عرف عن الأدب مستوى ما من الخيال والحلم والمبالغة، ومن يعنيه من ابتعاد عن الواقع في تصوير قيم الجمال والقبح، القوة والضعف، الشجاعة والجبن، العدالة والظلم، الصدق والكذب، السواء والمرض، التقدم والتخلف .. الخ. ان اي مقارنة بين سرد علاء الأسواني عبر شخصياته في روايته الحديثة جمهورية كأن، وما جرى في الواقع لا يجد صاحب المقارنة اختلافاً كبيراً، ما يضفي على الرواية مستوى من الواقعية والموضوعية بعيداً عن الخيال والتصنيع الأدبي، وان كانت أحداث الرواية قد ترقى الى الخيال من فرط التوحش وقلب الحقائق عندما تترجم الى لغات عالمية. كما ان القوالب الفنية للرواية لا يمكن ان تنعزل عن نبض الناس الذي اقترب منه الأسواني بل كاد يتوحد معه وينطقه مقترباً اكثر فأكثر من الحقيقة.
ما أن بدأت بقراءة «جمهورية كأن» لم التقط أنفاسي، وواصلت القراءة بحثا عن إجابة أقرب إلى الإقناع، على سؤال، لماذا هُزمت الثورة المصرية والثورات العربية الأخرى؟ وبالقدر الذي كان فيه التشويق جاذبا وهو يقدم أفضل ما عند المصريين الذين قدموا تضحيات كبيرة من أجل الخبز والكرامة والحرية والديمقراطية، بقدر ما كان فيه الترويع صادما ومحبطا وهو يقدم أسوأ ما لدى النظام وحلفه المقدس من ظلم وتعسف وتزوير.
ثار المصريون على واقع مرير متعدد الأوجه، يقول احد المشاركين «أنا اسمي حسن من الاسماعيلية خريج علوم، وبقى لي عشر سنوات عاطل ما عنديش أمل في أي حاجة، لا زواج ولا عمل ولا سفر، أنا جيت الليلة وقدامي خيارين، أشيل حسني مبارك او أموت، أنا مش خايف من الموت أنا ميت فعلا. أسماء معلمة اللغة الانجليزية التي تبذل مجهودا كاملا في شرح الدروس، ولم ترسب تلميذة واحدة في صفها، لكنها قوبلت بتهديد ناظر المدرسة الذي قال لها «إذا لم تغيري طريقتك في التدريس فسأعاقبك، أحست أسماء بالظلم والمهانة وتساءلت، في أي بلد في الدنيا يعاقبون الإنسان على نجاحه؟! إكرام أرغمت على الزواج من شيخ خليجي وهي بعمر 16 عاما، مقابل ألوف الجنيهات، وطلقت وزوجت من خليجي آخر بمبلغ اقل، وفي المرة الثالثة هربت من البيت وتزوجت مكوجي مدمن وعملت خادمة. مازن المهندس عضو اللجنة النقابية في مصنع للاسمنت المدافع عن حقوق 6 آلاف عامل ضد الإدارة الإيطالية التي تسرق العمال وتستغلهم وتستعين بالأمن المصري لقمعهم. اشرف، المثقف الذي اكتشف الفساد والواسطة والتلاعب والكذب في الوسط الفني، وسط نفاق اجتماعي. خالد الطالب الفقير في كلية الطب الذي اكتشف «أن الاخلاق من دون دين أفضل من الدين بلا أخلاق»، ابوه مدني يبدأ يومه فجرا وحتى يدخل فراشه آخر الليل، يعمل بضراوة لا يكل ولا يمل، هدفه الوحيد تأمين لقمة العيش لعائلته وتعليم أبنائه. دانية زميلة خالد في كلية الطب وبنت اللواء في الامن، التي اكتشفت أن رجل الدين الشيخ شامل الذي ينظم لقاءات دينية في بيتهم لا يتكلم عن مشاكل الناس الحقيقية، وهو شخص فاسد له اربع زوجات وفيلة من اربعة أدوار وعربات فارهة، وينصح دائما بتعدد الزوجات، وله قناة الصراط