسة القيامة وأسوار المدينة ومتاحفها. إنها حكاية القدس التي تجعل من يقرأها يحب ارضها وناسها ويفكر بعمل اي شيء من اجل كسر قيودها.
من بين الكبار يتميز د. صبحي غوشة، باهتمامه الملحوظ بالأجيال الجديدة من شبان وشابات تلك الفئة المستهدفة في عرض الحكاية التي حرص وحاول مراراً وتكراراً أن يحيلها إليهم، وكأنه لم يعد يثق إلا بهم. ويعتقد من يعرفه عن قرب أنه يرغب في الاندماج معهم متجاوزاً عامل السن. هؤلاء هم القوة التي وضع د. غوشة جل اهتمامه وثقته بهم، أحبهم ووثق بهم وبادلوه الحب والثقة، وحاولوا العمل معاً في الفنون والتطوع وفي دعم صمود المدينة. ربما يعود اهتمامه بالأجيال الجديدة الى تجربته السابقة في الاندماج بالناس منذ بداية انغماسه في النضال الوطني، ومن خلال عيادته كطبيب التي كانت قاعدة لاستقطاب المناضلين ولدعم كل من احتاج الى العلاج والمساندة المعنوية من أبناء شعبه. لم ينفصل حكيم القدس عن الناس وكان ذلك سر عطائه المتدفق وسر تفاؤله وحماسه وحضوره الدائم. تجربة حكيم القدس تطرح سؤالاً مسكوتاً عنه، لماذا ابتعد هذا المناضل المخضرم عن العمل السياسي المنظم ولجأ الى عمل من خارج الأطر القائمة رغم موقعه القيادي المبادر معتمداً على مصداقيته وثقة الناس به؟ سؤال ينطبق على آخرين أمثال المناضل بهجت ابوغربية، وابراهيم الدقاق، وإدوارد سعيد وغيرهم. لماذا ابتعد هؤلاء عن المؤسسة الرسمية؟ اغلب الاعتقاد ان ابتعادهم له صلة بأزمة المؤسسة وعدم قدرتها على استيعاب الكفاءات القديمة والجديدة، له علاقة بالبنية الرافضة للتجدد وتعاقب الاجيال والتغيير والنقد والمحاسبة. يجيب د. غوشة في آخر كتاب له (سيرتي الذاتية 1929 – 1971) 400 صفحة بشكل غير مباشر عن السؤال.
الشغل الشاغل الذي يوليه حكيم القدس اهتماماً وحيزاً كبيراً من نقاشه هو ضرورة «الميثاق» او إعادة الاعتبار للميثاق الذي ساهم سابقاً في توحيد كل الشعب الفلسطيني وفي التفافه حول المنظمة كحركة تحرر وطني وتبنيه لبرنامجها بما في ذلك شكل النضال. يربط د. غوشة تفكك الحركة الوطنية وانفصال تنظيماتها السياسية عن جماهيرها وشلل المؤسسات التقليدية، وبين غياب العقد الوطني الذي يرى في الميثاق الوطني هو العقد. وعندما قلت له ان الميثاق القديم لا يجيب على الواقع الراهن في ذلك اللقاء «الأخير» قال : نعود الى الميثاق أولاً وبعد ذلك نحدث التطوير عليه، وأضاف: إن أي وقت يمر دون مرجعية دون ميثاق، يؤدي الى المزيد من التفكك وفقدان البوصلة. نحن الآن بدون ميثاق وهذا يفسر الانقسام الحالي المرشح للتفاقم.
التفاؤل في زمن التردي والانهيار هو أكثر ما يلفت الانتباه في تجربة د. غوشة النضالية وفي رؤيته للواقع الراهن، ذلك النوع من التفاؤل الذي يحاول البرهنة عليه طوال الوقت، رافعاً كأساً من الماء أمامه وهو يقول: ما يهمني هو الماء الموجود في الكأس، وليس الفراغ الذي يخلو من الماء. كم سنفتقد ونحن في قلب الظلام تفاؤل ودأب وتفاني وإضاءات د. صبحي غوشة. كم هو ضروري دراسة هذه التجربة الغنية واستخلاص العبر منها وإضافة الماء الى الماء القليل الموجود في الكؤوس.
Mohanned_t@yahoo.com