أشرت في المقال السابق الى استثمار مقاومة المنظمة وفصائلها إبان مرحلة الصعود في القضية الوطنية والمشروع الوطني وأهدافه التحررية، وإلى تثبيت نخبة سياسية بيروقراطية مستدامة بصيغة تنظيم حاكم (فتح) يستحوذ على القرار السياسي في إطار التعدد السياسي ويعتمد نظام «الكوتا « المحاصصة في سيطرته وتحكمه بالقرار، ولم تتمكن التنظيمات الأخرى في إطار م.ت.ف من زحزحة ميزان القوى وتغيير المعادلة، بسبب نظام المحاصصة (الكوتا) الذي استند في البداية الى ميزان قوى فعلي لكنه كَفّ عن ذلك بعد حظر وتوقف الكفاح المسلح عبر الخارج. وقد دخلت المنظمة بجميع فصائلها في مأزق عندما اعتمدت دولة الاحتلال ميزان القوى كعنصر مقرر في الموافقة أوعدم الموافقة على الحلول السياسية، مستخدمة شعار حل الصراع بالمفاوضات والطرق السلمية كأسلوب وحيد من جهة، واستخدام القوة والتفوق العسكري الحاسم في فرض الحلول كما حدث في كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة من الجهة الاخرى. وبعد رفض الاملاءات الاسرائيلية في مفاوضات كامب ديفيد 2000 لجأ الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات الى الانتفاضة السلمية التي سرعان ما تحولت الى انتفاضة مسلحة. وعندما حاول عرفات الحصول على سلاح (باخرة كارين ا ) قامت دولة الاحتلال بسحب الاعتراف منه واعتباره غير ذي صلة رغم حصوله على جائزة نوبل للسلام. غير ان استهداف المدنيين الإسرائيليين عبر سلسلة من التفجيرات التي قامت بها حركة حماس وشاركت فيها تنظيمات أخرى كان الخطأ القاتل الذي وظفته إسرائيل في تحويل المقاومة الى إرهاب.
مقاومة حزب الله ذات الطابع الديني والمذهبي حققت إنجازا كبيرا بدحر الاحتلال الإسرائيلي عن الجنوب اللبناني. لكنها اعتمدت التثبيت على تلك المرحلة وكأن الاحتلال لا يزال موجوداً، ولم تنتقل الى مهمة إصلاح النظام الطائفي داخليا، بل قامت بتكريسه ومفاقمته، ونقلت دور المقاومة إلى مهمات إقليمية في خدمة النفوذ الإيراني، ما جعلها تفقد مضمونها التحرري.
مقاومة حركة «حماس» التي تنتمي الى المقاومة الاسلامية، حملت معها إرث تنظيم الاخوان المسلمين الذي استنكف عن مقاومة الاحتلال وتعايش معه وحصل على «شرعية» النشاط الدعوي والاجتماعي والتعليمي لمدة عقدين من الزمن. حملت حركة حماس هذا الارث الثقيل لكنها لم تلتفت الى إرث الكفاح المسلح الفلسطيني، من زاوية الاخذ بمكتسباته ونجاحاته وتجاوز عثراته وأخطائه. بالعكس، أخذت ببعض أخطائه السلبية كاستهداف المدنيين الاسرائيليين بشكل قصدي. واعتمدت استراتيجية بديلة لاستراتيجية المنظمة، اتسمت بطابع أيديولوجي ولم تطرح مهمات ملموسة قابلة للتحقيق. لم تميز بين النضال ضد احتلال 67 الذي يكتسب شرعية دولية، والتفجير داخل مناطق الـ 48 ضد مدنيين الذي يعتبر عملا إرهابيا استنادا للقانون الدولي. القضية الإشكالية الأخرى استخدام المقاومة لإفشال الحل السياسي الذي تبنته المنظمة (اتفاق أوسلو) ليس لمصلحة حل افضل يلبي هدف التحرر الوطني، وانما لصالح مبادئ وأيديولوجيا عمومية خدمت معسكر اليمين الإسرائيلي الذي يتبنى أرض إسرائيل الكاملة. كانت حركة حماس تستطيع تحويل الاحتلال غير المشروع في مناطق 67 إلى قضية خاسرة، وليس تحويل الحل السياسي الى قضية خاسرة. وعندما فعلت ذلك بمشاركة قوى أخرى في قطاع غزة، فَصَلَت الانجاز الهام عن قضية الخلاص من الاحتلال في المناطق الاخرى وعن التحرر وتقرير المصير كهدف مركزي، وعن وحدة الشعب الوطنية، وحرصت على الانفراد بالسيطرة على قطاع غزة بصيغة حكم مطلق أمس بالتعدد السياسي والثقافي التاريخي، وأطاح بالحريات العامة والفردية وبالديمقراطية السياسية والاجتماعية النسبية التي بلغت ذروتها بالانقلاب العسكري، وحولت القطاع الى مركز للتنظيم الدولي للاخوان. وكل ذلك باستخدام سلاح المقاومة. يلاحظ ان احتلال غزة لم ينته بل تحول الى احتلال عن بعد، أكثر سوءاً وكلفة للشعب من الاحتلال المباشر، حيث قلبت دولة الاحتلال المعادلة رأساً على عقب، من تحويل الاحتلال الى قضية خاسرة الى تحويل الخلاص من الاحتلال الى قضية خاسرة، وهذا يعود ليس فقط لدور الاحتلال وتفننه في محاربة شعب أعزل وانما يعود الى شكل المقاومة واستخداماتها أيضا.
