لم يكن دافع المساعدات المالية الأميركية المقدمة للفلسطينيين إنسانيا، ولكنه سياسي هدفه تخفيف كلفة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
الثلاثمائة مليون دولار التي كانت تقدمها أميركا لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) سنوياً، كان هدفها عدم إيصال مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين لمرحلة يكون فيها خيار الموت والحياة متساويين، وهي اللحظة التي يندفع فيها عشرات الآلاف من هؤلاء لقتال إسرائيل.
وهذا أيضاً هو نفس السبب الذي كان وراء عمل مؤسسة "يو اس ايد" في الضفة وغزة وإنفاقها مئات الملايين من الدولارات على مشاريع البنية التحتية، حيث أنفقت هذه المؤسسة في العام 2016 وحده 319 مليون دولار في غزة والضفة.
وهو أيضا نفس السبب الذي كان يدفع أميركا لتقديم مساعدات مالية للسلطة الفلسطينية تصل قيمتها إلى 200 مليون دولار سنويا، منها 61 مليون دولار تذهب غالبيتها لتدريب الأمن الفلسطيني في الأردن.
لذلك لم تكن إسرائيل راضية عن قطع المساعدات الأميركية لوكالة الغوث، رغم رغبتها في إغلاق ملف اللاجئين، لأن ذلك يعمل تماما ضد مصالحها، وهذا أيضا، على الرغم من أن الهدف الأميركي، كما عبر عنه ترامب عشية قطع مساعدات الأونروا، هو إجبار الفلسطينيين على العودة للمفاوضات بعد إسقاطه لملف القدس منها.
هذا الموقف المتناقض بين إسرائيل التي تريد استمرار المساعدات الأميركية وبين إدارة ترامب التي تريد استخدامها كورقة للضغط على الفلسطينيين وإملاء شروطها عليهم، سمح باستمرار المساعدات المالية المقدمة للسلطة حتى وقت قريب.
لكن بحلول نهاية العام الماضي، تمكنت مؤسسة قانونية إسرائيلية تسمى "شورات هادن"، وتنتمي كما يبدو من موقعها الالكتروني لليمين الإسرائيلي المتطرف، من "إقناع" أعضاء الكونغرس الأميركي بتمرير قانون سُمِي "توضيح مكافحة الإرهاب" وهو القانون الذي صادق عليه الرئيس الأميركي نهاية الشهر الماضي، والذي أعقبه قرار السلطة برفض المساعدات الأميركية.
القانون في جوهره يتيح للمحاكم الأميركية استخدام الأموال المقدمة من حكومتها للسلطة الفلسطينية لتعويض ضحايا "الإرهاب" في قضايا رفعها وكسبها ذوو الضحايا على السلطة.
اللافت للانتباه هنا أربع قضايا:
أولاً، أن مؤسسة إسرائيلية صغيرة الحجم اسمها "شورات هادن" عدد طاقمها القانوني ستة أفراد تمكنت من ممارسة الضغوط على الكونغرس وإقناع غالبية أعضائه بأهمية إقرار هذا القانون رغم أن حكومة إسرائيل لا تريده.
لا أحد يعرف ماذا كان العرب يفعلون عندما كانت الضغوط تمارس على أعضاء الكونغرس رغم أن لهم العديد من جماعات الضغط في أميركا.
ثانيا، أن الكونغرس بأعضائه من الحزبين الجمهوري والديمقراطي يتعامل مع إسرائيل كبقرة مقدسة ولا يجرؤ حتى على نقاش ما يقدم له من قرارات من قبل كل من يدعي أنه يقوم بحمايتها وإنما يقوم فقط بالمصادقة عليها، وكأن لأدعياء حماية إسرائيل وصاية عليهم وعلى قراراتهم.
من المؤسف أن تهين دولة عظمى نفسها بهذه الطريقة وأن يتحول مجلساها التشريعيان ورئيسها إلى مجرد "خدم" لدولة الاحتلال يمارسون من خلاله "التطرف" الذي يصل أحيانا إلى حد المزايدة على أكثر الإسرائيليين تطرفاً.
ثالثاً، أن الإسرائيليين والأميركيين الرسميين قد وجدوا أن هذا القانون سيتسبب في تعريض الأموال المقدمة لمساعدة الأجهزة الأمنية الفلسطينية للخطر وبالتالي سيلحق الضرر بمصالح إسرائيل.
الطرفان، الإسرائيلي والأميركي يقولان إن الأموال المقدمة للأجهزة الأمنية الفلسطينية هي لغايات التدريب وبالتالي الضرر من وقفها لن يظهر سريعاً في أداء هذه الأجهزة، ولكنه سيظهر في المدى البعيد.
لمنع التدهور في أداء الأجهزة الأمنية، بسبب وقف التمويل، يبحث الطرفان عن آليه لتعديل قانون "توضيح مكافحة الإرهاب" بطريقة تمكن الإدارة الأميركية من تحويل مبلغ الـ 61 مليون دولار لأجهزة الأمن الفلسطينية دون أن يكون هنالك خطر في وقوعها فريسة لمطاردات رافعي القضايا على السلطة الفلسطينية بافتراض مسؤوليتها عن وقوع ضحايا في صفوف الإسرائيليين.
رابعاً، المسعى الأميركي الإسرائيلي يفترض ضمنا بأن السلطة الفلسطينية ستقبل الأموال للأجهزة الأمنية في حالة إيجاد المخرج القانوني لحماية هذه الأموال أو في حالة تعديل القانون للخروج من مأزق وضعهم فيه عدد من غلاة متطرفي إسرائيل وكونغرس فاقد لعقله عندما تتعلق المسألة بإسرائيل.
وهنا نصل لبيت القصيد: السلطة التي أعلنت رفضها لتلقي الأموال الأميركية بعد صدور قانون "توضيح مكافحة الإرهاب" عليها ألا تسمح لأميركا بتجزئة وحصر الأموال الأميركية المقدمة لها في موضوع "الأمن".
وعليها أكثر من ذلك أن تربط قبول أي مساعدات مالية مباشرة أو غير مباشرة مثل التدريب لأجهزتها الأمنية بأن تعيد أميركا صرف مساعداتها السنوية لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين. هؤلاء بالقطع أكثر شرائح المجتمع الفلسطيني حاجة للمساعدة.
السلطة تعلم، مثلما يعلم كل فلسطيني، أن الهدف من الدعم الأميركي لأجهزة الأمن الفلسطينية هو حماية إسرائيل وليس الفلسطينيين، وبالتالي يجب ألا نخدع أنفسنا بادعاء أن هذه الأموال الأميركية هي لتطوير المؤسسات الفلسطينية.
ولأنها كذلك فإن القبول بها يجب أن يكون مشروطاً بتقديم الأميركيين شيئا ما مقابل ذلك للفلسطينيين.
ولا أقل، والحديث هنا يدور عن المال، من أن تعيد أميركا مساهماتها المالية السنوية لوكالة الغوث ولموازنات الوكالة الأميركية للتنمية العاملة في الأراضي المحتلة.
بالطبع، كل ذلك غير ممكن الآن دون إدخال تعديلات على القانون تجيز صرف هذه الأموال دون المساس بها من قبل المحاكم الأميركية.
لكن إن تم إدخال تعديلات على القانون فإن عليها أن تكون تعديلات شاملة لا أن يتم حصرها في "الأمن" حتى يكون هنالك مبرر للسلطة الفلسطينية لقبول الأموال الأميركية مجدداً.