عاد حديث التفاهمات واتفاقاتها إلى الواجهة بعد توقف محدود فرضته الانتخابات التشريعية لدولة الاحتلال. التوقف المؤقت، وقبله الاستطالة في التفاوض حول عناوين وشروط وتفاصيل، لم يمنعا الالتزام ببعض البنود وتطبيقها دون انتظار الاتفاق النهائي. وراء ذلك قناعة طرفي التفاهمات، كل من وجهة نظره وأسبابه، أن الوصول إلى اتفاق نهائي أمر شبه مؤكد.
في خلفية الطرفيين والوسطاء، أن التفاهمات الحالية هي مرحلة أولى تقدم لمرحلة ثانية تتناول القضايا الأكثر أهمية: الأسرى، الخط البحري والتنمية و...
رئيس وزراء دولة الاحتلال نتنياهو هو من بدأ العودة إلى حديث التفاهمات برسائله إلى المعنيين، عبر الوسطاء، يؤكد فيها التزامه بتنفيذ التفاهمات التي تم إرجاؤها لما بعد الانتخابات. ولم يكن متوقعاً من نتنياهو غير ذلك، وهو الذي يعلن أن التفاهمات مصلحة وطنية لدولة الاحتلال كونها تكرس الانقسام واستمرار الانفصال الواقعي لغزة عن الضفة وعن ولاية منظمة التحرير وسلطتها الوطنية. وبذلك عاد الحديث عن الأموال القطرية وأوجه وطرائق صرفها، وعن مشاريع التهدئة، وأيضاً عن التهدئة من الجانب الفلسطيني.
بداية، ولجهة المبدأ والحق الطبيعي، فلا يمكن الاعتراض على عمل كل ما يمكن لرفع الحصار عن غزة وإنهاء العزل والقهر عن أهلها، شرط أن يتم ذلك على قواعد العمل الوطني والشامل، بالجوهر والأساس، ثم بالتنفيذ والتفاصيل والمسؤولية، وبالتبعات أيضاً.
حديث التفاهمات وموضوعاتها وإدارتها يفرض ثلاثة أسئلة وثلاث ملاحظات.
السؤال الأول، لماذا تبقى كل مباحثات التهدئة وتفاصيلها محتكرة حصرياً وتقريرياً بحركة حماس؟
لماذا لا تكون تحت راية ومسؤولية منظمة التحرير كما حصل في تفاهمات 2014 التي شاركت في التوصل لها فصائل عدة وأيدها الكل الفلسطيني؟ أليس هذا هو الوضع الوطني الطبيعي بداية؟ ألا يوفر ذلك قوة وثقلاً تفاوضياً أكبر وإنجازات أوسع واطمئناناً بالالتزام أقوى وحماية لأي فصيل وطني من محاولات الاستفراد به واستدراجه إلى مواقع غير مقبولة ومن التساؤلات حول نواياه ومقاصده؟
احتكار حركة حماس يحصر حتى دور التنظيمات الأخرى في باب «العلم والخبر» تنقله لهم حركة حماس.
هل سبب ذلك أن التنظيمات المذكورة لم يعد لها حضور جماهيري ودور نضالي وسياسي يفرضها كشريك أم سببه أن حركة حماس لا تقبل الشريك أم السببان معاً؟
السؤال الثاني، ألا يشكل التفاوض حول التفاهمات والاتفاق عليها والالتزام بها، وقبول استلام المساعدة المالية القطرية بشروط دولة الاحتلال، شكلاً من الاعتراف بدولة الاحتلال ووجودها - كأمر واقع على الأقل؟ فالتفاوض وصولاً للاتفاق لا يتم مع جنّ ولا أشباح، سواء حصل بشكل مباشر، أو من وراء وسيط.
معروف أن واحداً من ركائز قيام حماس وتمايزها، كان رفضها الاعتراف بوجود دولة الاحتلال والتعامل معها، ورفضها اتفاقيات أوسلو التي اعترفت بوجودها.
السؤال الثالث، ما هو فهم وموقع المقاومة المسلحة في مناخ وأجواء تفاهمات التهدئة واتفاقاتها؟
ومعروف، أن ركيزة ثانية من ركائز قيام حماس وتمايزها كان تبنيها إستراتيجية المقاومة المسلحة. فقد استمرت تؤكد تبنيها وتمسكها بهذه الإستراتيجية، في مقابل إستراتيجية المفاوضات السياسية كما اسمتها هي.
إن جوهر وأساس مفهوم المقاومة المسلحة، أنها فعل مبادأة ومبادرة ضد وجود الاحتلال وكل تعبيراته العسكرية والاقتصادية والاستيطانية و... ولمراكمة اختلال متصاعد في ميزان الربح والخسارة يفرض على الاحتلال الرحيل. ولا يمكن أن يقتصر مفهومها وفعلها على التصدي لاعتداءات العدو وحروبه العدوانية، دون أي تقليل من التقدير العالي لبسالة التصدي وبطولاته.
فعل المقاومة المسلحة المبادئ والمبادر، تم تسكينه في أرض الواقع، مع استمرار إعلان التمسك به كشعار بنفس الوتيرة العالية. ووصل «التسكين» درجة التبرؤ من أي فعل عسكري ضد الكيان المحتل حتى لو كان صاروخاً انطلق بالخطأ. ثم وصل التسكين على مذبح تفاهمات التهدئة إلى وقف ما سمّي «الأعمال الخشنة» في مسيرات العودة. مع أن هذه الأعمال إبداعات جماهيرية لمقاومة شعبية لا علاقة لها بالسلاح.
أما عن الملاحظات فهي:
الملاحظة الأولى، إن دولة الاحتلال، تعلن عن نواياها واستهدافاتها من وراء الدخول في مسار التفاهمات بشكل شديد الوضوح والوقاحة المهينة. فرئيس وزرائها يؤكد أن الحفاظ على الانقسام وتقويته وإبقاء غزة معزولة عن الضفة ومنفصلة عن منظمة التحرير وسلطتها الوطنية، وتحت حكم حماس، هو مكسب ومصلحة لها، وهدف أيضاً.
الملاحظة الثانية، أن كل المشاريع لمرحلة التفاهمات الحالية والمعونات لتمويلها وللصرف على بعض الاحتياجات الأخرى، ثم المشاريع التنموية الموعودة للمرحلة الثانية كلها تقوم وترسّم لخدمة حركة حماس واستقرار حكمها المنفرد والمنفصل في غزة.
الملاحظة الثالثة، الحديث الدائر لدى أكثر من جهة، أن كل ما يجري هو لتخليق كيان سياسي فلسطيني قائم بذاته في غزة ليقوم بالدور المطلوب فلسطينياً في صفقة القرن. هذا الحديث لا يقابل من الجهة المعنية بالدرجة المطلوبة من المواقف والسياسات والممارسات التي تؤكد رفضه.
إعلان حماس الأخير تشكيل هيئة وطنية ضد صفقة القرن يبقى إعلامياً شكلياً، ولا مضمون عملي له إلا المزيد من تعميق الانقسام والابتعاد أكثر عن الشرعية الوطنية وإضعافها.
تبقى في النهاية زفرة، حين تعلن جهة ما أن التفاهمات تتم دون أي ثمن.
ثلاثمائة شهيد ومئات أكثر من ذوي الإعاقة الدائمة وآلاف من الجرحى في مسيرات العودة المجيدة فقط، وعذابات الناس.. ليس ثمناً؟
وهل هناك ثمن أفدح من الانقسام وما يجلبه من بلاء على القضية الوطنية، خصوصاً أن عدونا المحتل هو من يغذيه، وهو من يبني عليه؟