عسكرت «حماس» المقاومة ونقلتها الى المواجهة مع جيش الاحتلال، وكأنها جيش مقابل جيش. وفي ظل عدم التكافؤ والخلل الفادح بين القوتين، دفع الشعب في القطاع ثمناً باهظاً للمواجهة سواء بعدد الخسائر البشرية الكبيرة او بالخسائر المادية الضخمة، حيث كانت دولة الاحتلال تدمر البنية التحتية في القطاع في كل مرة، وتحظر إعادة البناء إلا بشروط مذلة ومحدودة. ولم تتوقف مقاومة حماس عند ضرورة حماية المدنيين الفلسطينيين سواء باختيار الأسلوب كالمواجهة الذي تحول الى عبء على الشعب، او بعدم اللجوء الى بناء ملاجئ آمنة على الأقل للأطفال والمسنين، بالعكس كانت تستخدم المجازر والمعاناة في إدانة الاحتلال - وهو يستحق الإدانة على جرائمه البشعة- ولتبرير وجودها في موقع المدافع عن الشعب، ولكن بدون دفاع. فالرد المقاوم على الجرائم في الحروب الثلاث، لم يلحق بالمعتدين أية خسائر تذكر. وكان ميزان الخسارة والربح مختلا بمستوى كبير للغاية. ما هو المقابل إذاً؟ هل إدانة دولة الاحتلال على جرائمها يكفي، وهي الدولة التي لا تكترث بالادانة في ظل الغطاء الأميركي الذي يسمح لها بالإفلات من التحقيق، حيث نجحت في وقف التعاطي مع «تقرير غولدستون» الذي وثَّق الجرائم الإسرائيلية. حتى هذا التقرير يتضمن إدانة لحركة حماس جراء قصفها لأماكن مدنية إسرائيلية. وإذا كانت إدانة إسرائيل لا قيمة لها بثمن كبير -خسائر فلسطينية فادحة- فماذا تريد حماس من المواجهة؟ لا يبقى غير تعزيز سيطرتها الداخلية والحفاظ على تحويل القطاع الى مركز للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين. وقد ثبت ذلك أثناء عملية صعود تنظيم الأخوان المسلمين الى السلطة في مصر، فكان التعاون بين الطرفين سيد الموقف، كما تشير قضايا التحقيق في ملف الإخوان لدى السلطات المصرية.
بعد سقوط حكم الإخوان في مصر وتضعضع التنظيم في بلدان أخرى، عاشت حركة حماس حصارا خانقا ترافق مع أزمات طاحنة على صعيد مالي وبخاصة بعد إغلاق الأغلبية الساحقة من أنفاق التهريب. حاولت حركة حماس في البداية تحويل الأعباء للسلطة مقابل الاحتفاظ بسيطرتها على القطاع. وعندما فشلت في ذلك، لجأت الى مسيرات العودة، وحرصت على التصادم مع الاحتلال بدون حرب مدمرة. كان تفادي حرب على غرار الحروب السابقة أمراً إيجابياً، لمصلحة أبناء قطاع غزة. لكن حماس حرصت على مستوى من الصدام والتهديد بتصعيده، وما يعنيه ذلك من خسائر بشرية فلسطينية تربك إسرائيل، وبخاصة لجهة قتل مدنيين غير مسلحين بينهم أطفال وفتية. من جهة أخرى برعت حركة حماس في استخدام الطائرات الورقية والبلالين لإشعال الحرائق وتنكيد حياة الإسرائيليين في غلاف غزة. هنا بدأت المساومة هدوء وضبط الانفجار مقابل أموال وتحسين شروط الحياة. غير ان المساومة ذهبت الى أبعد من ذلك عندما طرح التسليم بحكم حماس مقابل الهدوء وفصل قطاع غزة كحلقة من صفقة ترامب. وهنا تبدو الخاتمة المأساوية لاستخدام سلاح المقاومة التي لا تسر صديقاً ولا تغيظ عدواً.
mohanned_t@yahoo.com