عن إنجي أفلاطون..عبير بشير

الثلاثاء 23 أبريل 2019 10:27 ص / بتوقيت القدس +2GMT
عن إنجي أفلاطون..عبير بشير



احتفى محرك البحث «غوغل» بالذكرى 95 لميلاد الفنانة التشكيلية إنجي أفلاطون التي تعتبر من رائدات الحركة التشكيلية المصرية، بالإضافة إلى كونها واحدة من المناضلات البارزات في الحركة الاشتراكية المصرية والحركة النسائية الحديثة. 
وُلدت أفلاطون في أحد قصور القاهرة العام 1924، وتلقت تعليمها في مدرسة الليسية الفرنسية حيث حصلت على شهادة البكالوريا، ومن ثم التحقت بمدرسة الفنون الجميلة في تعتعاتها الأولى.
انتبه أبوها المثقف ومؤسس قسم الحشرات في جامعة القاهرة إلى موهبتها حين لمس نزوعها نحو الفن، فخصها بأستاذ للرسم في البيت، قبل دراسته أكاديميا. التقت إنجي بأحد الفنانين المعروف بأعماله السينمائية الساخرة وهو المخرج كامل التلمساني الذي أصبح عرابها وأخذ يوجهها نحو تاريخ الفنون وفلسفة الجمال، فانفتحت أمامها نافذة أطلت منها على عالم الفنون الحافل بالجمال، ومنذ تلك اللحظة، أثرت السريالية في أعمال إنجي أفلاطون الفنية بقوة. فقد كان التلمساني منتمياً لحركة «الفن والحرية» السريالية التي كانت أشبه بالقاطرة الطلائعية للفن العربي آنذاك. وضمت مجموعة من أهم فناني تلك الفترة مثل رمسيس يونان وفؤاد كامل ومحمود سعيد، بالإضافة إلى مجموعة من أبرز الأدباء مثل ألبير قصيري وجورج حنين ومارسيل بياجيني، فكانت سريالية سياسية إلى جانب تحررها التشكيلي. وقد حررت هذه الحركة الفن العربي من جمود التشخيص لتزج به في التعبير الرمزي السريالي الخارق لكل الحدود والمواضعات البصرية التي بُني عليها الفن العربي آنذاك، من واقعية ورومانسية وغيرهما، في وقت كان فيه الوعي السينمائي ما يزال رومانسياً وغنائياً وحكائياً، قبل أن يجعل منه هنري بركات وحسين كمال وصلاح أبو سيف وتوفيق صالح ويوسف شاهين، وعياً بصرياً جديداً سبقه بكثير الوعي التشكيلي.
شاركت إنجي ضمن الرموز المبكرة لجيل التمرد التشكيلي أوائل الأربعينيات في ترسيخ حركة التجديد في التصوير المصري الحديث مستهدفة وسط حماس ذلك الجيل بالمنجزات الأوروبية المعاصرة خاصة السريالية ومع ذلك فإنها لم تتردد في التمرد علي هذه الإنجازات واختارت طريقها الخاص، النابع من معايشتها العميقة للواقع المصري، ومن قناعاتها الفكرية والنضالية ولم ترهبها على مدار السنوات الطويلة صيحات الهجوم على الواقعية والالتزام ودعاوى الإثارة الشكلية الفارغة من أي مضمون.
انتقلت أفلاطون بالرسم إلى دائرة المثقفين المصريين، وبدأت في التعرف من خلال الكتب والنقاشات على المفاهيم الاشتراكية. وجدت في هذه الكتب تحليلا علميا متكاملا ونظرة إنسانية شاملة لجميع قضايا المجتمع: الفقر، الاستغلال الطبقي، استغلال المرأة، قضايا الاستعمار والتحرر الوطني. وكانت تلك الأفكار مبهرة تماما لفتاة في الأصل متمردة على طبقتها الاجتماعية وزاهدة في رخاء تلك الطبقة. تقول إنجي أفلاطون «باتخاذي ذلك الموقف الأيديولوجي اكتسبت حياتي بعدا جديدا هو الكفاح السياسي، وانتقلت باختياري الواعي من معسكر الأغنياء إلى الفقراء». ورفضت كل محاولات والدتها لإقناعها بالسفر إلى الخارج لاستكمال دراستها الفنية بإحدى الكليات أو المراسم الفنية المشهورة بباريس.
كان تأثر إنجي بأفكار جماعة الفن والحرية قد هيأ لها أرضية خصبة للتفكير في قضايا المجتمع بوعي غلب عليه الطابع الاشتراكي. وهو ما جعلها تنزلق تدريجيا وبقناعة راسخة إلى العمل السياسي المباشر في اتجاهين، النسوية، حيث صارت واحدة من رائدات الدعوة إلى تحرير المرأة، والارتباط الحزبي حين انتمت إلى حركة أسكرا الشيوعية العام 1944.
وفي 1958 أصبحت أفلاطون من أبرز أعضاء الحزب الشيوعي في مصر، فاعتقلت وتعرضت للإخفاء القسري في العام 1959 إبان حكم الرئيس جمال عبدالناصر. في بداية اعتقالها كانت ممنوعة من الرسم، لكن إدارة السجن سمحت لها بعد فترة من الاعتقال بممارسة هوايتها مقابل أن تمنح أعمالها للسجن. فرسمت السجينات في المهاجع وطوابير الطعام ومشاغل التأهيل المهني.. ومن أشهر لوحاتها في هذه الفترة كانت «شجرة خلف الحائط»، ولوحة «ليلة خلف قضبان السجن».
