الرهان على سلام يدوم..!!حسن خضر

الثلاثاء 12 مارس 2019 12:11 م / بتوقيت القدس +2GMT
الرهان على سلام يدوم..!!حسن خضر



لا أعرف ما هي صفقة القرن. ولا أعتقد أن أحداً يعرف، وهذا يصدق على صاحب الصفقة نفسه، أي ترامب. ومع ذلك، هذا لا يعني عدم وجود خطوط عامة، وغائمة على الأرجح، لحل من نوع ما، جرى تداولها بين الإسرائيليين والأميركيين في المقام الأوّل، وبين هؤلاء وبعض العرب. أما العنوان الرئيس لهذا كله فيتمثل في فرضية أن ما يصح في سوق العقارات يصح في سوق السياسة، أيضاً، وأن لا شيء يستعصي على المال.
لذا، تُروّجُ، أو تتسرّب، من وقت إلى آخر، مجسّات وتفاصيل، ومنها أن هذا البلد العربي أو ذاك سيحصل على كذا مليار لعمل كذا وكذا. وهذا موضوع مقالة اليوم، التي تستهدف الذهاب إلى ما هو أبعد من التفاصيل. ونقطة البداية أن كلام المليارات يُحرّض على التفكير في أمر يبدو بعيداً في الزمن، ولكنه وثيق الصلة بما نحن فيه وعليه.
القصد أن كلام المليارات ينطوي على مسكوت عنه، وأن المسكوت عنه مسكون بدلالة لا ينبغي غض النظر عنها، أو التساهل في تفسيرها. فالمسكوت عنه، وسط كل هذه الضوضاء، والعواطف السياسية الملتهبة، أن الصفقة تعني "شراء" فلسطين، وأن في هذا المعنى ما يُعيدنا إلى ما يزيد على مائة وعشرين عاماً مضت. ففي أواخر القرن التاسع عشر، كانت فلسطين جزءاً من أملاك السلطان العثماني، الذي عرض عليه مؤسس الصهيونية السياسية، هرتسل، تسديد ديون السلطنة، مقابل تمكين اليهود من الهجرة إلى فلسطين.
ثمة الكثير من الأساطير حول هذا الموضوع، خاصة في أدبيات الإسلاميين، وأغلبها مُلفقة، والغرض منها النيل من القوميتين العربية والتركية وإعادة الاعتبار للخلافة دولةً وفكرة. وهذا لا يعنينا، الآن. كل ما في الأمر أن غواية "شراء" فلسطين كانت حاضرة في أذهان آباء المشروع الصهيوني، وأن السلطنة العثمانية، رجل أوروبا المريض في ذلك الزمن، كانت أبرز المرشحين للتفاوض معها على صفقة وثمن.
ولا يعنينا من هذا التاريخ سوى أن صفقة ترامب تعيد فكرة "الشراء" إلى الواجهة، ولكن من العرب هذه المرّة، وبأموالهم، وكأن مائة عام من الحروب، والخسائر المادية والبشرية الهائلة، والحلول المُجهضة، وما نجم عنها من حقائق جديدة على الأرض، بما فيها إسرائيل التي تسيطر على كل فلسطين الانتدابية، لم تُخرج غواية "الشراء" من المعادلة، ولا تبدو أحداث وتحوّلات قرن من الزمان كافية في نظر الإسرائيليين للاقتناع بأن مهمة إنشاء الدولة قد أُنجزت، وأن الانتصار قد تحقق، وأن ما يليه ينبغي أن يكون مشروع سلام يدوم.
حتى الأهبل يعرف أن صفقة ترامب تخلق من المشاكل أكثر مما تحل. ففي أغلى "عقار" على وجه الكرة الأرضية، نبتت فيه ثلاث ديانات كبرى، بما لها وما عليها، وتكدست فيه، وتكالبت عليه، على مدار قرون طويلة، إمبراطوريات وأحلام وأوهام، ثمة ما لا يُباع ولا يُشترى.
وحتى الأهبل يعرف أن في مُجرد أن يجد المُنتصر في تاجر عقارات من فصيلة ترامب شريكاً، وأن تتجلى شراكته معه في صفقة (مع كل ما في كلمة "صفقة" من إهانة للسياسة) لا في مشروع سلام يدوم، ما يدل على أن المنتصر لم يطمئن بعد إلى حقيقة انتصاره، ولم يصل، بعد، إلى تعريف محتمل للمرحلة النهائية في مشروع الدولة، الذي لا يعرف أحد، ومن هؤلاء المُنتصر نفسه، كيف ومتى يصبح كاملاً. 
قبل الخروج بخلاصة محتملة لكل ما تقدّم ثمة ما يستحق التفكير والتدبير. أعني إحساس الفلسطينيين بأنهم في وضع لا يُحسدون عليهم. فلم يكن العالم ضيّقاً عليهم، ولم يضق بهم، في يوم من الأيام كما يحدث الآن. ربما كان الوضع أفضل بقليل لو لم تصبهم كارثة حماس، ولو كان نظامهم السياسي أكثر ذكاء، وبنيتهم الاجتماعية أكثر تطوّراً. ومع ذلك هذه التفاصيل، على أهميتها، لا تغيّر من الصورة الكليّة.
والصورة الكليّة أن في مجرّد وجودهم الفيزيائي ما يُفسِّر لماذا لم يطمئن المُنتصر إلى حقيقة انتصاره بعد، ولماذا لم يصل، بعد، إلى تعريف مُحتمل لا للمرحلة النهائية، ولا للمشروع الذي لم يكتمل، بل ومع هذه وذاك، لمعنى وحدود الحرب والسلام. فلا الهزيمة نهائية، ولا الانتصار نهائي.
والصورة الكليّة أن نصف الشعب في أرضه، وعليها، وأن الشعب كله، وعلى الرغم مما فيه من علل وخلل، ليس كتلة فيزيائية خاملة، بل كينونة عضوية حيّة وحيوية لا تكف عن الحركة والحراك، ولا عن اجتراح أسباب وجودها وبقائها في ظروف استثنائية. وفي هذه الصورة، بالذات، ما يُفسِّر لماذا تعود فكرة "الشراء" بعد مائة عام، وكأن كل ما وقع من تحوّلات، وما أسفرت عنه من حقائق جديدة على الأرض، لم تنتقص من مكان ومكانة الفلسطينيين، ولم تغيّر الكثير في الحسابات الاستراتيجية الكبرى. لذا، ليس ثمة ما يدعو إلى اليأس.
ولنعد إلى الخلاصة. في العودة إلى غواية الشراء ما يدل على مأزق، وفيها ما ينطوي على أشياء كثيرة لن يكون السلام من بينها، بالتأكيد. وإذا كان في هذا ما ينفتح على سيناريوهات سوداوية كثيرة، فإن فيه ما يُحرّض، أيضاً، على التذكير بحقيقة أن في الصراع في فلسطين وعليها لا الانتصار نهائي، ولا الهزيمة نهائية. وربما في منطقة وسطى بين هذا وتلك يمكن الرهان على سلام يدوم.