الهزائم التي تُمنى بها الأحزاب اليسارية والاشتراكية الأوروبية، تدفع للتساؤل مرة أخرى عن درجة عمق الأزمة التي تعانيها هذه الأحزاب سياسياً وتنظيمياً، والجفاف الذي أصاب افكارها وعلاقتها مع الناس، بعد أن فقدت توهجها ونفوذها في عصرها الذهبي خلال الستينيات حتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وتستوجب التوقف أمام أوضاع اليسار بصورة عامة في عصر تصاعد القوى اليمينية واتساع رقعة الأفكار العنصرية المتطرفة في أوروبا.
في عصر غابت عن المشهد الشخصيات اليسارية التي تتمتع بالحضور والمهارة والبلاغة، والمقدرة على خوض المعارك السياسية. بل إن بعض قادة اليسار الأوروبي أصبح يتبنى بعض الأفكار والمواقف اليمينية التي كان يحاربها في الأمس القريب. في وقت تفرض فيه الأحزاب والجماعات اليمينية هيمنتها على المشهد السياسي والانتخابي في مختلف بقاع القارة الأوروبية، ويسعون لترويض الناخب بواسطة القوة الناعمة وإحضاره إلى صناديق الاقتراع.
أدرك هذا اليمين الأوروبي مبكراً طبيعة التحولات والتغيرات التي تحصل في المجتمعات، وأن سمة العصر هي الاستهلاك والفردية واندثار القيم التضامنية بين البشر، عصر الثورة الرقمية والتطور الهائل في وسائل الاتصال، والشركات العملاقة، والمؤسسات الإعلامية المرعبة. مجتمع فيه كل واحد يسعى للحفاظ على مصالحه الخاصة.
أمام جميع هذه التحولات السريعة والكبيرة وشديدة التأثير والمتواصلة، فقدت ليس فقط الأحزاب اليسارية والاشتراكية الأوروبية البوصلة، بل يشمل هذا التحليل اليسار العربي وأحزابه وجماعاته، الذين يلهثون خلف تسارع الأحداث، بحثاً عن الحقائق في السراب والأوهام التي تسببها الأيديولوجيا والأفكار التي لم تتجدد، والمفاهيم والمعايير التي لا تصلح للعصر الحالي، وحالهم كحال المستجير من الرمضاء بالنار، وهو ما يعلل هزائمهم المتكررة.
الأسئلة الحرجة
يسعى هذا المقال إلى طرح الأسئلة النظرية حول مفاهيم اليسار العربي والأوروبي، وعلاقته بالحرية، وكيف يكون المرء يسارياً في الزمن المعاصر؟ وهل هناك يسار تحرري ويسار ستاليني جائر؟ ما هي علاقة اليسار بالحرية؟ هل يستطيع اليسار في الوقت الراهن تغيير الواقع، وتقديم أجوبة على أسئلة الجماهير؟
لا أدعي امتلاك الحقيقة، لكنني أتمنى أن أساهم في فتح النوافذ المغلقة، في محاولة تلمس صياغة الأسئلة الحرجة المركبة، وهي مهمة صعبة وشاقة. قد لا يتفق معي بعض اليساريين، لكن رهاني أن يجدوا ما يدفعهم للقراءة والتفكير والنقد والتفاعل والحوار، وهذا غاية ما أسعى إليه هنا.
عوضاً عن إجراء المقاربات والمراجعات الفكرية والسياسية الحقيقية لتجربتهم الشيوعية ودورهم وواقعهم الراهن، ينبري غالبية اليساريين العرب للرد المتشنج غير الموضوعي، على أي نقد لهم ويكيلون الاتهامات المرتبطة بالانحرافات الفكرية والتروتسكية، ومحاباة الرأسمالية الغربية.
ليست لدى هؤلاء رغبة في التوقف ورؤية ما يجري في الكون من تحولات غيرت الكثير في ملامح هذا العالم على كافة المستويات. كل ما يفعلونه هو خطاب تبريري قاصر عن ملاحظة أن لا أحد سواهم ما زال يطالب بتحقيق الاشتراكية بمفهومها الماركسي، ولا أحد غيرهم يرغب في القضاء على الامبريالية المتوحشة عبر إقامة "ديكتاتورية البروليتاريا" التي لم تعد موجودة الا في الكتب الحمراء.
