شكّل خطاب بيني غانتس، رئيس هيئة الأركان الأسبق لجيش الاحتلال، الذي ألقاه في افتتاح الحملة الانتخابيّة، خطوة إضافيّة على طريق محو الفلسطينيّ كليًا من السياسة الإسرائيليّة. فعلى الرغم من أن غانتس ذكر كلمة "سلام" في خطابه، وهي كلمة باتت في عداد الكلمات النادرة في السياسة الإسرائيليّة، إلّا أنه موضعها في إطار "سلام إقليميّ"، وهو ما يعني فلسطين كجزء من سلام عربيّ شامل الهدف منه تطبيع إسرائيل في العالم العربيّ دون الحقوق الوطنيّة الفلسطينيّة، وحل القضيّة على أساس سيادة ودولة، وهو ذات الهدف الذي يطرحه نتنياهو عمليًا. أمّا المرّة الثانية التي ذكر فيها ما يتعلّق بفلسطين والحالة الفلسطينيّة، فكان تذكير الرأي العام الإسرائيليّ بأنّه هو من اغتال الجعبريّ، وتهديد قادة حركة "حماس" بالاغتيال.
بكلمات أخرى، جاءت فلسطين في خطاب غانتس، بطريقة غير مُباشرة مرتين: الأولى كانت "سلامًا إقليميًّا" تبعها تصميمه على غور الأردن بأنّه الحدود الشرقيّة للدولة اليهوديّة، ما يعني سلامًا دون سيادة على الحدود، وتكريس القائم اليوم، واستمرار سياسة السيطرة الأمنيّة على كافة الأراضيّ الفلسطينيّة، حيث حددها بمقولة "الأمن في كُل أرض إسرائيل". أمّا المرّة الثانية فكانت تهديد قيادة فلسطينيّة بالاغتيال، فضلًا عن تأكيد "وحدة القدس" والبناء الاستيطانيّ في الضفّة الغربيّة، وهو ما يفتّت الفوارق السياسيّة بالنسبة إلى الفلسطينيّ، ما بينه وبين نتنياهو والليكود عمومًا.
كما افتتح غانتس حملته الانتخابيّة بفيديو تتصاعد فيه أرقام شهداء فلسطين، الذين تبيّن لاحقًا أن 80% منهم هم مدنيون بحسب الصحافة الإسرائيليّة ذاتها. أمّا بالنسبة إلى اللون العسكري الذي اختاره غانتس، فإنه دلالة على قدسيّة الجيش، وهو ما يلتقيّ مع خطابه بالأمس: الوحدة مُقابل التفرقة، حيث من المعروف إسرائيليًا، أن الجيش هو أداة الصهر الأولى للمُجتمع على طريق إنتاجه وتناغمه كمجتمع عسكريّ استعماريّ.
جاء الخطاب، الذي قلّص فيه غانتس من فرص نتنياهو في وصفه بالـ"يساريّة" عبر تبنّي مواقف يمينيّة مُتطرّفة وعسكريّة وتوحيديّة اجتماعيًا، ليرفع من عدد المقاعد التي يحصل عليها وفق الاستطلاعات من 15- 16 مقعدًا، إلى 24-25 مقعدًا على حساب "يوجد مُستقبل" بزعامة يائير لابيد التي تناقصت قوّتها إلى 11- 12 مقعدًا و"حزب العمل" الذي تراجع إلى 7 مقاعد فقط.
أمّا في السباق على رئاسة الحكومة، فللمرّة الأولى يتساوى غانتس ونتنياهو في نسبة الذين يرون في كُل منهما رئيسًا للوزراء. وهذا ما يُعد التقدّم الأساسيّ في الحالة السياسيّة الإسرائيليّة، إذ هذه هي المرة الأولى منذ دورتين انتخابيّتين، التي يبرز فيها مُنافس لنتنياهو في الاستطلاعات، ويساويه في التأييد وفق الاستطلاعات. وطبعًا، لا يُمكن التغاضيّ عن أهميّة الدور الذي يلعبه الإعلام في الترويج لغانتس كبديل لنتنياهو، الذي يمقته الإعلام الإسرائيليّ ويصطف في كُل انتخابات ضدّه على أمل تغييره. فبالإضافة إلى أن القنوات جميعها بثّت خطاب غانتس مُباشرة في ساعة الذروة، فإنّها لا تزال بعد يومين على الخطاب، تُحلّل وتهلّل ولا تُزيل صوره والمقالات عنه من على صفحاتها الأولى ورقيًا، والرئيسيّة إلكترونيًا.
بديل عن الفساد والملكيّة، واستمراريّة للقتل والإبادة الجماعية
أطلق غانتس حملة الانتخابيّة رسميًا، أمس الأول الثلاثاء، إلى جانب موشيه يعالون، وزير الأمن السابق، الذي انضم إليه وضمن ثلاثة مقاعد من المقاعد العشرة الأولى المضمونة نسبيًا لقائمة غانتس حسب الاستطلاعات التي تمنحه بين 24-25 مقعدًا في الكنيست المُقبلة. وبالإضافة إلى يعالون، يُضيف غانتس إلى قائمته اثنين من أبرز الوجوه اليمينيّة: تسبي هاوزر، سكرتير حكومة نتنياهو السابق؛ والصحافي اليمينيّ يوعاز هندل، وكلاهما انضما إلى قائمة غانتس من خلال التحالف مع يعالون، ويرفضان دولة فلسطينيّة والتنازل عن السيطرة الأمنيّة الإسرائيليّة في فلسطين التاريخيّة.
