لا يختلف اثنان على ان احدى اهم بديهيات التفكير الجيوسياسي هو القدرة العميقة على الاستشراف ورؤية ما بعد حدود الجغرافيا والواقع القائم حيث تلعب قواعد الزمن والتاريخ دورا حاسما في التغيرات الاساسية لمحتوى السياسة والاوطان وسلوكيات الشعوب وقيادتها.
ولا احد يستطيع ان ينكر على دولة الامارات العربية المتحدة انطلاقها من بوتقة الدولة القطرية الى لعب دور كبير في تشكيل المنطقة وانعطافاتها الحادة وخاصة في ظل تشابك المصالح وتقاطعاتها المخيفة وتحولات الجغرافيا والسياسة المتزايدة السرعة في المنطقة العربية.
التحرك الاماراتي في المنطقة العربية له اسس معقولة وعادلة في ظل انعطافات حادة ومتعددة الاطراف هددت الكينونة العربية فيما بات يعرف في حينه بالربيع العربي وقدرة اطراف اقليمية كبرى على استغلال الحدث " ايران،تركيا،اسرائيل" كل حسب مصالحه السياسية والاقتصادية وحتى العرقية والدينية .
في ازمة الوجود العربي وفي ظل تلمس ملامح الاندثار القادمة ورياحها التسومانية المتسربلة بالدين والمصالح والغرائز، يصبح من المعقول ان نتفهم الدور الاماراتي الذي يتجاوز حدود الدولة ويتطلع بعيون شاخصة فاحصة الى ما يحدث في اليمن والعراق وفلسطين وسوريا وليبيا وغيرها من الاماكن المشتعلة اقليميا.
كاتب هذا المقال لا يعرف :محمد بن زايد" وليس بضليع في شئون الخليج والامارات ولكن "وضع التحرك الاماراتي والرؤية الاستراتيجية لتحركه الاقليمي" على مشرحة التحليل يعطينا اشارات واضحة على ان من يقود تلك الدولة يملك تصورا واضحا عمليا لاوضاع المنطقة والتغيرات القادمة وما الواجب فعله هنا او هناك.
ولكي لا نغوض كثيرا في تفاصيل الموقف الاماراتي من مختلف القضايا الاقليمية، يصبح من الواجب النظر بعناية فائقة الى هذا الموقف من الازمة السورية وتجلياتها الاقليمة والدولية وماّلات الاحداث اليومية المتلاحقة والتي تؤثر على مستقبل المنطقة وتحالفاتها المختلفة.
ومن المفيد ايضا التطرق الى ما قاله الوزير الاماراتي للشئون الخارجية انور قرقاش "بان قرار الامارات بعودة عملها السياسي والدبلوماسي في دمشق يأتي بعد قراءة متأنية للتطورات؛ ووليد قناعة بأن المرحلة القادمة تتطلب الحضور والتواصل العربي مع الملف السوري؛ حرصا على سوريا وشعبها وسيادتها ووحدة أراضيها".
وأضاف قرقاش أن "الدور العربي في سوريا أصبح أكثر ضرورة تجاه التغوّل الإقليمي الإيراني والتركي" وسعى الإمارات اليوم عبر حضورها في دمشق إلى تفعيل هذا الدور وأن تكون الخيارات العربية حاضرة و أن تساهم إيجابا تجاه إنهاء ملف الحرب وتعزيز فرص السلام والاستقرار للشعب السوري".
من الواضح هنا ان الامارات بهذا القرار قامت بالتقاط لحظة تاريخية حاسمة ضمن رؤية شمولية للمتغير القادم وتعزيزا للدور العربي الاقليمي في واحدة من اهم مفاتيح المنطقة وبوابة الشرق والتاريخ العربي والاسلامي معتمدة في ذلك على حس عروبي وقومي ومراهن على اهمية "دمشق العربية".
القرار الاماراتي بعودة العمل السياسي والديبلوماسي في دمشق احدث خلخلة وحالة من الارتباك لدى العديد من الدول الاقليمية واصاب بعضها بالحيرة والبعض الاخر بالذهول وشكل في راي الكثيرين حاضنة عربية قوية واعدة بحث عنها النظام في سوريا طوال فترة الازمة التي اضطرته الى البحث عن مسارات بديلة تضمن له البقاء والصمود.
ومن الواجب قسرا ايضا العودة الى سنين الازمة والحرب السورية الاهلية الطاحنة للتذكير بان "ابو ظبي" كانت دائما حريصة على عروبة سوريا وبقائها ضمن المحور العربي ولم تنجرف ولو للحظة واحدة رغم الحالة الهستيرية التي سادت منذ بداية الازمة والتي توحدث فيها قوى اقليمية دينية وعالمية وحتى اسرائيلية والتي صدحت في لحظة فارقة وبصوت واحد مطالبة بفناء سوريا وتقسيمها .
وقد يكون مفهوما او غير مفهوم لدى البعض سر هذا الخيط الرفيع الذي ربط العاصمتين "ابو ظبي ودمشق" في اشد مراحل الازمة حلكة وظلاما، وقد يكون من الصعب تفسير ما يحدث الان الا في اطار رؤية اماراتية استراتيجية انتظرت دمشق طويلا ترجمتها عمليا لما لها من تاثيرات كبيرة ومتراكمة وتفاعلية حتما سترى تجلياتها خلال اسابيع او شهور قادمة ، وذلك ايمانا من قبل الكثيرين بان الخطوة الاماراتية تصب في مصلحة الكينونة العربية والقومية وان من الواجب السير خلف الموقف الطليعي الاماراتي الذي شكل دافعا ونبراسا للعديد من الدول المترددة في تحركها صوب دمشق.
ومن الملفت ايضا التنبه الى احد اهم المفارقات السياسية وهي رفض دمشق الحالي لكل المساعي القطرية عبر بوابة ايران وحزب الله لاعادة العلاقات معها وتشكل حالة متأزمة من عدم الثقة مع الدوحة والتشكك الدائم في خطواتها تجاه العاصمة السورية حتى في ظل عروض سخية باعادة الاعمار والتي صاحبها ايماءات لوزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم حول ان الدوحة لم تكن ضد النظام بل ضد افعاله وهو تراجع استراتيجي في الموقف القطري والذي كان يرى في النظام عدوا للانسانية والاسلام ويجب تصفيته لما فيه خدمة الاقليم والربيع العربي.
وامام كل هذا لا يسعنا الا التذكير بما قاله رئيس الاستخبارات العسكرية السابق " اوري ساغي" في بداية الازمة السورية "بان العالم العربي سينتهي بعد سقوط سوريا " وقد يكون من الممكن ان نفهم في ظل هذه الفهم الاستخباري الاسرائيلي المؤسساتي العميق التحركات الاماراتية الاخيرة صوب دمشق والهادفة الى اعادة شرعنة الدولة وودورها القومي والعروبي.