الامتحان الشاق
طويت صفحة الحرب العالمية الثانية العام 1945 بانتصار الولايات المتحدة الأميركية التي بسطت نفوذها على دول غرب أوروبا، فيما سيطرت روسيا الستالينية على أوروبا الشرقية. وانتصرت الثورة الصينية العام 1949، وتبلورت القوى اليسارية في أوروبا الغربية وانتعشت بفعل إسهامها في مقاومة النازية والفاشية، وتأثرت بهذه التطورات حركات التحرر الوطني في الدول النامية، التي تحالفت فيما بعد مع الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي لتحقيق استقلالها السياسي.
استمرت التجربة الماركسية بوجود الاتحاد السوفييتي ومنظومة المعسكر الشرقي الذي ضم دول شرق أوروبا لغاية العام 1991، ثم جاءت مرحلة الانهيار السريع والتفكك إلى دويلات انفصلت عن الاتحاد، وبذلك انتهت مرحلة الحرب الباردة مع الولايات المتحدة والغرب.
إن كانت مادية ماركس التاريخية تقوم على صراع النقيضين الذي يؤسس لتقدم التاريخ، هي مادية صحيحة، فإن نهاية الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية، وانتصار الديمقراطية الليبرالية وهزيمة المشروع الماركسي، يعني أننا في مرحلة نهاية التاريخ، ونهاية صراع الطبقات، وأن المرحلة المقبلة سوف تكون صراع الثقافات كما يذكر منظر صراع الحضارات المفكر الأميركي "صامويل هنتغتون".
أم أن نظرية ماركس الاقتصادية صمدت بعد أفول شمس الاشتراكية، وهو الذي اعتبر أن السوق الرأسمالية لا تضبط نفسها تلقائيًّا، بل تُنتج بفعل تناقضاتها الداخلية أزمات دورية تؤدي إلى انهيارها. فهل هذا ما حصل في الأزمة الاقتصادية المالية العام 2008؟
حسناً، ماذا لو أجرينا مقاربة بين ما يجري في العالم العربي في هذه المرحلة، من تناقضات وتناحر وصراعات بين الجماهير والأنظمة، بين شرائح وطبقات اجتماعية فيما بينها، وبين ما جرى في الحالة الأوروبية خلال فترة تحولها من الإقطاع الزراعي نحو الثورة الصناعية، فماذا ستكون نتيجة هذه المقاربة، وإلى أية استخلاصات تصل بنا؟ إن اتبعنا المنهج الماركسي والذي يعتبره الشيوعيون الصيغة الأرقى في دراسة التحولات الثورية، فإن حالة الصراع بين نقيضين واضحة جلية في الحالة العربية. إذاً ما الذي يفسر وقوف معظم الشيوعيين واليساريين العرب في وجه الجماهير، وانحيازهم للأنظمة. ألا يعني هذا أنهم يقفون في وجه التطور؟
هل كان ماركس المفكر والفيلسوف والثوري مخطئاً في نظرية المادية التاريخية التي تقوم على صراع بين نقيضين، وهو ما يؤدي إلى تطور وتقدم التاريخ، أم أن معظم اليساريين العرب الفاشلين العاجزين اختاروا أن يكونوا خارج التاريخ؟
الأزمة المبكرة
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عمد ستالين إلى ترسيخ نظام قيصري أبوي قمعي يرتكز على الولاء الشخصي وعبادة الفرد في روسيا المنهكة من الحرب. وأدى انتصار الجيش الأحمر في دول وسط وشرق أوروبا إلى تعزيز سلطة الشيوعيين. وأدت عمليات التطهير التي جرت وطالت الأحزاب غير الشيوعية إلى اضطرابات كبيرة، ظهرت بداية في برلين العام 1953، ثم في بولندا العام 1956 وتمت معالجتها بصورة سلمية. ثم في نفس العام واجهت موسكو تحدياً تمثل في الثورة المجرية، حيث تم تشكيل مجالس عمالية مستقلة عن سيطرة روسيا بعد إضرابات عامة واحتجاجات شهدتها المدن المجرية، لكن موسكو تعاملت مع هذه الأزمة بطريقة مختلفة، حيث تم قمع وسحق الانتفاضة بالقوة العسكرية والاعتقالات والإعدامات.
أدت هذه الأحداث إلى انشقاق مثقفين شيوعين في أوروبا عن أحزابهم وعن توقف عدد من الأحزاب الشيوعية في العالم أمام هذا الحدث، نتيجة خسارتهم لبعض عضويتهم، لكن اليساريين العرب كان الولاء لديهم ضريراَ بحيث لم يتوقفوا عند هذه الأحداث. ولم تستوقفهم جرائم ستالين التي جرى نقاشها في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي العام 1956 أي بعد ثلاث سنوات على وفاة ستالين، حين ندّد "نيكيتا خروتشوف" الأمين العام للحزب بعبادة شخصية ستالين، وأساليبه الديكتاتورية التي جعلت منه طاغوتاً، حيث أقدم على إعدام ونفي مئات الآلاف من معارضيه، وتم الإعلان عن القطيعة مع الستالينية، لكن مع ذلك استمر الشيوعيون العرب في دفاعهم عن مواقف وأفكار ستالين.
