إن حقوق الانسان ملزمة واجبة الاحترام والحماية، وإن الحق في الصحة من أسمى الحقوق التي كفلها القانون الدولي لحقوق الانسان، وعلى الرغم من الموارد الطائلة الواجب توافرها لإعمال هذا الحق الا أن العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، قدم في المادة الثانية منه، رؤية حول السبل التي يجب ان تسلكها الدول الاطراف لإعمال هذا الحق، والتدابير الواجب اتخاذها مهما كانت الظروف المالية للدولة الطرف، ومهما كانت مواردها شحيحة، من خلال الالتزامات التراكمية التدريجية، والاخرى الفورية التي تسعى هذه المقالة الى توضيحها
ولقد ورد مفهوم الالتزامات التراكمية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتي تنطبق على الحق في الصحة في عدد من المواثيق الدوليةوفي مقدمتها العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي سمح للدول الاطراف بالإعمال التدريجيللالتزامات،والسماح كذلك بإنجاز تحقيق هذه الحقوق بشكل تراكمي حيث نصت المادة الثانية من العهد على أن" تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد بأن تتخذ، بمفردها وعن طريق المساعدة والتعاون الدوليين، ولا سيما على الصعيدين الاقتصادي والتقني، وبأقصى ما تسمح به مواردها المتاحة، ما يلزم من خطوات لضمان التمتع الفعلي التدريجي بالحقوق المعترف بها في هذا العهد، وتتعهد الدول الأطراف بأن تضمن جعل ممارسة الحقوق بريئة من أي تمييز.
وحتى لا تتهرب الدولة من حجة عدم التوافر أوعدم القدرة، والاختباء تحت رخصة التطبيق التراكمي التدريجي، فقد اشترط القانون الدولي عدة شروط لصحة لقبول الإعمال التراكمي التدريجي للحق في الصحة وأول شرط هو أن تبذل الدولة كل جهد ممكن لتحسين التمتع بالحق في الصحة، واستعمال الحد الأقصى من مواردها المتوفرة، بما في ذلك الموارد البشرية والمالية واللوجستية، والتركيز على تشمل مظلة الموارد المتوافرةالفقراء والمهمشين والأقل حظاً، والشرط الثاني هو ان لا يتم تفسير الإعمال التدريجي التراكمي بأنه الحرية الكاملة في التصرف، بمعنى أن الاجراءات التي تقرها الدول لإعمال الحق في الصحة يجب ان تكون معقوله وخاضعة للرقابة.
وأن تكون الإجراءات معقولمعناه ان تكون سياسات الدولة مرشده،وتراعي القيام بتدابير التقشف في النفقات الحكومية التي لا تحظى بالأولوية مقارنة بالحق في الصحة- إن برامج الانفاق على قطاع الصحة مقدمة على برامج النفقات التشغيلية ونثريات الوزرات الرسمية.
ومن حيث يجب أن يكون التطبيق مراقباً فيمكن استعمال المؤشرات والمعايير لقياس مدى التقدمأوالتوقف أو التراجع في إعمال هذه الالتزامات، وربطها بمؤشرات الحق في الصحة التي تضمنتها اهداف التنمية المستدامة 2030 بصفتها المعايير الاكثر حداثة ومهنية للرقابة على الحق في الصحة،ويمكن الرجوع الى المؤشرات المرتبطة بالهدف رقم 3 من اهداف التنمية المستدامة.
أما فيما يتعلق بالنوع الثاني من الالتزامات وهي الالتزامات الفورية للحق في الصحة،فهنالك 5 التزامات مباشرة لإعمال الحق في الصحة مرتبطة به وهيعدم التمييز، واتخاذ خطوات فورية، وتجنب إجراءات تؤدي للتراجع، وتحقيق الحد الأدنى من الالتزامات الرئيسية، والقناعة الراسخة بأن جميع الالتزامات لا تخضع لتوفر الموارد والتحقيق التراكمي.
