من القاهرة ..ميسا جيوسي

الأربعاء 10 أبريل 2019 07:05 م / بتوقيت القدس +2GMT
من القاهرة ..ميسا جيوسي



صباح يوم ربيعي مشمس من ايام القاهرة الجميلة، تقودني قدماي المتثاقلتان نحوى المقهى الصغير الذي يتوسط شارع رقم تسعة في المعادي، مقهى صغير، يرتاده الكثير من سكان المكان وبعض من الاجانب، قيل لي بأن صاحبه كان يوناني الاصل وعرف بجودة قهوته وحفاوة ترحابه. وبينما أهم بالانعطاف يمنة نحو مدخل المقهى، تقع عيناي على طفل لا يتعدى الرابعة من عمره، يفترش ظل شجرة صغيرة بباب مقهى مجاور، يجلس يناظر المارين غير متسول ولا آبه بأحد. لا يضيره سيارة فارهة تمر به، ولا طفل آخر يمتهن التسول ليجاري قسوة الحياة التي زارته باكرا وتركته لمصير مجهول.
ناظرت الطفل الصغير وحين لاحظ انني أخصه النظر انفرجت شفاهه عن ابتسامة حين التقت عينانا، ووجدتني بلا شعور انقاد نحوه وانحني سائلة إياه، اسمك إيه؟ 
فرد بلا تردد: أيمن.
فأردف قائلة، هي ماما فين؟ لاعتقادي بأنه لوحده. 
فيشير الى باب بني اللون مقابل لنا، وما أن ارفع ناظري للباب حتى تظهر سيدة بقميص نوم قطني ابيض وغطاء رأس اسود تومئ لي بأبتسامة، فأبادلها واحدة ثم انظر ثانية للصغير قائلة: عايز تشتري حاجة حلوة؟
فقال بلا تردد: أيوة
فأجبت وهو فين المحل إلي يبيع حاجة حلوة؟
فأنتفض بسرعة مشيرا نحو باب المقهى الزجاجي، تعجبت قليلا،فمعرفتي أن هذا المكان يبيع المشروبات الساخنة، لكني بلا تردد امسكت بيده ودخلنا سوية الى المقهى، فسألته انت عايز ايه؟ ولم يتردد وهو يتجه نحو احد الارفف مشيرا الى ثلاث قطع من البسكويت غلفت سويا بشكل جميل، قائلا على استحياء: انا عايز دي.
فكان له ما أراد، وخرجنا من باب المقهى فركض نحو امه كمن يحمل بشرى عقبت شقاء، بصي بصي، وما كان من امه الا وان ترسم ابتسامة شقت بها الارض والسماء لفرحة الصغير وأومأت لي شاكرة.
واستدرت مستتمرة في المشي نحو قهوتي وفي رأسي ألف فكرة تروح وتغدو وهي تراوح سؤالا واحدا بصيغ متعددة: ايعقل أن تهب الحياة البعض هذا الشقاء، كذلك الصغير يناظر حلو الاصناف من خلف زجاج لا مع فلا يطالها حتى بحلمه؟ ولا يدرك لما يعجز والداه "بواب العمارة وزوجته" عن ان يشتريا له ما يحب. لكني هدأت من روع فكري الجامح قائلة: كلنا نرث من الحياة شقاءا كل بطريقته، وبقدره أيا اختلفت أشكاله.
فالوداع شقاء، والحب بلا وصال شقاء، والحاجة بلا مال شقاء، والجوع شقاء، والقهر شقاء، والذل شقاء، والمرض شقاء، والشوق شقاء، والعجز عن مساعدة من نحب شقاء...
فإن اقتنصت لحظة من الحياة غاب عنها الشقاء، فابتسم وسع الأرض والسماء، فالشقاء على البشر فرض لا انتقاء نراوغه ولا نستطيع منه فرارا.
دمتم عن الشقاء بعيدون،
من القاهرة 
ميسا جيوسي