الفضائية. واكتشفت ضباط الامن الذين يعذبون ناس ابرياء، وكان من بين ضحاياهم الشهيد خالد سعيد. د. عبد الصمد الاستاذ في كلية الطب الذي تجاوز السبعين وجاء عارضا خدماته على الثورة. هؤلاء وغيرهم اكتشفوا ان كل مشكلة من مشاكلهم ومشاكل المجتمع هي من صنع وافراز النظام، وأن حل تلك المشاكل بات مرهونا بتغيير النظام. وبدؤوا يعملون من أجل ذلك، فأسسوا حركة كفاية و6 يناير وغيرها من اللجان العمالية والمهنية والنسوية، ونزلوا الى الشوارع، كانوا يعتقدون ان موعد الشعب مع الثورة يقترب، وتلك كانت مقولة والد المهندس مازن الذي قضى في السجن 10 سنوات وطرد من عمله ولم يتغير شيء في مصر، ورغم ذلك ان مصر ستنتفض. جاؤوا من كل مكان صعايدة ونساء وشبان وشابات برجوازيون وفقراء عمال وفلاحون وطلبة، جاؤوا الى ميادين التحرير في المدن الكبرى. استيقظت مصر وأخرجت أفضل ما في المصريين، اخرجت النبل الذي كان مختبئا خلف ركام الاحباط واليأس. جاؤوا منتفضين ضد التعصب الديني، والظلم، واجرام السلطة وقتل الابرياء وتزوير الطب الشرعي، وخضوع النيابة لإرادة الامن، جاؤوا ليبنوا مصر الجديدة. جاؤوا ليحطموا مقولات: ان المصريين إما فاسدون وإما جبناء، الشعب خاضع بطبيعته للسلطة، شعب يعتبر ملوكه ورؤساءه آلهه ينبغي الإذعان لها، وشعب يتبنى الثقافة الدينية التي تطالب بإطاعة الحاكم، والشعب يحس بالأمان عندما يخضع للاستبداد، والشعب لا يستطيع تقرير مصيره بنفسه، وعمر المصري ما فكر في اي شيء اكثر من الأكل والعيال والكرة والجنس. هذه المقولات هي الثقافة التي يحاول النظام الفاسد نشرها وتحويلها الى ثقافة سائدة.
ما ان بدأت الثورة في تفكيك ثقافة الخنوع المعززة بقمع أجهزة الأمن والمؤسسة العسكرية، حتى بدأ الهجوم المضاد الذي وصفه علاء الاسواني بدقة ومهنية. بدأ الهجوم المضاد تحت عنوان المؤامرة التي تستهدف الدولة المصرية، وان المنتفضين عملاء مأجورون قبضوا الاموال. وتم وضع المصريين أمام خيارين لا ثالث لهما، إما تأييد المؤامرة وما يترتب على ذلك من فوضى وفقدان المواطن للامن والأمان، وإما الدفاع والوقوف مع الدولة. استهدف الهجوم اول ما استهدف رموز ميادين التحرير واهم النشطاء بالقتل والاعتقال، لكن استهداف النساء والشابات المشاركات بالقهر احتل اهتماما اكبر، وكان فحص العذرية الذي تعرضت له العديد من النشيطات، يحمل معاني رمزية فعلت فعلها، ووجهت طعنة غادرة للحرية التي تفقد مضمونها بكسر إرادة رموز الحرية وبخاصة من النساء. استهدف قهر النساء الى إطفاء اللحمة بين نصفي المجتمع. تقول أسماء بعد اعتقالها. كنت محطمة تماما جسديا ومعنويا، لماذا هذا الكره الذي نراه على وجوه الضباط،؟ انهم يكرهون ما نمثله، ونحن نطالب ان نكون مواطنين لا عبيداً. يكرهون الثورة ويريدون للشعب ان يعيشوا في جمهورية كأن، يعيشون في مجموعة أكاذيب، كل شيء في مصر كاذب ما عدا الثورة. الثورة وحدها هي الحقيقة. وعندما فجرنا الثورة كرهونا من أعماق قلوبهم. وحولونا مرة أخرى الى ولا حاجة .