صدر مؤخراً كتاب للأستاذ جهاد الزين بعنوان: «المهنة الآثمة - نقد تجربتي في الكتابة السياسية». وكأن الزين، أراد من كتابه هذا، أن يكون فصلا ختاميا، في مسيرته الصحافية الجريئة والغزيرة، وهي غزارة نتعب أحيانا في متابعتها. في وقت تنهار فيه الصحف الورقية في لبنان، وتتساقط تباعا، وآخرها صحيفة المستقبل.
فبعد أكثر من 46 سنة في مهنة الصحافة، يكتب جهاد الزين عن المهنة نفسها من خلال تجربة غنية ومديدة في العمل بين جريدة السفير، وجريدة النهار.
هذا الكتاب كما يقول جهاد الزين في تقديمه: «لا يمت بأيّ صلة إلى كتب تجميع مقالات منشورة سابقاً، وليس هو طبعاً كتاب مذكرات. فكما خططت له وكتبته، وأرجو أن أكون قد نجحت، كل شيء يبدأ وينتهي بمعضلات النص السياسي، من الوقائع إلى المعلومة إلى الفكرة المسبقة واللاحقة إلى التحليل إلى التوقيت» - رغم أن هناك مقالات ما زلنا نستطيع إعادة نشرها كل يوم، دون أن نشعر بالرتابة وأنها أصبحت خارج التاريخ، مثل: مقالة «في الطريقة» لديكارت، ومقالة «في الميتافيزيقيا» للايبنتز، ومقالات الشباب لهيغل، ومقالة «نهاية التاريخ» لفوكوياما، و»صراع الحضارات» لهنتنغتون.
كتاب «المهنة الآثمة» هو كتاب كاشف، ومؤسس، ويتضمن تسعة فصول هي: اللامقال.. انشقاق اللغة واشتقاق السياسة، الارتياب، نص الفساد وفساد النص، النص المحرَم، نذالة النص ونص النذالة، ماذا يريد هذا القارئ، هل القارئ هو القارئ؟ اليومي يهاجم التاريخي، وقائع الواقعة الواحدة، تهويد كتاباتي السياسية.
ونقرأ هذه الكلمات على الغلاف الأخير: «السياسة لا تصنع التاريخ فقط، في مراحل أخرى هي نفسها التي تزوره... والمحلل السياسي يراوح دائما بين دورَي المزور، من دون إدراك في العديد من الأحيان، والساذج، إذا لم يمتلك إرادةَ الانتباه والتوازن والعناد...».
في هذا الكتاب يأخذنا الزين في رحلة ممتعة ومتعبة...، يقف على ربوة عالية، يرنو إلى الحقل الذي أمضى فيه حياته، يفكك ويركب، ويقرأ تجربته بصوت مرتفع وبأسلوب «جهادي» يخلط السياسة بالأدب، والعام بالخاص بلغة عربية يعمد إلى النحت فيها، اشتقاقاً وانشقاقاً كي يوصل فكرته.
يتحدث جهاد الزين عن الامتحان الصعب الذي يتعرض له الكاتب الصحافي، إذ يضع نفسه يومياً تقريباً أمام قراء ليسوا فقط صعابا بل غير معنيين أحيانا.
ومن هذه المسألة تحديداً يتحدد حجم الكاتب والمعلق السياسي الباحث عن السباحة في مياه قليلة أو حتى جافة نتيجة شعوره بقوة الخبر وهبائه في الوقت عينه، أي تبدده.
جهاد الزين المثقف الديمقراطي اليساري، نراه يجاهر بانحيازه للجيش المصري، الذي تسلم القيادة بعد ثورة 30 يونيو، معتبراً أن الجيش المصري كان دائما صخرة الأمان في مصر - طبعا - ويرى أن حكم الإخوان المسلمين بعد فترة حكم مبارك لمصر كان فترة سيئة للغاية، وأن فترة رئاسة مرسي لسنة أيقظت في شباب مصر المتعلمين ثورة على منهجية الإخوان.
وهو لا يجد أن الحل دائما يتمثل في الديموقراطية بل هو يشكك في الأصول المعتمدة للتمثيل الديموقراطي.
ويعتبر الزين في الفصل المعنون «انشقاق اللغة واشتقاق السياسة» أن السياسة هي رصد مصائر السلطة والسياسيين.
ثم يقول إنه نجح خلال عمله في البقاء على مسافة من السياسيين اللبنانيين، لأن مهنة المعلق والكاتب السياسي غالبا ما تورطه، في علاقات مع رجال السلطة الذين يعتبرون مصادر معلومات للصحافيين. لكن جهاد الزين يعتبر نفسه أكثر من معلق وكاتب سياسي، بل هو معلق حول الثقافة السياسية والاجتماعية.
ويستطرد الزين بأنه لاحظ وجود «مقالين» في معظم الكتابة السياسية العربية، واحد في المجال العام، بما كُتب، وآخر خفي لم يُكتب.
تفسير الزين لهذا الوضع المرتبك: علاقة الكاتب بالسلطة وأسيادها. ويعمم أن لا فرق بين كاتب كبير وكاتب تافه، متى ما تدنى سقف الحريات في المجتمع، أو ساد الإرهاب الفكري.
فإن أي مقال له ظاهر بيِّن، ومستتر مختبئ! حيث يتصور الكاتب العربي وهو يكتب، أصحاب النظارات السوداء الذين لا يراهم القارئ، ولكن يراهم الكاتب، ويتجول بينهم افتراضياً، يتحالف معهم داخل «النص»، كل هذه الملحمة، يقول الزين إنها تجري داخل رأس الصحافي، وتبعث بموجاتها القوية أو الخفية إلى أصابعه، فيحرك بها قلمه، أو أزرار كومبيوتره! - محمد الرميحي -.
ويناقش جهاد الزين «النص المحرم»، خاصة مع صعود الخطاب الديني من جهة، وكثرة رعاة الرصاص الصامت بين الحاكمين. فكيف يتصرف الإعلامي ودمه «مباح من قوى مجتمعية من تحت وقوى سلطوية من فوق»؟ بحيث تملي هذه الضغوط المهددة رقابة «ذاتية» على الكاتب.
جهاد الزين في نظري سيد في الابتكار. كنت أرى في كل مقال جديد ينشره، فكرة متميزة.
كنت أحس أن هذا التمايز يتعزز دائماً بقدرته الفائقة على توظيف عوامل عدة بشكل متضافر لطرح الموضوع ومعالجته. من هذه العوامل: اختياره للعنوان، وانفتاحه على تطوّر اللغة واشتقاقاتها، والجرأة، واستيعاب المتجدد من وسائل التواصل، ومواكبة الأحداث بالدقة المتناهية، والمشاركة الميدانية بالسفر وحضور اللقاءات والمقابلات – رغيدة النحاس -.
واجه الزين بارتياب قضايا إشكالية له، كإنسان وككاتب صحافي: «الحرب اللبنانية، اتفاق أوسلو، صعود الشيعة في لبنان على أكتاف حزب الله، الحرب السورية»، فخرج من خطابه اليساري ليدرك خطورة الحرب على لبنان، وخرج من إرثه العروبي، وهو حفيد لأحد حماة التيار العروبي وتنظيماته، ليرى إيجابية أوسلو ويؤيده، وخرج من شيعته، وهو من عائلة أعطت لنيل الشيعة حقوقها الكثير، ليرى خطر هذا الصعود وخطر الشيعية السياسية، وخرج من حسه الديموقراطي المرهف ليرى خطر عسكرة الثورة في سورية.