عقب الإفراج عنها في العام 1963، خرجت من السجن متعطشة للنور والحرية، وأصبح أسلوبها أكثر خفة ومرحاً، وصارت شخصياتها أكثر حيوية، بعد أن انطلقت إلى الريف والحقول الخضراء واحتفالات الزهور وتجمعات النخيل مصورة أفراح الطبيعة مختلطة بأفراح البشر في مواسم الحصاد.
ونزعت إنجي إلى تخفيف مساحة اللوحة واعتماد الفراغات التي تتنفس منها، واستعملت الألوان الحية في رسم الريف وحياة الكادحين المصريين اليومية، وتميزت لوحاتها بإيقاعات ضربات الفرشاة الممتلئة التي تتلاعب مع فراغات القماش لتعبر عن الضوء والشفافية والصفاء. ونسجت ألوان لوحاتها من أرض مصر وشمسها فجاءت صريحة مشرقة.
حظيت إنجي أفلاطون بتقدير عال شرقاً وغرباً عبر مشوارها الطويل في طريق الفن التشكيلي وقال عنها النقاد، إنها تضفي قدراً هائلاً من الحيوية على تفسيرها للطبيعة. وفي روما، قالوا عنها، إنها خرجت من قلب الحركة التشكيلية المصرية المعاصرة التي ترتبط بالواقع وتصور العظمة القاسية للطبيعة المصرية في لحظات من الحياة اليومية وتكمن قوتها في قدرتها على القبض على شعور ما.
هي امرأة لكل النساء. تجربتها تخترق مرحلة عصيبة وحساسة من تاريخ مصر والوطن العربي وتمنحه مذاقاً خاصاً. كان كل شيء يجري في حياتها بطريقة منسجمة، كما لو أن أفلاطون خلقت لترسم وتكون داعية تمرد نسوي وحاملة أفكارا سياسية تدعو إلى العدالة الاجتماعية. وهو ما جعلها تهتدي إلى موهبتها في الكتابة بجانب الرسم، حين كتبت منشورين سياسيين اكتسبا شهرة في مجال التثقيف السياسي هما «80 مليون امرأة معنا» و»نحن النساء المصريات». وكانت انجي أفلاطون تكتب عموداً في جريدة المصري – الوفدية – واختارت اسم العامود «المرأة نصف المجتمع»، ويقال إنها أول من استخدم ذلك الشعار. فيما قدمت أفلاطون رؤيتها في مجال العلاقة الجدلية بين حرية المرأة وتحرر الأمة، وهي العلاقة التي قادتها إلى أن تتخلى عن السريالية أسلوبا فنيا لتنضم إلى الواقع، بطريقة تهبه القدرة على التعبير الراقي عن مشكلاته في مجال فلكي أنثوي خاص.
إن مسألة الإبداع في الفن التشكيلي، بوصفه فناً بصرياً، حتمت على المرأة استيفاء شروط ثلاثة هي: حرية الروح، ثقافة العين، مرونة اليد. وقد جمعت إنجي العقل والعاطفة والانفعال، وامتلكت ثقافة تشكيلية هي مزيج من جماليات «غربية» و»شرقية»، «حدثية» و»بدائية»، وقدرة خارقة على التقاط نبض العصر وحركة الطبيعة والإنسان، حركة الكائنات والأشياء، الكينونة والزمن. يد مطواعة، تنتج بتلقائية واعية ومثقفة، وخيال يرتقي بالواقع نحو اللاحدود. تأثرت أفلاطون بفان جوخ وغوغان واستهوتها المنمنمات الإسلامية وأخلصت للفن الفرعوني. غير أنها رسمت جوهر عصرها بفرادة تجعلك تقف أمام لوحتها لتقول: هذه إنجي أفلاطون، هذه مصر، هذا هو الشرق، وبذلك تكون قد حققت غايتها كمبدعة بجمع «الذاتي» و»الموضوعي». وقد اتسمت بعقل منفتح وعين نفاذة إلى جوهر الأشياء. وكانت تتجدد مع كل عقد من الزمن، دائمة الابتكار، متوهجة الرؤية. عاشت فنانة استثنائية، تمزج المشاعر والأفكار عبر الألوان لتخلق عالما موازيا، نرى من خلاله ما لا تلتقطه أعيننا في زحام الحياة.
ويلخص الكاتب الكبير «أحمد بهاء الدين» سيرة «إنجي أفلاطون» في قوله: وهل يمكن حقا أن نفهم فنها معزولا عن نضالها؟!.. هذا الوهج الذي تشي به ألوان لوحاتها الأولى، وهذا الحزن الخفيف على الوجوه والعيون ذات النظرة المتطلعة إلى بعيد ثم هذه النمنمة التي شاعت في لوحاتها الأخيرة وكأنها نوع من الإدراك بأن الطريق طويل، ثم هذا الاحتفال بالمرأة الشعبية المصرية في لوحاتها وكأنه جزء من وعيها بالظلم المزدوج على تلك المرأة في مجتمعنا.
لم تنتبه إنجي أفلاطون إلى ضرورة أن يكون الفن مستقلا عن السياسة إلا حين بلغت الستين من عمرها. حدث ذلك قبل أن تغادر الحياة بخمس سنوات. يومها كفت الرسامة عن النشاط السياسي وتفرغت نهائيا للرسم. ومن ثم لم يأت اعتزالها للسياسة سوى تعبير عن هذا الانطواء الميتافيزيقي الذي يجعل من الفنان شاهداً ناقداً ومشاكساً حتى في صمته.