-
الالتزام الفوري الاول هو عدم التمييز، ويقصد بالتمييز الوارد في المادة 2 في كل من اتفاقية حقوق الاشخاص ذوي الاعاقة، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، أي تفريق أو إقصاء أو تقييد على أساس محظور، وله تأثير أو هدفإعاقة أو إلغاءالاعتراف والتمتع وممارسة حقوق الإنسان والحريات الأساسية في المجالات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، المدنية أو أي مجال آخر ، ويجب حظر التمييز المبني على العرق، اللون، الجنس، اللغة، الدين، السياسة، الرأي، المنشأ الوطني أو الاجتماعي، الملكية، المولد، أو الإعاقة أو أي وضع آخر كما تضمنته متون الاعلان العالمي والعهدين جميع اتفاقيات حقوق الانسان. ﺇﻥ الالتزام بعدم التمييز في تقديم الخدمة الصحية هو التزام فوري على الدولة ولا علاقة له بالموارد
-
الالتزام الفوري الثاني هو اتخاذ خطوات فورية حيث يجب تجهيز الخطط والسياسات وبرامج العمل، وتبني أو تعديل القوانين ذات الصلة بالحق في الصحة، وتخصيص البنود المكتوبة للموازنة وهذه جميعا التزامات غير مكلفة، ولا علاقة لها بالموارد، وعلى الدولة الدولة أن تقوم بتنظيم مبادرات تقييم الاجراءات المتخذة، وقياس أثر انشطتها وعرض النتائج في لقاءات على مستوى مشاورات وطنية لقياس مدى الوفاء بالتزامات الحق في الصحة، وتقييم الوضع الحالي للتمتع بالحق في الصحة ومراجعة القوانين والتشريعات، والمصادقة على خطةاستراتيجية، وخطة عملذات أهداف محددة زمنياً ونشاطات قابلة للقياس بشكلٍ واضح لغرض تحقيق تلك الحقوق وتبني السياسات اللازمة لتنفيذ الخطة
ومن المهم جدا إنشاء آليات تظلم على المستوى الوطني مثل آليات شكاوى المرضى والمتضررين من تدني مستوى الخدمات الصحية بشكل عام ( شكاوى التحويلات الطبية، شكاوى الفئات الخاصة مثل مرضى السرطان، الفشل الكلوي.. الخ)
-
الالتزام الفوري الثالث هو تجنب أي إجراءات تراجعي،فعلى الدول تجنب الإجراءاتالتي تؤدي إلى تراجع المستوى الراهن من التمتع بالحقوق حيث إن " الحركة للخلف“ فيما يتعلق بالحق في الصحة ممنوعة، وإن اية إجراءات نكوصيه متعمدة هو امر غير مقبول، وأي ربطلمزايا التمتع بالحق في الصحة للاعتبارات السياسية، او للفحص الامني أمر ممنوع، ويشكل خرقاً للالتزامات يوجب المساءلة والمحاسبة
-
الالتزام الفوري الرابع هو ضمان الالتزامات الأساسية،ويعني ضمانتوافر الحدود الدنيا الأساسية للحق في الصحة،ومثاله توفير الأدوية الضرورية كما هو محدد فيبرنامج عمل منظمة الصحة العالمية حول الأدوية الضرورية، ففي الوقت الذي يمكن تفهم عدم القدرة على توفير كافة الخدمات المقدمة لمرضى السرطان، الا انه لا يقبل تحت أي ذريعة عدم توفير تطعيمات الاطفال حديثي الولادة
-
الالتزام الفوري الخامس هو ضمان عدم خضوع جميع الواجبات لتوفر الموارد والتطبيق التراكمي ، ومثاله علاقةالحق في الصحة بالحق في تشكيل الاتحادات المهنية والنقابات الصحية والانضمام إليها بموجب المادة 8 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهذا الأمر يعتبر التزاماًفورياً من الالتزامات المبنية على الاحترام وعدم التدخل في الحقوق، ولا تعتمد على توفر الموارد.
إن الالتزام بضمان الحق في تشكيل أو الانضمام للاتحاداتالمهنية الصحية والطبية والتمريض، لا تتطلب موارد كبيرة ويجب احترامها فوراً.ومن حق ضحايا الحق في الصحة تشكيل ائتلاف لهم، وصفحات عبر منصات التواصل الاجتماعي ( هنا الحق في الصحة مرتبط بالحق في حرية الراي والتعبير).
الخلاصة: هناك نوعان من الالتزامات على الدولة الوفاء بهما فيما يتعلق بالصحة بصفته أحد الحقوق الاساسية الواردة في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الأول يمكن إنجازه بشكل تراكميوهو مرتبطة بتوفر الموارد، وهو مكنة، أو تفهم من القانون الدولي لحقوق الانسان للدول التي لا تستطيع، بين عشية وضحاها، أن تبني المستشفيات والمدارس، أو تقضي على الفقر والبطالة بشكل جذري، او توفر فرص العمل لمواطنيها، أوتنفذ برامج تحمي حقوق الاشخاص ذوي الاعاقة.. هذا صعب جدا على الدولة ان تقوم به فوراً، ولذك هي حقوق تدريجية يتم اعمالها بشكل تراكمي بشرط ان لا تسيئ الدولة فهم، أو تفسير، او تطبيق موضوع الاعمال التدرجي التراكمي للحق في الصحة وباقي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
والنوع الثاني من الالتزاماتهو فوري ذو تأثير مباشر يجب إعماله دون تأخير ولا علاقة له بتوافر الموارد من عدمه.