عادت حركة حماس إلى المربع الأول من حالة الانقسام، الذي أحدثته قبل اثني عشر عاما بقوة السلاح، واحتفظت به طوال الوقت «منفصلا» وخارج إطار الشرعية، لأسطوانتها المشروخة، بالحديث عن أن الرئيس محمود عباس منته الصلاحية، كما قال يحيى العبادسة أحد قادتها، أو أنه مغتصب للسلطة، كما صرح عصام الدعليس، الذي وصفه الإعلام بالقيادي في حركة حماس، كذلك ردت على إعلان المحكمة الدستورية العليا بحل المجلس التشريعي الثاني، المتجاوز لفترته القانونية منذ ثمانية أعوام، والمعطل منذ أحد عشر عاما عن العمل، بعقد جلسة لكتلها البرلمانية في غزة، بالتزامن مع محاولة عقد رئيس المجلس المنحل عزيز الدويك مؤتمرا صحافيا بصفة لم تعد له.
وفي هذا السلوك غير المسؤول كل الخطر على القضية الفلسطينية من حيث إنه ينتقل بحالة الانقسام، إلى الإعلان الرسمي عن الانفصال، حيث لابد من أن يواجه ذلك لاحقا بإعلان نظام حكم حماس في غزة، تمردا رسميا، لا يعالج سوى بالقوة وبفرض السلطة الشرعية على نظام الانفصال.
كان الأجدى بـ»حماس» لو أنها تحلت بالقدر الكافي من المسؤولية الوطنية، أو بقدر من التريث والتعقل، بأن تتعاطى بشكل ايجابي مع الاستحقاق الدستوري والشعبي بإجراء الانتخابات العامة، لا أن تؤكد الصفة الملازمة أو الملتصقة عادة بالأحزاب والحركات والقوى السياسية الشمولية، وهي أنها تشارك في الانتخابات لمرة واحدة، لتسيطر على الحكم، ومن ثم تفرض نظام حكمها المستبد، حيث إنه وبعد مرور ثلاثة عشر عاما (مطلع العام 2019 يكون قد مر على اجراء انتخابات المجلس التشريعي الثاني 13 سنة بالتمام والكمال)، لم يقم نظام حكم حماس العسكري والمستبد في قطاع غزة بإجراء أي مظهر ديمقراطي/انتخابي، لا انتخاب بلديات، ولا مجالس طلبة، ولا نقابات مهنية أو عمالية، ولا حتى مؤتمرات فصائل، بما يؤكد كونها كما هو حال مثيلاتها من الحركات السياسية، مشروع نظام حكم مستبد بكل معنى الكلمة.
كان على حماس فور إعلان قرار المحكمة الدستورية أن تعلن احترامها للمحكمة ولقرارها، وأن تدخل في مناقشة التحضير لانتخابات عامة رئاسية وتشريعية، وأن تدفع بأن تكون تلك الانتخابات شاملة للمجلس الوطني الفلسطيني أيضا، ومدخلا مختصرا لإنهاء الانقسام وتوحيد الكل الوطني والجغرافي الفلسطيني، بما في ذلك تفاصيل النظام الانتخابي الأمثل، ومن ثم تشكيل القوائم وإقامة التحالفات الانتخابية.
لكن حماس التي تأخرت أكثر من عقدين من السنين (منذ عام 65 - 67 حتى عام 87 -88) عن اللحاق بركب العمل الوطني، وبالثورة الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية والكفاح الوطني ضد الاحتلال الإسرائيلي، ما زالت متأخرة في برنامجها وسياساتها، والسبب يعود بكل بساطة، إلى أنها تدخل في مسار موازٍ للمسار الوطني الذي انطلق منذ العام 65 وتعمق حتى صار مسارا للكل الوطني، منذ العام 67، وهذا يمكن ملاحظته بكل وضوح، في سياسات حماس التالية لما بعد دخولها معترك السلطة، عبر المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي الثاني العام 2006.
إن حماس التي تسيّر «مسيرة العودة» منذ آذار الماضي، وقبل ذلك عبر محاولات كسر الحصار بالاعتماد على الحلفاء الإقليميين (تركيا وقطر حصرا)، متجنبة الممر الذي يفضي لذلك من خلال المصالحة وإنهاء الانقسام، تسعى إلى تكرار أوسلو الخاص بها، إن كان ذلك من خلال تفاهمات التهدئة، أو الرغبة المحمومة بفتح أبواب الحوار والتفاوض مع الغرب، أوروبا أولا، وأميركا ثانيا، ومن ثم إسرائيل ثالثا، تتجاهل تجربة (م ت ف) وما تحقق خلال عقود على هذا الصعيد، بما في ذلك المحطة الفارقة وهي أوسلو التي جاءت كثمرة مباشرة لانتفاضة 87.
وبصرف النظر عن مآل أوسلو حيث لن يكون مآل تفاهمات واتفاقيات الهدنة أو اتفاقيات السلام أو الاعتراف المتبادل بين حماس وإسرائيل أفضل حالا، فإن شق طريق الكفاح المنفصل الذي سارت عليه حماس منذ أن تأسست وحتى الآن، هو أحد الأسباب التي منعت أوسلو من التحقق وحجرت على تحول السلطة إلى دولة مستقلة.
لا يمكن لحماس في يوم من الأيام أن ترفض عرضا إسرائيليا بالاعتراف المتبادل بين «دولتي إسرائيل وغزة»، ولا يمكن لحماس التي تطالب ليل نهار إسرائيل الالتزام بما تم التفاهم حوله من تهدئة تحافظ على نظام حكمها في غزة مقابل أمن إسرائيل ومستوطنات غلاف غزة، أن ترفض التزام إسرائيل بجزرة توسيع نطاق الصيد في بحر غزة، ودخول السولار والدولار القطري، مقابل التزامها هي بعدم إزعاج مستوطني الغلاف !
لماذا إذا رفضت حماس أوسلو، وما هو جوهر خلافها مع السلطة، إن لم يكن سياسيا، وإن لم تكن حماس تتجاوز بشعاراتها برنامج السلطة والمنظمة، فإنه بالتأكيد الصراع على السلطة ولا شيء آخر.
في حقيقة الأمر أن حماس «أخلصت» خلال العقود الثلاثة الماضية لبرنامجها الذي يقابل برنامج (م ت ف) بإقامة دولة فلسطين المستقلة، ببرنامج إقامة دولة حماس الدينية في أي بقعة ممكنة، ومن هنا كان التوافق بين حماس واليمين الإسرائيلي، حيث عارض كلاهما (حماس والليكود) منذ العام 93 أوسلو، وأقاما تحالفا أو تفاهما لإسقاطه، ذلك أنه يجمعهما هدف مشترك، دون أي تفكير، وهو أنهما كلاهما عدو للدولة الفلسطينية المستقلة.
فيقينا لو أن الدولة الفلسطينية المستقلة قد قامت فعلا وحقيقة على شكل دولة علمانية، مدنية، يتعذر على حماس كحركة شمولية أن تسيطر عليها لحاربتها بعد إقامتها، تماما كما فعل إخوان «حماس» من إخوان مصر والأردن وتونس وغيرها، والذين يحاربون كل الدول العربية التي نشأت كدول تحرر وطني (مصر وسورية - نماذج واضحة)، لذا فمن الطبيعي أن تحارب حماس مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة، فقط لأنه يفضي إلى دولة مدنية/علمانية خارج حدود سيطرتها المنظورة.