هذا طبعًا، بالإضافة إلى أن القائمة التي لا تزال قيد التركيب والإنشاء، والتي لا يزال غانتس في مراحل بنائها عبر تحالفات، من الممكن أن تضم أورلي ليفي- أبوكسيس التي أسست قائمة جديدة يمينيّة، بعد استقالتها من حزب "إسرائيل بيتنا" بزعامة أفيغدور ليبرمان، إثر خلافات على مُحاصصات برلمانيّة، دون أي خلاف سياسيّ أيديولوجيّ. ومن المتوقّع أيضًا انضمام غابي أشكنازيّ، رئيس هيئة الأركان الأسبق، المعروف بمواقفه اليمينيّة، وخلفيّته العسكريّة.
أمّا المهم وسيكون بمنزلة الكرت الرابح لخوض انتخابات في قوى مُتعادلة، بين "مناعة لإسرائيل" وحزب "الليكود" فإنّه سيكون انضمام حزب "يوجد مستقبل" بزعامة لابيد إلى مُعسكر واحد مع غانتس ويعالون، وهو ما تمنحه الاستطلاعات 31-34 مقعدًا، وهو تجاوز لليكود فعليًا. ولكن هذا التحالف لا يزال قيد البحث والمُفاوضات، حيث الخلاف الأساسيّ فيها، يتمحور حول من سيكون الرقم (1) في المُعسكر، غانتس أم لابيد.
خلال إطلاق حملته، وضع غانتس النقاط على الحروف في الحديث والصمت: اختار مُهاجمة الخُصوم ليس بسبب الجمود السياسيّ، ولا بسبب الاستيطان ولا اليمينيّة ولا التديّن، بل على العكس تمامًا، اختار التوجّه إلى خانة "النزاهة" الداخليّة الإسرائيليّة، مُهاجمًا الفساد والعلاقات مع رؤوس الأموال، والملكيّة والرفاهية التي يعيش فيها نتنياهو وعائلته، هذا بالإضافة إلى انتقاده الحاد لسياسات التفرقة الاجتماعيّة والساسيّة التي خلقها نتنياهو في السياسة الإسرائيليّة تحت عنوان "فرّق تسُد".
أمّا في الجانب الآخر، أي الجانب السياسيّ تجاه الفلسطينيّ، فاختار الذهاب إلى ذات السياسة التي ينتهجها نتنياهو: سيطرة أمنيّة على فلسطين التاريخيّة؛ تهديد قادة "حماس" بالاغتيال؛ مُساعدات إنسانيّة لقطاع غزّة دون حل سياسيّ؛ تهديد لإيران وقياداتها الروحيّة والعسكريّة؛ الحفاظ على الحدود مع الأردن كحزام أمنيّ؛ السلام الإقليميّ. أمّا ما سكت عنه عمليًا، فهو ليس سهوًا، بل مدروس بدقّة: فلسطين، بكُل ما تمثّله من حقوق وقضيّة وشعب ونضال.
هل ما زال الحديث عن استبدال حكومة اليمين ممكنًا؟
في هذا الواقع السياسيّ، الذي تعيشه وعلى ما يبدو ستستمر فيه السياسة الإسرائيليّة، تغدو مقولة "حكومة اليمين" أقرب إلى الخيار الوحيد من كونها الخيار المطروح. فلم يعد اليوم، إسرائيليًا، وبالنسبة إلى الفلسطينيّ إلّا "حكومة اليمين". فتتبدّل الشخصيّات والخلفيّات والخطابات الاجتماعيّة أمام واحد ثابت: يمين سياسيّ. وهو أيضًا ما يعيه غانتس نفسه حين قال في خطابه "لا يمين ولا يسار". وهو كذلك فعلًا، لا يمين ولا يسار في خارطة سياسيّة تعتمد الإبادة التدريجيّة كثابت سياسيّ- استعماريّ. والمُثير للاهتمام أكثر، أنّه وفي وسط مُعسكر كامل، مشكّل من حزب "العمل" و"يوجد مستقبل" و"ميرتس" و"جيشر- أورلي ليفي أبوكسيس"، يشكّل غانتس المرشّح الأكثر حظوظًا لمُنافسة نتنياهو على رئاسة الحكومة. وجاء هذا بوضوح في استطلاع الرأي الأخير، الذي جاء بعد الخطاب، والذي يتساوى مع نتنياهو في المنافسة على رئاسة الحكومة، إذ حصل كُل منهما على 42% من الدعم. وهو ما يجعل، السؤال حول "بديل اليمين"، وهو الخطاب الذي تبنّته الأحزاب الفلسطينيّة المُشاركة في الانتخابات البرلمانيّة الإسرائيليّة، وتحديدًا القائمة المشتركة في الأراضيّ المُحتلة العام 1948، شرعيًا ومنطقيًا جدًا، في ظرف بات لا يوجد فيه سياسيًا إلّا اليمين.
إن البديل المطروح لم يترك، بحسب كافة المحللّين السياسيين الإسرائيليين، أي فرصة لنتنياهو بوصمه بالـ"يساريّة"، بعد أن جاء إلى جانبه مصطفًا يمينًا ومتفقًا كليًا مع نتنياهو والليكود، في رؤيته لحل الصراع الفلسطينيّ- الإسرائيليّ، ومُحافظته على المشروع الاستيطانيّ في القدس والضفّة الغربيّة.