ولم يتغير الوضع نسبياً إلا مع اشتداد الصراع الناعم السوفيتي الصيني في ستينيات القرن العشرين، لا سيما خلال المرحلة التي قادها كل من "نيكيتا خروتشوف" في روسيا و"ماو تسي تونغ" في الصين، حيث انتهت الأحادية القطبية، والمرجعية النظرية للحركة الشيوعية العالمية، وصار بالإمكان فتح أبواب السجالات والنقاشات والحوارات الفلسفية والنظرية فيما يتعلق بالفكر الشيوعي برمته، داخل الأحزاب الشيوعية أو فيما بينها. وهو ما أسهم في انتعاش الفكر الماركسي النقدي الغربي، الذي تحرر من سطوة الأحزاب الشيوعية وخطابها الحجري.
ظهور ماريشال البيروقراطية
تم عزل خروتشوف عن زعامة الحزب الشيوعي السوفيتي ورئاسة الدولة في واحد من تجليات الأزمة الداخلية المتصاعدة التي كان يعيشها الحزب، وصعد ماريشال الاتحاد السوفيتي البيروقراطي "ليونيد بريجنيف" لقيادة الحزب.
كانت أزمة الحزب الشيوعي السوفيتي واضحة، ومع ذلك استمر اليساريون العرب في التنظير الذي يفيد أن الاتحاد السوفيتي كان حينذاك في مرحلة الانتقال من طور الاشتراكية إلى الشيوعية!. ولم يكن أحد غيرهم يعتقد ذلك حتى أعضاء الحزب الشيوعي السوفيتي. كما واصل اليسار العربي نشر النظرية البائسة حول مقدرة الدول النامية – ومن ضمنها الدول العربية- على التطور غير الرأسمالي، بواسطة دعم البرجوازية الصغيرة الراديكالية، وهي غالباً تعني دعم الانقلابات العسكرية في العالم العربي.
لقد قضى قيام جيوش حلف وارسو بسحق انتفاضة براغ العام 1968، على كل أمل للإصلاح داخل الحزب الشيوعي السوفييتي وداخل مؤسسات الدولة، وأدى هذا الفعل إلى اعتراضات من عدة أحزاب شيوعية أوروبية، لكن الولاء المطلق لموسكو أبداه اليساريون العرب وأحزابهم، وبعض القوى الشيوعية في دول العالم النامي. وما زال للآن الكثير من غلاة اليساريين العرب يعتبر أن أي نقد للأرثوذكسية السوفييتية يعود إلى واحدة من اثنتين، إما مؤامرة امبريالية، وان صدقت النوايا فهو مرض المراهقة اليسارية. حتى الثورة الثقافية في الصين نظر لها اليساريون العرب على أنها إجراء وقائي من خطر الرأسمالية. ومن المفارقات أن صعود "دنغ هسياو بينغ" بعد وفاة ماو تسي تونغ في العام 1978 شكل انعطافا حاسما في توجه الصين نحو الرأسمالية في ثمانينيات القرن الماضي، وهي التي جعلت الصين على ماهي عليه الآن.
ومع كل التطورات وتصاعد الأزمات الداخلية في الحركة الشيوعية العالمية في السبعينيات، لم يرغب أحد في التوقف والتقييم. لقد كان معظم الأحزاب الشيوعية العربية مصابا بعمى عقائدي حال دون أن تدرك أن ميزان القوى العالمي يشير إلى انحسار الأيديولوجية الماركسية وتحولها من كونها أداة التغيير الثوري، إلى حالة من البيروقراطية وعبادة الفرد الزعيم منذ منتصف السبعينيات.
وحين انهار جدار برلين العام 1989 وسقطت الأنظمة الاشتراكية، تسابقت شعوب دول أوروبا الشرقية التي كانت تحكمها أنظمة يسارية، إلى تبني الرأسمالية والاستمتاع ببعض منافعها، واقتنعت شعوب أوروبا الغربية أن النظام الرأسمالي مهما كان سيئاً فهو أفضل من جنة الاشتراكية.
----------------------------------
*كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك