من بديهيات القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة أن الاحتلال والاستعمار غير شرعي، والاستيطان ونقل سكان الدولة المستعمِرة إلى أراضٍ محتلة غير شرعي، ونهب الموارد وقمع السكان تحت الاحتلال غير شرعي. مقابل ذلك، فإن حق الشعوب في تقرير مصيرها والتحرر من الاحتلال والاستعمار والاستقلال حق مشروع، وحق الشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك المقاومة المسلحة، وفقاً لمقاصد ميثاق الأمم المتحدة، حق مشروع وقانوني. كل ذلك صدر في قرارات للجمعية العامة للأمم المتحدة بأكثرية ثلثي شعوب العالم كحد أدنى.
ما تقدّم يؤكد مشروعية المقاومة بمختلف أشكالها للاحتلال والاستعمار، لكنها مشروعية غير معترف بها من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي التي تتعامل مع أي مقاومة باعتبارها إرهاباً لا يخضع للقانون الدولي. ولا تعترف أيضاً بأن احتلالها للأرض الفلسطينية احتلال، ولا تعترف بلا مشروعية استيطانها استناداً لأيديولوجيا دينية. وفي الجهة الأخرى، فإن القانون الدولي يقرّ بحدود وبشرعية وجود إسرائيل قبل العام 67. وهذا يعني أن مشروعية المقاومة تنطبق فقد على الأراضي المحتلة عام 67، وكذلك يعتبر القانون الدولي أي استهداف للمدنيين الإسرائيليين عملاً إرهابياً. وهنا يبرز التباين في صفوف المقاومة حول الالتزام بتعريف القانون الدولي في قضيتي الأراضي – كل أو بعض – وفي كيفية التعامل مع المدنيين الإسرائيليين. التباين وضع منظمات وأفراداً في عداد قوى الإرهاب والإرهابيين، ليس من وجهة نظر دولة الاحتلال وحسب، بل ومن وجهة نظر دول أخرى. ما يمكن قوله هنا: إن أخطاء وتجاوزات فصائل منظمة التحرير للقانون الدولي والتي جرى تصويبها بناء على إعادة التقييم، وعلى نصائح دول وقوى صديقة، لم تدرجها في خانة الإرهاب وبقي نضالها مشروعاً ومعترفاً به عالمياً. كذلك أخفقت المحاولة الأخيرة لإدارة ترامب ودولة الاحتلال في اعتماد قرار من الجمعية العامة يعتبر حركة "حماس" منظمة إرهابية، على الرغم من الأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها، خاصة في مجال استهداف المدنيين الإسرائيليين. السبب يعود إلى لا مشروعية وعسف دولة الاحتلال. وواقع أن حركة "حماس" في موقع الشعب الذي يناضل من أجل الخلاص من الاحتلال، إضافة إلى وقفها للعمليات ضد المدنيين الإسرائيليين.
ما سبق يندرج تحت مسمى المبدأ والحق. وإذا انتقلنا إلى مستوى آخر من المعالجة، حول مدى نجاح المقاومة المسلحة في إنهاء الاحتلال بعد تحويله إلى قضية خاسرة. يمكن القول: إن ثورة ومقاومة منظمة التحرير وفصائلها عبر الخارج، لم تنجح في زحزحة الاحتلال العسكري بوصة واحدة، لكن مقاومتها للاحتلال نجحت في توحيد الشعب الفلسطيني وبلورة الهوية والكيانية الفلسطينية التي تعرضت للطمس والإدماج، ونجحت في تحقيق مكاسب سياسية، أهمها اعتراف أكثرية دول العالم بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، فضلاً عن انتزاع التمثيل الفلسطيني، وصولاً إلى الاعتراف بفلسطين كدولة تحت الاحتلال. مقابل عزل دولة الاحتلال وانحسار الاعتراف بها وبنفوذها على صعيد عالمي، ونجحت منظمة التحرير إبان صعودها في تحسين شروط المخيمات والجاليات الفلسطينية في الخارج، وفي بناء شبكة علاقات دولية وإقليمية داعمة لنضال الشعب الفلسطيني. وفي الوقت نفسه، تشكّلت مؤسسة دولانية بيروقراطية أضعفت من الإنجاز عوضاً عن تطويره. كما نرى استثمرت مقاومة المنظمة وفصائلها في القضية الوطنية والمشروع الوطني وأهدافه، دون إغفال أن مستوى الاستثمار اختلف إيجابياً من مرحلة لأخرى وشهد انحيازاً أكثر لمصالح النخبة البيروقراطية المتنفذة، ولمصالح حلفائها المتنفذين اقتصادياً.
مقابل ذلك، كيف كان حال المقاومة ذات الطابع الديني؟ نجح "حزب الله" في تحويل الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني إلى مشروع خاسر، ما دفع دولة الاحتلال إلى الانسحاب دون قيد أو شرط. ويمكن القول: إن المقاومة حققت هدفها المركزي المعلن. وكان من المفترض أن ينعكس دحر الاحتلال على الوضع الداخلي اللبناني، تحديداً على البنية الطائفية المستحوذة على كل مقدرات البلد وعلى المسألة الديمقراطية. لكن ذلك لم يحدث والسبب أن المقاومة ذات طابع مذهبي وقد منعت مشاركة القوى الوطنية واليسارية والقومية بشكل مستقل، باستثناء بعض المشاركات الرمزية. وكان هذا المنع لا يخلو من مغزى. لقد جرى التثبيت على مرحلة الاحتلال التي انتهت، دون الانتقال إلى المرحلة اللاحقة.. تحرر لبنان الداخلي ومن الطائفية أولاً. استمر الاستعداد للمواجهة مع احتلال منتهٍ عملياً. كان ذلك يعني استخدام سلاح المقاومة في السيطرة الداخلية من موقع طائفي، والأهم استخدام سلاح المقاومة في تعزيز النفوذ الإقليمي الإيراني وفي إزالة المخاطر التي تهدده، خاصة في مواجهة دولة تنتمي إلى غطرسة القوة وتعمل بكل طاقتها لإبقاء شعوب المنطقة ضمن السيطرة وعلاقات التبعية، وفي مواجهة تدخل سعودي ساهم تاريخياً في مفاقمة أزمات لبنان الداخلية. ولأن للمقاومة سحراً وقدسية وتستطيع جذب تأييد ودعم شعبي وتستطيع تجنيد نخب من كل الألوان لمجرد أنها ضد إسرائيل وعلى أهبة الاستعداد لتلقينها درساً إذا ما مارست العدوان، فقد استثمرت قيادتها، التي تملك أيضاً كريزما التأثير في المزاج والعواطف، بعملية التثبيت على مرحلة وكان الاحتلال لا يزال موجوداً، في الوقت الذي انتقلت فيه إلى مهمة إقليمية، ومن ضمن ذلك استخدام المقاومة ضد إسرائيل في حالة توجيه ضربة إسرائيلية لمواقع التصنيع النووي الإيراني، وفي الدفاع عن النظام السوري في مواجهة الانتفاضة السلمية – قبل أن تتحول إلى العسكرة - كجزء من المحور الإيراني الإقليمي. هذا التحول في دور واستخدام سلاح المقاومة وضع الشعب اللبناني واحتياجاته على الهامش.
مقاومة حركة "حماس" لا تختلف كثيراً عن النموذج اللبناني، فقد نجحت مقاومة "حماس" في قطاع غزة بتحويل الاحتلال الإسرائيلي واستيطانه إلى قضية خاسرة، ما أدى إلى انسحابه من القطاع، في الوقت الذي لم ينجح فيه اتفاق أوسلو والتفاوض اللاحق بسحب قوات الاحتلال من القطاع وتحول الاحتلال المباشر إلى احتلال "عن بعد" أكثر سوءاً ودون خسائر تذكر، في الوقت الذي يستطيع فيه تدمير ما تيسر من مرافق وبنى تحتية ومن فرض للحصار. وبدلاً من استثمار الإنجاز في طرح قضية الاحتلال لبقية الأراضي الفلسطينية إلى قضية خاسرة، انحسر اهتمام "حماس" في تثبيت سيطرتها على القطاع وفق نظام ازدواجية السلطة أولاً، ثم حسم الازدواجية بالقوة وتحويل سلطتها إلى سلطة عميقة غير قابلة للتراجع عبر التبادل السلمي، وتحويل قطاع غزة إلى مركز لـ"الإخوان المسلمين". واعتمدت إستراتيجية استهداف المدنيين في الانتفاضة الثانية، وكان من شأن ذلك دمج النضال الفلسطيني المشروع بالإرهاب، وتهديد الأمن الوجودي الفلسطيني، وتقويض السلطة ومؤسساتها وبنيتها، وحفز التدخلات الخارجية والإسرائيلية في الشأن الفلسطيني، بما في ذلك إعادة بناء أجهزة السلطة التي قوضتها إسرائيل.
للحديث بقية.
Mohanned_t@yahoo.com