أزمة غياب الحل الحضاري للصراع الفلسطيني الاسرائيلى..د. عبير عبد الرحمن ثابت

السبت 23 فبراير 2019 10:55 ص / بتوقيت القدس +2GMT
أزمة غياب الحل الحضاري للصراع الفلسطيني الاسرائيلى..د. عبير عبد الرحمن ثابت



بعد 70 عاما من الصراع الفلسطينى الاسرائيلي يتضح في الأفق بأن فرص حل هذا الصراع تكاد أن تكون معدومة؛ وبالرغم من اعتقاد البعض بأن التسوية التى تروج لها الادارة الأمريكية قد تمثل بصيص أمل فى هذا الصدد؛ إلا أنه من الواضح أن مصيرها لن يختلف عن مصير سابقاتها من مشاريع الحل إلا فى مزيد من التعقيد لهذا الصراع؛ كونها تنتهج نظرية حل تعتمد فى الأساس على نتائج الأمر الواقع الذى فُرضته اسرائيل على الأرض على مدار سبع عقود من الزمن فى هذا الصراع.

وهذا الإخفاق أساسه أن مشكلة الصراع الفلسطينى الاسرائيلي الأساسية تكمن فى أبعاده المتشعبة؛ والتى بمقدورها أن تغطى فى تشعبها كافة أبعاد الصراعات الانسانية الراهنة بل وأبعاد الصراعات الانسانية على مر التاريخ الإنساني، فالصراع الفلسطينى الاسرائيلى هو نموذج جامع للصراعات الانسانية السياسية والاقتصادية والقومية والعقائدية والحضارية والمحلية والإقليمية والدولية؛ فثمة وجه ستراه واضح فى هذا الصراع لكل تلك الجوانب من الصراعات الإنسانية؛ وبالتالى فمن العبث أن يكون حل هذا الصراع معتمدا على وجه واحد من جوانبه؛ وتلك هى المعضلة التى واجهت كل مشاريع الحل على مدار سبع عقود؛ لأنها ركزت على الجانب السياسي من الصراع؛ وهو وإن كان أكثر جوانبه ظهورا إلا أنه  فى الحقيقة أقل الجوانب الفاعلة فيه، لذا تبدو محاولة الإدارة الأمريكية اليوم بزعامة دونالد ترامب فى نظر الكثير من قادة العالم؛ وفى نظر جل المفكرين السياسيين بمثابة تهريج سياسي كونها تطرح حلا للصراع الفلسطينى الاسرائيلي بمسمى صفقة؛ وهو ما يعكس عمق ضحالة الفكر السياسي لهذه الادارة الشعبوية.

والاقتراب من حل هذا الصراع يحتاج بالأساس من العالم إلى إعادة النظر وبعمق فى أبعاد هذا الصراع بصورة تختلف عن الصورة التقليدية السائدة؛ كما أنها تتطلب من الطرفين الاسرائيلى والفلسطينى إدراك أنه من المستحيل أن يكون حل هذا الصراع بقضاء طرف على الأخر؛ وحتى لو حدثت كارثة طبيعية وقضت على كل سكان فلسطين التاريخية؛ فإن أبعاد هذا الصراع القومية والعقائدية ستكون كفيلة بإيجاد نسخة أخرى مطابقة له على هذه الأرض خلال سنوات معدودة.

ومن هنا من الخطورة بما كان انحدار هذا الصراع نحو الحدة والتطرف؛ وأفضل السبل للاقتراب من حل هذا الصراع تكمن في إيجاد شكل ما من التعايش الانساني العادل بين الطرفين؛ ولما كانت اسرائيل هى الطرف الأقوى فى هذا الصراع فان الدور الاساسي يقع عليها فى هذا الصدد؛ ولإمكانية التعايش بسلام يجب منح الفلسطينيين حقوقهم التي كفلتها المواثيق الدولية؛ ولكن ما نلمسه مغاير لذلك بل على العكس فإن المجتمع الاسرائيلى ينحو بمزيد من التطرف نحو الصهيونية القومية  اليمينية؛ بحيث أصبحت الخارطة السياسية الاسرائيلية تخلو تقريبا من اليسار المعتدل لصالح اليمين؛ وذلك وسط خلو الساحة من أى تأثير لأولئك السياسيين الانسانيين الذين يؤمنون بالتطور الحضارى الانسانى التاريخي لأنظمة الحكم السياسي.

وما نتابعه اليوم فى خارطة الأحزاب السياسية فى اسرائيل فهي فى الحقيقة فاقدة لأى رؤية لحل الصراع؛ وأكثر ما بمقدورها فعله هو ادارة الصراع نحو مزيد من تعقيد أى حل انسانى حضاري عادل له؛ وهذا مؤشر خطير على مستقبل هذا الصراع ينذر بمستقبل مأساوي لتطوراته إذا ما وقف العالم مكتوف الأيدى متفرجا رافضا لتحمل مسؤوليته التاريخية ومتجاهلا لحقيقة ثابتة فى أن بقاء هذا الصراع دون حل هو دليل قاطع على قصور سياسى عميق فى منظومة العدالة الدولية كما أنه دلالة على قصور حضارى انسانى عميق فى السياسة الدولية.

وأمام قتامة هذا المشهد اليوم فإن حل هذا الصراع منوط بالأساس بخروج جيل فى اسرائيل أقل  قومية وصهيونية وتطرف وأكثر حضارة وانسانية مشابه للجيل الذى بدأ بالظهور فى الولايات المتحدة بين اليهود الأمريكيين؛ وفى المقابل وعلى الطرف الآخر ظهور جيل فلسطينى مدرك للتطور الحضارى الانسانى على الصعيد الثقافى والفكرى والسياسى؛ وقادر على تبنى رؤية أعمق للقضية الفلسطينية تتعدى القومى والعقائدى لتصل للبعد الحضارى الانسانى عبر تعميق المشتركات الفكرية والسياسية بين الفلسطينيين والعالم الحر؛ وذلك لتثبيت وتفعيل الجانب الحضارى والانساني لعدالة القضية الفلسطينية؛ وهو الوجه الذى لم نوليه كفلسطينيين الاهتمام المطلوب على الرغم من أنه أحد أهم الأوجه الفاعلة والمؤثرة فى الصراع؛ والتى تميل فيه كفة الميزان لصالح الفلسطينيين وبقوة، وظهور هذا الجيل لدى طرفى الصراع هو الذى سيقرب من إيجاد حل لهذا الصراع.

وعلى كل محبى السلام ودعاته والدول التى ترى فى إحلال السلام فى فلسطين التاريخية مصلحة لها أن تدفع فى ظهور هذا الجيل؛ وهذا لا يتأتى إلا بإقرار العدالة الانسانية كمنهج للتعامل مع الصراع الفلسطينى الاسرائيلي بكل أوجهه المتشعبة وصولا إلى الحل الانساني الحضارى العادل؛  فالسلام الحقيقي هو السلام المبني على العدالة، ومن هنا وحتى يدرك العالم تلك الحقيقة سيكون على أجيال عديدة دفع ضريبة باهظة لمشاريع تسويات عبثية فاشلة على غرار صفقة القرن والتى  لن تؤدى إلا إلى صب مزيد من الزيت على النار.

أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية

Political2009@outlook.com